من الذكاء الاصطناعي إلى البيولوجيا التطورية…مُساءلة مابعد الحداثة

 

  *لطفيّة الدليمي

 

   لم تزل مفاعيل ما بعد الحداثة مؤثّرة في المشهد الثقافي العالميّ ، مثلما لم تزل مثابة أساسيّة في تأريخ الأفكار وبخاصة في حقبة مابعد الحرب العالمية الثانية ( من القرن العشرين ) بعد شيوع الإحساس المتعاظم بالعبثيّة واللامعنى في الوجود الإنسانيّ وبكيفيّة يمكن وصفها بأنها إعادة إحياء للتراث الرومانتيكيّ الذي ساد في القرن التاسع عشر وتمّ بعثه هذه المرّة في إهاب الفلسفة الوجودية التي شاعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم خفتت جذوتها مع بداية سبعينيّات القرن العشرين ؛ لكنْ ينبغي التأكيد هنا أنّ الميراث المابعد حداثيّ إذا كان قد خفت وتراجع على الصعيد الفلسفيّ والفنيّ فإنّه لايزال مؤثّراً على الصعيد الأدبيّ ( في ميدان الرواية بخاصّة ) بعد أن تعشّقت أدواته ووسائله مع نظيراتها المعاصرة التي توظّف مخرجات التقنية الرقميّة وتأثيرات العلم والتقنية التي تعاظمت في حياتنا المعاصرة .

   لكن ماالذي بقي من إرث مابعد الحداثة على الصعيد الفلسفيّ والسايكولوجي ؟ وهل ثمّة مغالطة مفاهيميّة في الأصول الفلسفيّة لمابعد الحداثة ؟ سأقدّم أدناه مساءلة لتلك الأصول كما يراها عالم السايكولوجيا الإكلينيكية ( جوردان بيترسون Jordan Peterson ) ،  والدكتور بيترسون عالم كندي يعمل أستاذاً للسايكولوجيا في جامعة تورونتو وكان عمل سابقاً لسنوات عدة في جامعة هارفرد العريقة ، وهو معروف بتعليقاته المثيرة على الكثير من الظواهر الإجتماعية والفكرية وبخاصة في ميدان سايكولوجيا المعتقدات الدينية والآيديولوجية ، وكذلك في ميدان تقييم تطوّر الشخصية الإنسانية وأدائها ، وله كتاب مهمّ نشره عام 1999 تحت عنوان ( خرائط المعنى : هيكلة المعتقدات Maps of Meaning : Architecture of Belief ) .

   سأوضّح مداخلات البروفسور بيترسون أدناه بهيئة مقاطع محددة بغية تسهيل الأفكار على القارئ ومنعاً للإلتباسات التي قد تحصل عند التعامل مع هذه الموضوعات الشائكة ، وينبغي التنويه أنّ غرضي من هذه المساءلة لإرث مابعد الحداثة ليس تثبيتاً لقناعة متأصّلة لديّ بقدر ماهو عَرْضٌ لمطارحة فكرية تعكس رأي صاحبها ، ولاأحسب مثل هذه المطارحات سوى أمثلة للفكر الحرّ غير المقيّد بالإشتراطات الجمعية والساعي لتأكيد القيمة العليا للفردانيّة المنتجة التي نطمح لسيادتها في كلّ أنحاء هذا العالم :

                  مَنْ هم الآباء المؤسّسون لمابعد الحداثة ؟

 

   هم مجموعة أشخاصٍ ( فلاسفة في الغالب ) اتّسموا بقدرٍ عالٍ من الذكاء والألمعية ، وكانوا ذوي توجّهات سياسية تميل لليسار في الغالب ، وامتلكوا القدرة على توظيف ستراتيجيات فكرية في غاية الدهاء والتمكّن . تمحورت الفكرة المركزية في رؤية هؤلاء الفلاسفة على أنّ أيّة ظاهرة ( أو مجموعة من الظواهر المترابطة ) لها عدد شبه لانهائيّ من التفسيرات ، وأنّ هذا الأمر يصحّ على كلّ الحقول المعرفيّة .

                           مُقايسة الذكاء الإصطناعيّ

 

   أحد الحقول المعرفيّة المبكّرة التي سعى الآباء مابعد الحداثيّون لتوظيف أفكارها هو حقل الذكاء الإصطناعيّ الذي شهد نشاطاً متعاظماً في منتصف خمسينيّات القرن العشرين . إكتشف باحثو الذكاء الإصطناعيّ أنّ المسعى الملحميّ نحو بلوغ آلة ذكية قادرة على إدراك العالم لهو مسعى أعظم مشقّة بكثير ممّا إعتقدوا بادئ الأمر ، وانتهى مسعاهم الطامح لبناء روبوتات ذاتيّة السلوك بالفشل مع نهاية ستينيّات القرن العشرين ، ولم يكن ذلك الفشل يعود لمعضلات تقنيّة بل لمعضلة مفاهيميّة في الأساس بعد أن إكتشف الباحثون أنّ تحديد المسارات الممكنة للروبوت والسيطرة عليها يُعدّ معضلة ثانوية بالقياس للمعضلة الجوهرية التي تختصّ بكيفيّة إدراك العالم وذلك لوجود عدد لانهائيّ من الكيفيّات التي يمكن بها إدراك العالم . التقط الآباء المؤسّسون لفكر مابعد الحداثة هذه الحقيقة الإشكاليّة ووسّعوها وجعلوا منها قانوناً مُلزماً يقول بوجود عدد لانهائيّ من إمكانيّات تفسير أيّ نصّ مكتوب . ثمة إشكاليّتان شديدتا التعقيد تترتّبان على هذه الرؤية : الأولى تختصّ بالوسيلة التي يمكن لنا من خلالها معرفة أيّ التفسيرات ينبغي أن يتقدّم على التفسيرات الأخرى ، وإذا ماجادل أحدٌ من آباء مابعد الحداثة بأنّ كلّ تلك التفسيرات تمتلك القيمة ذاتها أو أنّ كلّها لاقيمة لها فسنكون حينئذ أمام إشكالية ثانية تنبؤنا بأننا سنعدم أيّة وسيلة ممكنة للتعامل مع العالم .

   نحن – ككائنات بشرية – ينبغي لنا التعامل مع العالم بصرف النظر عن طبيعة هذا التعامل وطرائقه ، ولايمكن تصوّر كائن بشريّ يعيش بمعزل عن العالم ( العزلة عن العالم بالمعنى المفاهيميّ والبيولوجيّ  أمر يختلف جوهرياً عن العزلة السايكولوجية أو الذهنية ) ، والسبب الكامن وراء هذه الحتمية في التعامل هو أنّ الكائن البشريّ متى ماكفّ عن التعامل مع العالم فسيعاني معاناة مأساوية هائلة تقوده للموت المحتّم ، وبالطبع ليست هذه بالنتيجة المحبّبة أو المقبولة لمعظم الناس .

                       معضلة الرؤية مابعد الحداثيّة  

   ليست المعضلة في الفكر مابعد الحداثيّ هو الإدّعاء بوجود عدد شبه لانهائيّ من التفسيرات لأية ظاهرة ؛ بل الفشل في إدراك ذلك الفكر لوجود عدد محدود فحسب من التفسيرات المقبولة والمعقولة لأية ظاهرة ، وكذلك رفض التعامل مع المشكلة الفكرية الخاصة بتحديد ماهيّة ومكوّنات هذا العدد المحدود من التفسيرات للظاهرة موضوعة البحث .

                        مقايسة البيولوجيا التطوّرية

   كيف السبيل للتعامل مع المعضلات الإشكالية أعلاه بوصفنا كائنات بشرية ؟ ثمة حقيقة مدهشة توفّرها لنا البيولوجيا التطوّرية : تعيش الكائنات البشرية في هيكل بيولوجيّ تطوّر عبر 3.5 مليوناً من السنوات ، وقد تكفّل هذا التطوّر البيولوجيّ بوضع قيود شديدة على الكيفيات التي نفسّر بها العالم وجَعَلَ الأمر مقتصراً على الكيفيّات التي تتيح للكائنات البشرية التعامل مع العالم وتبنّي تفسيرات له لاينتج معها معاناة غير ضرورية وبطريقة لاتتسبّب بموت تلك الكائنات ، وذلك بالتأكيد هو أحد مظاهر الذكاء المقترن بعمليات الإصطفاء الطبيعيّ الملازم لمجمل آليات البيولوجيا التطوّرية ، وعلى أساس هذه الرؤية فإنّ الطبيعة لم تشأ لنا أن نهلك أو نعاني معاناة غير مطلوبة ، وسنكون أغبياء إذا ماحاولنا معاكسة هذا التيّار الطبيعي في البيولوجيا التطوّرية ولن يكون نصيبنا سوى الهلاك أو الدخول في نفق معاناة يمكن تجنّبها ولم يشأ جهازنا البيولوجي دفعنا إليها . يمكن إجمال هذا المفهوم في إطار المقايسة التالية :

      ثمة عدد محدودٌ للعيش على نحوٍ سليم ولفترة طويلة وبكيفيّة تكفل الحرص على الحياة البشرية وعدم التسبّب بأيّ أذى للذات وللآخرين معاً ، وثمة قيود بيولوجية على الإدراك مدمجة فينا وهي نتاج عملية التطور الداروينيّة الشاقة والبطيئة ، وبالرغم من وجود عدد شبه لانهائيّ من التفسيرات الممكنة للعالم إلّا أنّ هناك قيوداً شديدة بشكل غير معقول – لنا – تجعل التفسيرات المعقولة للعالم محدودة .

    إن الكائن البشريّ مُلزَمٌ بالتعامل مع نفسه في كلّ الأوقات : الآن ، وبعد يوم ، وبعد أسبوع ، وبعد شهر ،،،،، الخ وينبغي له دوماً أن يجد مرشداً لحياته يضعه في طريق لايتداخل مع حياته المستقبلية بطريقة سلبيّة ومؤذية ، كما يتوجّب على الكائن البشريّ أن يختار الكيفية التي تجعل الآخرين يأنسون لرفقته والتعامل معه والتنافس الجادّ والمبدع وغير المؤذي مع أفكاره وإنجازاته .

                واجب العلوم الإنسانيّة في عصر مابعد الحداثة

 

   الواجب الجوهريّ الذي ينبغي أن تنهض به العلوم الإنسانيّة – والذي  يتقدّم على سواه من الواجبات – هو كشف معالم تلك التفسيرات المحدودة والمقيّدة للعالم والحفاظ على الطاقة الحيوية للكائنات البشريّة من الهدر في سلوك متاهات تنطوي على خطل مفاهيميّ جوهريّ تمّ تأكيده بالخبرة المتواترة . تجدر الإشارة هنا إلى دور الجامعات التي كانت منبراً لترويج الأفكار مابعد الحداثيّة بطريقة أقرب إلى ( الموضات ) الفكرية التي تركن لستراتيجيات المخالفة والإبهار التي كانت شائعة في موجة الثورات الثقافية في ستينيّات القرن العشرين .

                      مابعد الحداثة والماركسيّة الجديدة :

                          شيطنة المُختَلف آيديولوجياً

 

   يرى البروفسور بيترسون في مابعد الحداثة ( وكلّ الحقول المعرفيّة التي نشأت عنها مثل : البنيوية والألسنيّة ،،، الخ ) إبتكاراً فكرياً أنتجته عقول بعض الماركسيين الجدد الذين إبتغوا ترميم الفكر الماركسي بعد الخراب الذي تسبّب به النموذج الستالينيّ في ممارسة السلطة الشموليّة ؛ وعلى هذا الأساس يكون معقولاً للغاية النظر إلى مابعد الحداثة بكونها منتجاً سياسياً – فكرياً مركّباً يرمي لتلميع الصورة المخدوشة للماركسية . يضيف البروفسور جونسون ، وبنبرة لاتخلو من نكهة آيديولوجية تنضح برؤية كهنوتية حاسمة ، أنّ مابعد الحداثة إنعطافة فكرية غير عقلانية وغير منطقية وغير عملية ، وفوق كلّ ذلك هي غير أخلاقيّة أيضاً !! ويستشهد بأن الإدعاءات مابعد الحداثية بكسر نخبوية النخب الثقافية والإنحياز الشامل وغير المقيّد لجانب المسحوقين ضدّ الأغنياء هي إدعاءات باطلة يُراد منها التدليس وإخفاء الحقائق الساطعة بشأن كون النخبوية وسيلة دافعة للإرتقاء في كلّ المجالات – ومنها بالطبع المجال الثقافي – ، وأنّ الرأسماليّة فعلت للفقراء مالم تفعله أفضل النظم التي تبنّت التطبيقات الماركسيّة ، وأن الماركسية تسبّبت في قتل الملايين العديدة من البشر وامتهان حقوقهم الأساسية ، وأنّ مابعد الحداثة ليست سوى محاولة شيطانية لإضفاء الجمال على صورة قبيحة .

                  نقد أطروحة البروفسور جوردان بيترسون

 

  • يبدو الأساس المفاهيميّ في أطروحة البروفسور بيترسون معقولاً ومقبولاً ومتماشياً مع مكتشفات السايكولوجيا الإدراكيّة والبيولوجيا التطوّرية ، ويمكن البناء عليه لهيكلة أطروحة متماسكة مناقضة لفكر العدميّة والنهايات السوداوية الكئيبة والرؤى المضمّخة بمشهديات يوم القيامة وسواها من الأفكار التي تنزع نزوعاً عدمياً هو في النهاية بعض مواريث الحركة الرومانتيكيّة .

  • يبدو الجانب الآيديولوجيّ في الأطروحة مقحماً بصورة قسريّة تماشياً مع نزعة فردية كارهة للماركسية وتسعى لإلصاق كلّ مثلبة بها ، وربما كانت هذه النزعة الفردية تتحرّك بدفع من مؤثرات دينية أو سياسية محدّدة ؛ لكنها تبدو متهافتة عند مقارنتها بفخامة الأساس المفاهيميّ والسايكولوجي للاطروحة . من الطبيعي أن تكون أية حركة فكرية ( مابعد الحداثة أو سواها ) عرضة للنقد المفاهيمي أو الجمالي ؛ غير أن الغريب في الأمر أن يتوسّع النقد بطريقة كيفيّة فيتداخل ( الجماليّ ) مع ( السياسيّ ) وعلى نحو يبتغي مركزة المرجعية الجمالية والفكرية في جانب واحد ، واللافت للنظر هو إسباغ صفات مثل ( لاأخلاقي ) على حركة فكرية ؛ إذ أنّ هذا الفعل ليس مقبولاً في الليبراليات الغربية . ليست الماركسية الكلاسيكية – والماركسية الجديدة كذلك – وعاءً يحوي المثالب وحسب ( كما يرى البروفسور جونسون ) ؛ بل هي فكر إنسانيّ مجتهد له مريدوه الكثر بين الغربيين أنفسهم ، وليس خافياً أن معظم الرواد الطلائعيين في الماركسية الجديدة ، وفي الجانب الثقافي تحديداً ، هم بعض أفضل العقول الغربيّة وأكثرها نبلاً وشجاعة ومروءة ، ويمكن أن نذكر في هذا الميدان : زيغمونت باومان ، إريك هوبزباوم ، تيري إيغلتون ،،، ولابدّ من التفريق الواضح والحاسم بين الفكر الإنسانيّ وبين التطبيقات المدّعاة له على أرض الواقع ؛ إذ كم من فكر جميل أفسدته السياسة بأحابيلها الأفعوانية المتلوّنة . أمّا بشأن دفاع البروفسور جونسون عن الرأسمالية فأقول : كلّ ماذكره بشأن الماركسية يمكن قوله بشأن الرأسمالية ؛ فهي قد حققت إنجازات مبهرة ومهّدت لإنعطافات علمية وتقنية عظيمة ؛ غير أن مثالبها لاتُنكر كذلك ، وأحسب أنّ مفاعيل الكارثة المالية التي ضربت العالم عام 2008 لازالت مؤثرة حتى اليوم وستكون لها تبعات إرتداديّة أخرى في المستقبل القريب ، ولابأس من التأكيد هنا أن الرأسماليّة هي في حقيقتها رأسماليّات متعدّدة : الرأسمالية اليابانية تختلف عن الرأسمالية الأمريكية ، والرأسماليات الإسكندنافية المعقلنة تختلف عن ماسواها ؛ بل حتى أنّ الرأسمالية البريطانيّة فيها جوانب مخففة وملطّفة من فكر العدالة الإجتماعية التي عملت من أجلها الماركسية . أما بشأن الملايين التي دُفِنت تحت الأرض بفعل التطبيقات الماركسية المشوّهة ( كما يرى البروفسور جونسون ) فأقول أنّ تلك الضحايا كانت بسبب الحرب التي هي إمتداد للسياسة ( بحسب التعبير الأشهر لمنظّر الحرب الألماني كلاوزفيتز ) ، والسياسة – في كل العصور – تصنعها المصالح المتنافسة لاالأفكار النبيلة ، وليست الملايين من ضحايا الحروب التي أجّجتها المصالح الرأسمالية بخافية على أحد !! .

    ____________

    *عن المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *