خاص- ثقافات
*شيماء أبجاو
مجموعة “ندوب” لميمون حرش نموذجاً
تصدير:
تعد القصة القصيرة جدا من الأجناس الأدبية السردية الجديدة التي مثلت بوضوح معالم الثقافة الأدبية الجديدة التي تميل إلى الاختصار والتكثيف والاقتصاد. وإذا كانت هذه الكتابة القصصية قد وضعت لنفسها قواعد كتابية خاصة، فإنها بالضرورة تفرض علينا البحث عن سبل جديدة لقراءتها وفق خصائصها الفريدة التي تشكل نظامها السردي والدلالي أيضا. ربما حينها سنجتهد أكثر في تأويل القصة ومساءلتها عن المضمرات، وربما تحرك فضولنا التأويلي من أجل ترميم ما حجبه النص وما حذفه من خلال قرائن دلالية يبثها القاص بتقنيات خاصة يدل فيها الحاضر على الغائب!
إن السؤال المركزي هنا هو: كيف يمكننا أن نقرأ القصة القصيرة جدا من داخل نظامها الخاص؟
لا شك أن هذا النوع من القصص هو الأصعب على الإطلاق، لأنه يعتمد على خلق زحام دلالي شديد بين عدد قليل من الكلمات، حيث تكتنز كل مفردة حمولات رمزية تحيل على دلالات مضمرة يقوم النص بتوجيه التأويل إليها وفق خطط بلاغية معينة يختارها القاص حتى تؤدي القصة غاياته المرجوة، فالقصة القصيرة تتضمن حدثا سرديا مكثفا، ولا تخلو من عقدة ومن صدمة مخيبة لأفق الانتظار في النهاية، لكنها في العموم تتضمن مستويين من القراءة، المستوى الأول المباشر، حيث تتضمن القصة خبرا سرديا يتضمن فكرة معينة. والمستوى الثاني يتمثل في مقاصد القصة وهي التي نستلهمها من التماثل الذي نحدثه بين القصة بما هي تمثيل رمزي للواقع بشكل من الأشكال، وبين النظام الاجتماعي العام الذي ينتج فيه النص، يمكننا أن نزعم بعد ذلك أن كل قصة تتضمن رؤية خاصة للعالم، حينها تبدو القصة مجرد ذريعة سردية لبث وجهة نظر أو عرض قضية ما. لذلك نعتقد أن قوة كل نص قصصي تكمن في قدرته على خلق هذا التمثيل المخفي الذي يمنح القارئ معان مباشرة ويجره بذكاء نحو رصد دلالات خفية تشكل المقصد المراد من النص. وتكون مهمة القارئ هي فتج المجال أمام القصة لتفصح عن مكنوناتها الداخلية وتعبر عن وجهة نظرها تجاه الواقع الذي أنتجت داخله. بمعنى أن القصة القصيرة جدا بما أنها تتأسس على مبدأ الحذف والتكثيف والإضمار، يجب أن تخضع لقراءة مختلفة تنتقل من تحليل ما يقوله النص إلى تحليل ما لا يقوله النص وفق تعبير علي حرب،(1) أي ينبغي أن نبحث عن تلك الدلالة التي تقصدها القصة دون أن تقولها، وهذا مدخل فسيح اخترنا أن ندلف عبره إلى أعماق مجموعة “ندوب”(2) للقاص ميمون حرش، وهي مجموعة تجنح –كما يدل عنوانها- إلى تعرية جروح مؤلمة تمس عالمنا في مستوياته المتعددة، أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، فجميع القصص في هذه المجموعة تتضمن أحداثا مركزة تفصح عن مشهد دقيق يفضي بالضرورة إلى بناء صورة للواقع في جانب من جوانبه، لكنها لا تتوقف عند عرض الأحداث بحيادية، بل تخفي خلف القصة نقدا قويا. وهو ما يجعل مجموعة ندوب تروم مقابلة القارئ مع ما يختزنه واقعه من أعطاب قيمية وأخلاقية تطال حياته بالسوء، وقبل الخوض في تحليل بعض نصوص مجموعة ندوب، لابد أولا أن نحدد الموضوعات الكبرى فيها، والتي لا تخرج عن موضوعين كبيرين يتضمنان نقدا خفيا للواقع:
ـ النقد الاجتماعي: وينقسم بدوره إلى قصص تصور بعض فئات المجتمع، إما انتصارا أو انتقادا أو تعريفا، وقد شمل هذا الجزء صورا للشيخ والمومس والعميان، والمطلقة، والمطربة الفاشلة والإنسان الفقير والعانس والجائع، والمتشائم والذكر/ غير رجل وغيرها.. ثم في جزء آخر، يصور ميمون حرش بعض الأخلاق المشينة التي غزت مجتمعنا، فيكون عرضها بمثابة نقد لها من داخل موقف تواصلي معبر، ومن ذلك مثلا: الحسد والكراهية والنفاق والخيانة..
ـ النقد السياسي: وفيه أظهر القاص مواقف تجاه القضايا السياسية العربية، مثل قضية مصر وقضية سوريا وفلسطين، وكانت القصص تضمر تحليلا للواقع السياسي، وموقف المتابع المغربي منه. من ذلك قصة “مبارك” التي تخلق تناصا بين تجربة فرعون وتجربة مبارك، وقصة “ثلاثة فصول” التي شخصت بومضة بليغة تجربة ما يسمى بالربيع العربي، الذي أساء إلى الفصول واستحق أن يخرج من دائرتها، إن هذه المفارقات الساخرة التي استحضر بها القاص الواقع السياسي، تنبني على نقد مضمر لما يمكن وصفه بالوهن العربي، الذي يجعل الهذيان هو سقف الفعل في واقع مزحوم بالآراء الجافة والمواقف الباردة.
وقد اعتمد القاص ميمون حرش على تقنية المفارقة بما هي حيلة بنائية تقوم على تنظيم الحدث وفق نسق تصاعدي ينتهي إلى صدمة في التلقي حين تخلص النهاية إلى مفاجأة مكسرة لما يتهيّأُ له المتلقي بتوجيه ذكي من السارد. لذلك اخترنا دراسة هذه التقنية لما ظهر لنا فيها من قيمة مركزية تجلت في تزكية القصة القصيرة جدا في مجموعة “ندوب” في مستواها الأدبي الجمالي وفي مستواها البلاغي التواصلي. وسنحاول أن نحلل نماذج من القصص التي تمثل الجانب الاجتماعي والجانب السياسي في هذه المجموعة.
المفارقة بين الوظيفة الأدبية والوظيفة التواصلية (النقدية):
المفارقة (وفق ما اتفقت عليه أغلب التحديدات) تقنية سردية ذكية تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في مسار يكون مخالفا للنهاية المقصودة والتي نكتشفها في الختام، إنها تقنية تحاول تنظيم هذا التناقض الذي يهيمن على حياتنا، فتغدو الحقيقة دائما مخالفة لما نتوقعه أو لما ينبغي أن يكون، وكأنها لعبة محبطة تبني لدينا فهما معينا ثم تخيبه في النهاية بعكس المتوقع. وهذه التقنية تجمع بين وظيفتين، وظيفة أدبية بارزة، تبث في النص الكثيرة من الإثارة والتشويق، عن طريق بناء مستويين من الحقائق السردية، حقيقة ظاهرة وحقيقة مخفية تبرز في النهاية وتحطم التوقع، وهو بناء يتأسس على ضحية تكون غالبا صورة اجتماعية نتخذ عبرها موقفا من الواقع. سنحاول أن نمثل بعض المفارقات الدالة في قصص ميمون حرش، محاولين الكشف عن الأبعاد النقدية المضمرة التي تخص الجانب الاجتماعي والسياسي:
-
المفارقة الاجتماعية: