خاص- ثقافات
*غازي سلمان
تظلّ ” الغرائبية ” كموروث حكائي ، شفاهي أم مدون ، سواءٌ كقصٍ خرافي أو ملحمة أو أسطورة ، أو فيما ورد منها في التراث الديني، تظلّ جزءا من ذاكرة المجتمع ومترابطة مع الثقافة المعاصرة له . وإذ تتسم ” الغرائبية ” بخوارق شخصياتها العابرة للمألوف وهي تتحرك في فضاء عجائبي متخيل ، ذلك أن المخيال الشعبي قادر على خلق مثل تلك الفضاءات السحرية والفنتازيا وخلع كنى وأسماء عليها، مثلما هو قادر على تخليق الشخصيات الخارقة.
وحين يقترن الأدب الروائي بالغرائبية “كظاهرة” لا بد وأن تكون لغته السردية متمكنة من تحويل الإشارات اللغوية في الخطاب السردي إلى اخيلة حسية “ يستشعرها المتلقي، ويتمثلها ذهنيا” ، في محاولة واعية من الكاتب لفهم الواقع ، تجسيدا، رفضاً ، أو التحرر نسبيا منه أو كشف المخبوء فيه ، بكل ما يتصف واقعه المعيش، من قهر اجتماعي ، وعوائق وقيود ثقافية ، سلطوية واجتماعية، وقتل يومي ممنهج ،و بما ينتج عن ذلك من نزوع إلى خيبة الأمل ، وعدم القدرة على التكيف مع الواقع، ليحمل المتلقي على الانتقال من مكمنه – المكان – المألوف بواقعيته ، وصدقيته ، إلى عالم مغاير، عالم حلمي ، كابوسي ، غريب، مدهش.
وبفعل تأثير مقدرة الكاتب التخيلية في إبداع عوالم وشخصيات غير مألوفة ، عجائبية ، مع إحالة شخصيات وأماكن واقعية إلى مثل هذه العوالم فانه يصطحب المتلقي إلى فضاءات أكثر اتساعا ومغايرة ترتبط بوشائج ذلك الواقع المعيش الضيق دون أن يقطع الصلة بهموم الإنسان ليكون قد أضفى جمالية مؤثرة على السرد.
وفي رواية (فرانكشتاين في بغداد ) فإن النصُّ بسرديته المترفة بالأخيلة والسحر وباللغة المنبسطة أمام قراء تختلف رصانة ثقافتهم ، لا يلغى الكاتب أحمد سعداوي تصورات المتلقي الذاتية حول واقعه ، بل جعل النصُ ينسج شرانقه في الحدود الفاصلة بين واقع المتلقي وبين – ثيمة – الرواية كواقع مغاير ، فتتلاشى المسافة الفاصلة بين الواقعين ، ويتخلق نوع جديد من العلاقات بينهما ، تُطمس المسافة بين ما يمكن أن يحدث وما حدث في الواقع وبين ما يحدث في عالم الرواية على السواء ،و يُترَكُ المتلقي ولوقت طويل يدور في دوامة من التردد والشك وعدم اليقين ، وإذ يتحرك وئيدا ، متنقلا من مكمنه الواقعي المتسق مع زمنه ، الى مكان وزمان الرواية المغاير باحثا عن مقاربة بينهما ليتحقق من مصداقية انساق العالم المغاير لأنها تلتقط من واقعه كل ما هو غائر في الغرابة ،كل ما يتكأ على الاستحالة والبعد عن المنطق الواقعي ،عند ذاك تتحقق لذة توغله في عالم الاحلام ، وحين يكون قادرا على تفكيكها فانه سيتمكن من اعادة صياغة الواقع بمعناه الاوسع ، والوقوف على عتبة الوهم والحقيقة ، ما يمنحه فهما اعمق لواقعه .ويحفزه على ما يمكن القيام به نحو تغييره واحلال واقع بديل ، اكثر وئام وحرية ،أكثر كرامة وإنسانية.
وبالركون إلى ذاكرة الكاتب الإبداعية بما تتضمنه من خزين معرفي بالتراث وإفادته توظيفا لشخصية البطل ” فرانكشتاين “، في رواية ” فرانكشتاين” للكاتبة الانكليزية ماري شيللي( 1797 -1851 ) والفيلم المأخوذ عنها بنفس الاسم ،مضيفا تصوراته الخاصة ، فقد تمكن الكاتب من خلق شخصية ” الشسمه ” ككائن حي بسمات غرائبية ، من خلال استدعاءه روحاً الى اوصال بشرية ميتة ، وبطريقة ماكرة ، وببراعة يتجنب الروائي نمط تسلسلية الاحداث بانتظامها الرتيب ، متخليا عن التقنية الكلاسيكية لعملية السرد فالنص يتحرك بدائرية مفرطة ، النص في هذا العمل الروائي ، مرايا مهشمة يعكس كلُّ جزء منها و بصورة تكعيبية ، اكثر من صورة لحدث ، واكثر من صوت لشخص ، في آن واحد ، بِرَوي يتناوبه اكثر من راوٍ ، وكل راوٍ يعيد صياغة حدث ما منها، من مكمنه ولكن بذات زمن الحدث ، مع وفرة سطوة صوت السارد (العليم ) القادر على التحول من الضمير المستتر حينا الى الضمير المتكلم الحاضر حينا آخر، ممتلكا وفرة من القدرة على التدخل في فرض “مزاجه الخاص” ، في وصف وتحليل الحدث ، باعتباره ينيب عن ضمير المتكلم “مسنودا من المؤلف ذاته ” لمجمل شخوص الرواية الآخرين.
فمشاهد الانفجار قبالة فندق السدير نوفتيل، وهي الحادثة التي أودت بحياة حارس الفندق (حسيب محمد جعفر ) الذي كأنما فُنَيَ جسده ، فأن الروائي يعيدنا الى ذات الموضع بما تضمنه من مشاهد الانفجار وعصفه ، لثلاث مرات:
– مرة من زاوية نظر هادي العتاك في مكان الانفجار حين كان جزء من مشاهده :
) إذ طار مع كيسه وعشاءه في الهواء … وارتطم بقوة على إسفلت …)
– ومرة ثانية من زاوية نظر الصحفي محمود السوادي وزملاءه وقد تعرفوا حينها على هادي العتاك
– والمرة الثالثة هي ما يراه – حسيب محمد جعفر- حارس الفندق خلال وقت لا يتجاوز ثانية واحدة .
‘ن تعدد الأصوات ” الذاتية ” واشتباكها مع صوت الراوي العارف بالظاهر والباطن وكذا صوت المؤلف نفسه، تقنية استحصل الكاتب منها فضاءات أوسع في تجسيد الأحداث والآراء حولها ، وبالمقابل يحفز ذهن المتلقي على التأويل المختلف ، وعلى المجادلة.
لكنه” الكاتب ” حرص على انفراد صوت ” فرانكشتاين ” باستقلالية ألحكي ،او الروي ، متحررا من سطوته ، فذا صوته في الفصل العاشر من الرواية يعلو مستقلا منفردا ” بمقصدية من الكاتب” ، من اجل استبعاد اي تأثير او – تشويش – على رؤيته لأناه ، ولمهمته العسيرة – النبيلة – التي ربما تتعرض إلى الطعن .
لقد بدد صوت ” الشسمه ” كل الهواجس التي ربما اعترت القارئ في فينة ما، خلال تتبعه للأحداث ، إزاء لا إنسانيته ، باعتباره وحشا ، مسخا ، مجرما ، مزدرى ، كان صوته ببلاغته اللغوية المهذبة ، الذي ينمّ عن ثقافة (الضحية حسيب محمد جعفر ) وعن وعي بالقوانين البشرية ، يتناغم مع الشعور بقوته كسلطة وإيمانه بعدالة الشارع كسلطة بديلة لتحقيق العدالة في الاقتصاص من القتلة الذين ينتجون الضحايا مثل كلاب سائبة ، كان صوته يشي بمحاولة اقناع آخرين برسالته الإنسانية العليا – وفق رؤيته هو.
أحيانا تتمحور الشخصيات والأحداث حول – الشسمه – باعتباره قلب الرواية سواء بغرائبيته جسدا ، ام كائنا حيا ، وأحيانا تنفرط عنه بفعل شتات تفاصيل تاريخ حياة الصحفي” محمود السوادي ” وعائلته ومشاغله في عمل الجريدة واحلام يقظته ولقاءه بـ – نوال الوزير، عشيقة – رئيس التحرير ، وأيضا بفعل مجمل العلاقات الاجتماعية بين أشخاص الرواية الذين يتجاورون في منطقة البتاويين، لذلك تغيب تلك الشخصية طويلا خلال عملية الروي وهي التي استحوذت على عنوان الرواية وهويتها .
إن عملية تخليق “الشسمه ” مرت بأدوار وطقوس متعددة مختلفة ،ولكل منها بصمتها على دوره الذي أناطه لنفسه ،في ” إنهاء القتل في الشوارع حتى ينتهي إنتاج الضحايا ” او أُنيط به برؤيا ميتافيزيقية :
(لقد تحركت اخيرا تلك العتلات الخفية التي اصابها الصدأ من ندرة الاستعمال ، عتلات لقانون لا يستيقظ دائما ، اجتمعت دعوات الضحايا واهاليهم ودفعت بزخمها الصاخب تلك العتلات الخفية فتحركت احشاء العتمة فأنجبتني ) الرواية ص156
لكن مرحلة تجميع الجذاذات البشرية من قبل “العتاك ” وخياطتها لينتج جثة مكتملة الاجزاء بدت الغاية منها للوهلة الاولى عادية لأنها تتشابه مع مهنته في جمع اللقى من مثل العلب والقناني الفارغة اضافة الى شراءه الاثاث المستعمل وبيعه كعمل اساسي له ،وقد اضمر الكاتب نفسه تلك الرغبة عن متلقيه ! وهي ذاتُ رغبة ” هادي العتاك ” التي راح يخفيها خلال حكيه لرواد مقهى عزيز المصري ولمحمود السوادي وخلال التحقيق معه في (دائرة المتابعة والتعقيب )، مع انه افصح عن هدفه من عملية تجميع الجذاذات البشرية حين اطلقها من حبسها في لحظة ضغط نفسي قاس مطالبا لها بالانعتاق :
-: انا عملتها يا عالم حتى لا تتحول الى نفايات ، حتى تحترم مثل الاموات الاخرين وتدفن ياعالم..) الرواية ص 34
ان رؤية هادي العتاك تتماثل تماما مع تفسير(جاك لاكان ) (1) في اجابته عن سؤال ، لماذا يعود الموتي ؟ بقوله :
( لانهم لم يُدفَنواعلى نحو مناسب، اي لان شيئا قد حدث على نحو خاطئ فيما يتعلق بموارتهم الثرى، فعودة الموتى هي علامة على اضطراب ماحدث في الطقس ،ذلك الطقس الرمزي الخاص بدفنهم، ويعود الموتى كي يجمعوا بعض الديون الرمزية التي لم تُدفع بعد)(2)
لم تكن تلك الاعضاء البشرية الا أجزاء او جزء واحد من جسد – ناهم عبدكي – “صديقه وشريكه في العمل “ الذي قتل في حادث تفجير منطقة الكرادة( امام احد مقار الاحزاب الدينية وقُتلَ بضعة مواطنين من المارة بينهم ناهم مع حصانه وخلطت لحمهما معا) والتي استلمها العتاك من المشرحة فيما بعد :
(قال الموظف في المشرحة لهادي : اجمع لك واحدا وتسلمه ، خذ هذه الِّرِّجل وتلك اليد وهكذا ، الأمر الذي تسبب بصدمة كبيرة لهادي). الرواية ص 265
لقد كان لمقتل ناهم عبدكي اثرا في تحريك وعي انساني متقدم غائر عميقا في نفس هادي العتاك تلك الشخصية العراقية – البسيطة – ليترجمه كرد اعتبار للضحايا الأبرياء فحسب ، دون التفكير بالثأر لهم . بمعنى الاقتصاص قتلا من القتلة.
ان روح – حسيب محمد جعفر – لم تتلبس في جسد ذاك الكائن المسجى الهامد في بيت هادي العتاك ،فقط ، بل تلبست جسد الرواية كلها ، لتسم السرد بالفنتازيا والغرابة من خلال “قيامة الشسمه ” اي “فرانكشتاين” ” او دانيال” او “الذي” لا اسم له” و “المجرم” “المخلص”و” المواطن العراقي الاول” ، وغيرها من الاسماء والكنى التي خلعها عليه ” خالقوه ومناصروه واعداءه ،ولتفسرهذه “القيامة” إرادات ورغبات دفينة غائرة عميقا في الروح المجتمعية ، وان اختلفت تلك الإرادات في سبل الخلاص من واقع مرير، بسبب غياب العدالة وهامشية سلطة الدولة، وضعف أجهزتها الأمنية والاستخبارية ، وتخلفها، جراء اعتمادها أنفارا من المنجمين وقراء الطالع، في بسط الامن وحماية المواطن الذي لا عاصم له من الهلاك قتلا ، لكنها لم تكن إكمالا لرغبة -هادي العتاك- ، الذي كان يضمر شيئا مخالفا فيما بعد :
)فمن الجيد ان يتحلل جسد الشسمه سريعا لينتهي منه ومن رعبه) الرواية ص 148
ان وصف عملية إحياء الجسد الهامد من خلال تلبس روح حسيب محمد جعفر الهائمة ، وكأن ذلك الجسد كان يستدعيها، مثّل تجاوزا واضحا للقوانين العقلانية ، والمنطق، و انفتاحا على عوالم الغيبيات ، ما شكل احد اهم مفاتيح النص الروائي، في حين ان الموت والموت قتلا مع سبق الإصرار من قبل قاتل مُتعامي ، تعد توكيدا على هشاشة وتفاهة الحياة وتبرز الوجه الحقيقي لها، وانبثقت عنها ثيمات مهمة في الرواية .
المرحلة الأخيرة من تخليق – الشسمه – ، هي المتمثلة بالحصول على اجزاء بشرية بديلة عن التي ماتت فيه – ذوت – ومن مصادر لأجساد مختلفة ، يقوم بها إتباعه من السحرة والسفسطائي ومريدين يقدسونه حد التأليه لشخصه ، ولضرورة استمراره حيا لإتمام رسالته التي يبغي الاستمرار بها حتى النهاية، في إنهاء انتاج قتل الابرياء، سوف يحار حين لم يجد البدائل لجذاذاته التالفة، إنها المرحلة الأكثر قسوة وخطورة على مسار رؤيته ورسالته، لأنها أدخلته في دوامة لا تنتهي من إنتاج القتل،إنتاج ضحايا من نوع اخر، ينفذّه بنفسه او يعاونه اتباعه،فحين تشح بدائل المزق البشرية التالفة لابد من الإفادة من فرص قتل أبرياء، حتى ان احد المؤمنين به قد تبرع بجسده كاملا واستسلم للقتل على يديه . انه لم يعد يكترث لمن يعود هذا الجزء او ذاك في جسده ، وهاهو يمارس قتل مواطن عجوز ( بريء) كان يحمل أكياسا سوداء تحوي صمونا وفاكهة ! ، أطلق النار عليه كأي محترف قتل ، ثم يفكر بالثأر له !!، ويفسر –الشسمه – مبررا قتله ذلك الرجل العجوز بالإفادة من اعضاء بديلة له وان اعتقد جازما ببرائته.
هكذا أصبح بطلنا المخلص والمنتظَر والمرغوب به والمأمول ، يتهدده الموت في كل حين ، منتجا للموت هو الآخر ، وسوف يكتشف انه لم يعد هناك من بشر ليقتله في هذا البلد فـ (
( ليس هناك أبرياء انقياء بشكل كامل ولا مجرمين كاملين)
حتى ان أتباعه الذين تجمعوا في مكان واحد ليشكلوا اشبه ما يكون بـ ( ثكنة عسكرية ) قد تقاتلوا فيما بينهم بسبب اختلافهم في دوره ومهمته ، فهرب من هرب وقُتل من قٌتل ، واستنتج – الشسمه – ان احد أتباعه ” الساحر الصغير” هو الأكثر قتلا وإجراما بين الآخرين لأنه بقي هنا حيا ، لهذا نفّذ قضاءه وقدره عليه ، ببرودة الاعتياد على القتل.
إن مهمة –الشسمه – التطهيرية ، أضحت ” نصلٌ بحدين ” حدٌ منها لتطهير المجتمع من القتلة الذين ينتجون الضحايا ، والآخر لإدامة جسده ،ومهمته ” من خلال قتله أبرياء لتعويض البدائل الذاوية من جسده ، مقتنعا بحكمة ساحره بأن في كل شخص نسبة من الإجرام ،الامر الذي يجعله مساهما في إنتاج الموت وإدامة دوامته في حياتنا ، وسوف يجعل المتلقي الذي يتعايش مع تلك الدوامة ،الباحث عن بصيص أمله في عتمة متاهتها ، مفارقا له، في مهمته تلك، حيث أدرك ان مهمة -الشسمه التطهيرية – ، أشبه ما يكون بإزالة العفن من تفاحة بواسطة سكين ، إذ لابد وان يطال التطهير اجزاءا سليمة منها .
إن قيمة الرواية ، بالإضافة الى تقنيتها السردية المحدثة ، تكمن في تقديم روح معنوية جديدة للمتلقي مفعمة بأمل ما للخلاص بديلا عن الروح المعنوية الهشة التي تلازمه بالرغم من خيبة الأمل بما آلت اليه مهمة – الشسمه – (دانيال)كنبي مخلص.
———————————————————-
هوامش :
*رواية فرانكشتاين في بغداد للروائي احمد السعداوي صدرت في مارس 2013 عن دارالجمل في بيروت
. 1جاك لاكان (1901-1981). محلل نفسي فرنسي ولد في باريس وتوفي بها. اشتهربقراءته التفسيرية لسيغموند فرويد ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي
. 2الغرابة المفهوم وتجلياته في الادب : د. شاكرعبدالحميد / منشورات عالم لمعرفة/384 / يناير 2012/ ص243 – 24
مرتبط