التصوف طريق لقبول الاختلاف

د. حورية الظل

قال جلال الدين الرومي: «تعال وكلمني ولا يهم من أنت، ولا إلى أي طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله»، إنها قولة تلخص أحد أهم الأسس التي قام عليها الفكر الصوفي، والمتمثلة في المحبة والتسامح وقبول الآخر المختلف مهما كانت ديانته أو انتماؤه أو لونه أو عرقه أو قناعاته. وبذلك يكون التصوف قد شكل حيزاً مشرقاً ومشعاً في الحضارة الإسلامية، رغم الصعوبات التي واجهها المتصوفة. إذن كيف استطاع هؤلاء، الحث على المحبة والتسامح وقبول الآخر وعدم الانغلاق على الذات؟ رغم أن تجربتهم روحية، وفكرهم تمت محاربته في الكثير من الأحيان، فوصل الأمر إلى درجة إعدام بعضهم كدليل على اللا تسامح الذي ساد في بعض الفترات الحالكة من التاريخ العربي والإسلامي، ولا زالت هذه الفترات تعاود الظهور في كل مرة كما هو الأمر اليوم، حيث تعالت نبرات العنف والفوضى، وساد التطرف والإرهاب الناتج عن اللا تسامح وعدم قبول الآخر، فأصبح التصوف مطلباً أساسياً لدعم السلام في العالم ولخلق التوازن الأخلاقي بين البشر.

قبول الآخر المختلف في الفكر الصوفي:

المختلف هو الآخر المغاير على المستوى العقدي أو الجغرافي، وقد يكون المغاير من العقيدة نفسها ومن المجتمع نفسه، والاختلاف موجود في كل المجتمعات وهو أمر إيجابي، لكن لما يكون هناك رفض لهذا الاختلاف، تبدأ المشاكل والصدامات والصراعات التي تتحول في الكثير من الأحيان إلى عنف دموي.

ويشكل عدم قبول الآخر المختلف، أزمة فادحة الأضرار في وقتنا الراهن، حيث تنامى اللاتسامح عبر العالم، ونتج ذلك عن التعصب والطائفية والانتصار للمقاربة الانعزالية مع إقصاء الآخر المختلف ونبذه واعتباره عدواً يجب محاربته وتدميره، فأصبح المتطرفون يشكلون تهديداً خطيراً، والدليل على ذلك ما يشهده العالم اليوم من حروب وأعمال إرهابية ضحاياها في الغالب أبرياء، حيث يتخذ المتطرفون من الاختلاف عن الآخر مبرراً للقيام بأعمالهم الإرهابية ضد المختلفين عنهم، خاصة غير الملتزمين بطريقتهم نفسها في الدين أو المذهب أو المظهر الخارجي، لأن المختلف قد يكون من الديانة نفسها أو من ديانة أخرى، وما تشهده بعض الدول العربية تأكيد على ذلك، وأيضاً ما يعانيه مسلمو الروهينغا في ميانمار دليل صارخ على اضطهاد الأقليات أينما وُجدوا، والتصوف بأبعاده الروحية يُعد رفضاً للفكر المتطرف والإقصائي والذي يتبنى اللا تسامح منهجاً له، فنبذ المتصوفة الانغلاق وانفتحوا على كل من اختلفوا معهم وشملوهم بتسامحهم ومحبتهم.

وقبول الآخر في الفكر الصوفي نوع من الاعتراف بالأنا والآخر في  الوقت نفسه، وتجلى هذا القبول من خلال انفتاح المتصوفة وعدم عزل أنفسهم عن الديانات والثقافات الأخرى، كالثقافة الهندية والفارسية والفكر اليوناني، كدليل على التلاقي والاحتكاك وتبادل التأثير والتأثر مع هذه الثقافات والديانات وكعربون ترحيب بالآخر المختلف، فمثلاً نجد المعجم الذي يوظفه المتصوفة يؤكد انفتاحهم على غير المسلمين، ولقاءاتهم لم تنقطع مع أصحاب الديانات الأخرى السابقة للإسلام، فلم يتوانوا عن الاستشهاد بنصوص مأخوذة من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، فالحلاّج مثلاً، استعمل بعض المصطلحات التي استمدها من المسيحية، كاللاهوت والناسوت وغيرها، كما أخذوا من الثقافات القديمة ما يلائم تجربتهم، ويعد البيروني أول من قال بأخذ متصوفة الإسلام عن حكماء الهند بعضاً من حكمتهم وفلسفتهم وعقائدهم الروحية ذات النفس الإشراقي الصوفي، كالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، وقد تبناها المتصوفة المسلمون لأنها توافق سلوكهم ومجاهداتهم، وتعبر عن مكانة الإنسان السامية في الكون، وحسب الباحث التونسي صابر سويسي: «لم تقتصر صلة الصوفية بالآخر المسيحي أو اليهودي أو الهندي على مجرد التناظر والتحاور والدعوة إلى المذهب أو العقيدة، إنما اعتبر هذا الآخر أحياناً مرجعاً وسنداً في إرساء قواعد التجربة الصوفية، سواء كان ذلك عبر الاستفادة من نصوصه المقدسة، أو من خلال الاستئناس بسلوكه وطقوس تعبده أو تصوراته للوجود والخلق والصلة بالله». وبذلك، يكون المتصوفة المسلمون قد قاموا بردم الفجوة بينهم وبين من خالفهم، وجعلوا من مبدأ الانفتاح على الآخر وقبوله أحد أهم أسس فكرهم، لذلك استحقوا لقب أهل المحبة.

وما يحسب للتصوف، أنه مصدر أصيل لقبول الاختلاف، ويذهب ولتر ستيس، صاحب كتاب «التصوف والفلسفة»، إلى اعتباره، المصدر الوحيد الذي يفيض منه الحب إلى العالم، وكل فرد حسب ولتر ستيس دائماً، يملك تلك النزعة الصوفية في أعماقه دون أن ينتبه إلى ذلك، فقط هناك الحاجة لإشعال تلك الجذوة الكامنة في أعماق البشر جميعاً، وهي مطمورة في اللاشعور، وإن تم الاعتناء بها تتوهج ليفيض نورها حباً وتسامحاً على الآخرين، سواء كانوا مشابهين للفرد ومن نفس مجموعته، أو مختلفين عنه.

المحبة والتسامح سبيلان سالكان لقبول الاختلاف:
قال بأنه لا تسامح من دون اختلاف، وبما أن الاختلاف موجود منذ بداية الخلق، فقد أصبح من الإشكالات التي أرْخت بظلالها القاتمة على واقعنا الراهن، حيث تنامى اللاتسامح والكراهية والتعصب ورفض الآخر المختلف وعدم قبوله وإقصائه وتعنيفه مادياً ورمزياً، كما سبق ورأينا، ولتفادي استشراء ذلك، والحد من الخسائر الناتجة عن اللاتسامح الذي أدت ثمنه الشعوب العربية والإسلامية وحتى الغرب نال نصيبه ولم يبق بمنأى عن تداعيات عدم قبول الاختلاف، وفي الكثير من الأحيان هو أيضاً يقصي المختلف ويعنفه وخاصة لما يتعلق الأمر بتعارض المصالح، فأصبح من الواجب إعادة التوجيه البنّاء، لاتخاذ موقف إيجابي من الآخر، وجعل المحبة والتسامح من الأسس التي يقوم عليها المستقبل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي في العالم.

لذلك لا بد من الدعوة للتسامح كقيمة أخلاقية كونية، تتمثل في ممارسة حق الاختلاف، وتؤمن بالتعددية، إنه السبيل الموصل لتحقيق الأمن والسلام والتعايش وزرع الطمأنينة في قلوب البشر في كل زمان ومكان، وأهمية التسامح تتمثل في تحقيقه للوحدة، وأساس النظرية الصوفية عن الأخلاق حسب ولتر ستيس: «هو أن انفصال الذوات الفردية يؤدي إلى الأنانية والعدوان والكراهية والقسوة… وهذا الانفصال يتم استبعاده في الوعي الصوفي الذي تلغى فيه جميع التمييزات»، وإضافة إلى التسامح يعتبر ولتر ستيس، المحبة هي: «الأساس الوحيد، والوصية الوحيدة للأخلاق».

لذلك نجد شرط تحقق الحب عند جلال الدين الرومي، هو أن ينفتح على الناس جميعاً، فالحب عنده لهب محرق يأتي على الأخضر واليابس ويعتبره أساس الوجود، فهو حسب قوله: «أن تميل إلى المحبوب، ثم تؤثره على نفسك وروحك ومالك، ثم توافقه سراً وجهراً ثم تعترف بتقصيرك في حبه».

ويعد الحب من مقامات التصوف، حيث قام الفكر الصوفي على الحب الذي لا حدود له، وهو من أسمى غايات التصوف، ولخصه المتصوفة في حب الله تعالى وحب رسوله الكريم وحب جميع المخلوقات دون تمييز، والحب الإلهي هو السبيل الذي يؤكد انفتاح التصوف على الديانات الأخرى، لأنه من الأمور المشتركة بين هذه الديانات، وحب الصوفي للمخلوقات نوع من التقرب للحضرة الإلهية، حيث تميز الفكر الصوفي بإعلائه الروحي لمقام الإنسان، وما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي يؤكد إيمان المتصوفة بالحب وانفتاحهم على سائر الأديان:

 وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إن لم يكن ديني إلى دينه دان

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديراً لرهبان

 وبيتاً لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن

 أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

وعليه، فإن الفكر الصوفي يقوم في جوهره على قبول الآخر، وليس قبوله فقط، وإنما محبته أيضاً، حيث البغض والكراهية لا أثر لهما في قلوب المتصوفة العامرة بالحب، وللحفاظ على ذلك يقومون بتغذية الروح وتزكية النفس من كل الشوائب.

ومن أسباب دعوة المتصوفة إلى التسامح، تأكّدهم بأن الآخرين يحملون صفات الحق وأسراره وأنواره، فجعل ذلك تسامحهم بلا حدود، فهذا الحسين ابن منصور الحلاج يدعو بالمغفرة للذين حكموا عليه بالصلب بقوله: «اللهم اغفر لقومي فإنهم يقتلونني غيرة على دينك».

وأهمية التصوف تتجلى في دعوته إلى التعايش والتكتل بين أهل الديانات والطوائف داخل منظومة روحية واحدة دون الالتفات إلى الانتماء الديني أو العرقي، فيعمل على التوحيد بينهم، لذلك يرى المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بأن امتلاك الدين الإسلامي لطابع العالمية والكونية يعود بالأساس إلى التصوف كتجربة روحية.

 وهناك بعض البلدان العربية التي عرفت التعايش بين الأديان وكمثال على ذلك، المغرب، حيث ساد به التسامح والتعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين، وذلك راجع بالأساس لازدهار التصوف وللعدد الكبير من الزوايا والرباطات بهذا البلد الإسلامي، فيقال بأن عددها بلغ في القرن الخامس الهجري نحو سبعمئة زاوية ورباط، وحسب عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، المغربي جميل حمداوي: «طبق متصوفة المغرب مبدأ التسامح والانفتاح على غيرهم، فاحترموا الأقليات الدينية من يهود ومسيحيين، وأشركوهم معهم أحياناً في صلوات الاستسقاء، بل إن بعض أهل الذمة أسلم على أيديهم لما لمسوه فيهم من حميد السجايا ومكارم السلوك الحضاري، أو نتيجة انبهارهم بكراماتهم الصوفية».

ومن الدارسين من يرى بأن دعوة المتصوفة للتسامح والمحبة وقبول الاختلاف جاء كرد على التطرف والمغالاة وعدم قبول الآخر من قبل بعض الطوائف، وكتأكيد على ذلك، نورد مقتطفاً من دراسة حول الموضوع أنجزها جميل حمداوي: «لم يرفع التصوف السني بالمغرب راية التسامح الديني والمذهبي والطائفي إلا كرد فعل على الفرق الكلامية والفلسفية والمذهبية المتطرفة التي سادت المغرب خلال القرون الأربعة الأولى من تاريخ الإسلام بهذا البلد كالرافضية من الخوارج المتطرفة، والحشوية والموسوية من الشيعة الغلاة، والبورغواطيين وحركة حاميم المتنبئ وما صاحبها من سحر وشعوذة، ويعني كل هذا أن التصوف السني بالمغرب جاء بخاصية التسامح وفكرة العفو والصفح لصهر جميع المغاربة في بوتقة مجتمعية واحدة خاضعة لخالق واحد وسلطة سياسية واحدة، مهما تعددت توجهات هؤلاء، واختلفت أشكالهم وصورهم، وتباينت عقائدهم ونحلهم».

 وبناء على ما سبق ونتيجة استشراء التطرف في الوقت الراهن، والذي ألغى التسامح والمحبة وأفسح مكانهما مجالاً واسعاً للكراهية والظلامية، فإن الحاجة أصبحت ملحة لإحياء الفكر الصوفي في العالم العربي والإسلامي، خاصة أن التصوف مثّل عبر التاريخ ذروة الانفتاح على الآخر وقبوله والتعايش معه والاعتراف بحقه في الاختلاف، وذلك ما جعل المستشرق مارتن لنجز يُعجب بالتصوف الإسلامي ويدخل الإسلام، ونستدل على ذلك بقوله: «لقد جذبني التصوّف إلى الإسلام، جذبني بما فيه من مثل إنسانية وآداب ذوقية، وفهم صحيح واضح لله وللإنسان والعلاقة بينهما، وهي علاقة لم تحدّد ولم ترسم في أيّ  ثقافة أو عقيدة، كما حُدّدت ورُسمت في التصوّف الإسلامي».

لقد أصبح التصوف مطلباً أساسياً حتى يعود للعالم العربي والإسلامي والعالم أجمع توازنه الإيجابي.

كونية الإسلام.. بالتصوف

أهمية التصوف تتجلى في دعوته إلى التعايش والتكتل بين أهل الديانات والطوائف داخل منظومة روحية واحدة من دون الالتفات إلى الانتماء الديني أو العرقي، فيعمل على التوحيد بينهم، لذلك يرى المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بأن امتلاك الدين الإسلامي لطابع العالمية والكونية يعود بالأساس إلى التصوف كتجربة روحية.

إنسانية وآداب ذوقية

مثَّل التصوف عبر التاريخ ذروة الانفتاح على الآخر وقبوله والتعايش معه والاعتراف بحقه في الاختلاف، وذلك ما جعل المستشرق مارتن لنجز يُعجب بالتصوف الإسلامي ويدخل الإسلام، ونستدل على ذلك بقوله: «لقد جذبني التصوف إلى الإسلام، جذبني بما فيه من مثل إنسانية وآداب ذوقية، وفهم صحيح واضح لله وللإنسان والعلاقة بينهما، وهي علاقة لم تحدد ولم ترسم في أي ثقافة أو عقيدة، كما حُددت ورُسمت في التصوف الإسلامي».

____
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *