من خلال ربط الدلالة بمدلولها يتضح أن السارد عبارة عن شخصية مسجونة، حاولت أن تنظر إلى مكانها المجهول ليلاً عند سماعه صوت أقدام رجل ما، وهذا المكان يضم بداخله مساجين مثله، فاكتشف أن السجان قام بتوظيف مصوّر يلتقط لهم صوراً بغية تحقيق أهداف معينة، فيقوم المصور بتنفيذ أوامر السجان تجاه المساجين وهم محدقين به، لكن صمتهم نتيجة خوفهم جعلهم يتلاشون مع تلاشي ضوء الكاميرا (الفلاش) إلى جانب الضوء الخفيف الذي رافقه.
يحتوي هذا النص على مفارقة الصورة البانورامية للحدث /حدث الرؤية، حدث السمع، حدث التلصص، حدث التصوير/ ثم ما تلبث لتتحول بعد ذلك بكاميرا السارد للنظر من أعلى إلى أسفل، فبدأ السرد بتقديم صورة وصفية لمساجين تحت الأرض (بالعرض) آخذاً ملامحهم وعيونهم المحدقة وهم مصطفين على الجدران، ثم تحولت الصورة من فوهة البئر (من أعلى) إلى الأسفل المغيهب بالظلمة.
ويحتوي أيضاً على مفارقة شخصية المصور، ويتضح ذلك جلياً عند التعمق بتحليل التركيب الآتي (رأيت ظله في الغيهب ، معلقا بمسمار بطرف القميص)، المعلق بالمسمار ليس الظل كما يعتقد البعض، بل هو الشخص المصور، وهنا صورة ساخرة تقدمه كإنسان ملابسه فارغة منه وترتديه رغماً عنها، القميص هو الذي يرتدي ذلك الشخص، وهنا إشارة على فقدان الإنسانية البدنية، فما بالك بالإنسانية المعنوية؟!
ــــــــــــــــــــــ
2- المناديل البيض
==============
القميص الذي صبغه إخوتي بالدم ومزقته الحبيبة من دبر ذات شهوة و تشمَّمه والدي وما أبصر.. القميص الذي……. أبصرَ كان وجها على قفا؛ يرفعه الهاربون .. لافتة .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبر التعمق بسيميائية النص يتضح أنها قصة ترحال قميصٍ ما، يمتلكه السارد، صبغه أخوة السارد بالدم، ومزقته محبوبته ذات تشممها بشهوة له، وتشممه والده ولم يبصر، كان في الحقيقة وجهاً أبيض اللون، لكن قفاه لافتة يرفعها المتظاهرون وعليها شعاراتهم، وقد يكون هذا القميص علامات الاستسلام والخنوع بعد هروبهم.
هذا النص المكثف يحتوي على كم هائل من المفارقات ويمكن إيجاز بعضها: مفارقة التناص، مفارقة الحدث، مفارقة المشهد الغائب، مفارقة القفلة.
أما مفارقة التناص، تتمثل في تناص النص مع قصة سيدنا يوسف عليه السلام وقميصه، بداية مع أخوته الذين صبغوا قميصه بدم كاذب، ولكن في هذا النص (الجديد) كان دماً حقيقياً، وهذا القميص مزقته زليخة زوجة عزيز مصر عن جسد يوسف عليه السلام ذات شهوة، بينما المحبوبة مزقته دون أن يكون على جسد صاحبه، وهنا يمكن إضافة مفارقة الحدث الأصلي للحدث الجديد، وكذلك الاختلاف مع نتيجة شم سيدنا يعقوب لقميص ابنه مُفارِقة لنتيجة شم والد السارد للقميص؛ فهو لم يبصر.
أما مفارقة المشهد الغائب، أبرزتها علامة الحذف بعد (القميص الذي…)، فأي مشهد يمكن أن يتخيله القارئ ويضعه هنا سيكون مفارقاً للأحداث والمضمون والخاتمة، وهنا يمكن الإشادة بمدى براعة حمد الحاجي بمحاولة محاكاة خيال القارئ وإشراكه في ملئ فضاءات النص.
ومفارقة القفلة هي المفارقة الكبرى التي فجرت النص بأكمله وباغتت القارئ بمفاجأة ودهشة، حين اكتشف أن ذلك القميص عبارة عن لافتة مقلوبة لبعض المتظاهرين الهاربين، أو علامات استسلامهم أصلاً.
وإذا أخذنا النص كوحدة واحدة، من ناحية الخطاب والمعنى والمقصدية، نجده يقدم رسالة بأسلوب ساخر مؤلم في آن واحد، فكل من القميص والأخوة، والمحبوبة، والأب، والهاربون، واللافتة رموز تختزل واقع عربي مؤلم ملطخ بالدماء، والمؤامرات، وسعي البعض خلف مصالحه وشهواته، والضحايا تختزلها الأنا الساردة، والهاربون.
ــــــــــــــــــــــــــ
3- الهاربون
============
تحت الضباب الرصاصي ، إنساب جمع غفير على أخر جسر لم تدمره تلك الحرب.. بحسراتٍ متقطعة، كانوا ينفثون الدم من صدورهم.. كل واحد منهم يثبت ناظريه أمام قدميه وبقفا من يسير أمامه.. ما كان أحد يحسب أنه ينهش مثل هذه الأجساد.. ذلك الذئب
ومن خلال رؤية نقدر علميتها يتضح من النص أنه عبارة عن قصة اجتماع جمع غفير بعد انتهاء تلك الحرب بالقرب من جسر وحيد لم يطله نارها، وكل منهم مبصر في مكان محدد خوفاً من شيء ما، وحالتهم سيئة جداً، ويصف السارد نفسه بنهاية النص أنه ذئب.
يحتوي النص على مفارقة السلوك الحركي، ولتوضيح ذلك أكثر قد تبادر لذهن القارئ –لوهلة- أن هذا الجمع هم أولئك المواطنون الناجون من الحرب، ولكن هذا غير صحيح؛ بل هم الجنود المنتصرون بها، وتجلت المفارقة بسلوك المنتصر حين ينساب بمشيه كالماء المحصور بخط سير معين، وعيونه مكسورة في الأرض وبقفا من أمامه، وحالتهم الجسدية والنفسية مرهقة كذلك.
والذي أكد مفارقة السلوك الحركي مفارقة القفلة التي قال فيها السارد: (ما كان أحد يحسب أنه ينهش مثل هذه الأجساد.. ذلك الذئب .. أنا…)، فضمير (هذه) يعود على أجساد الجنود المنتصرين، وأسند إليه الفعل (ينهش) الذي قام به السارد، وعملية النهش كانت في تصويرهم ووصفهم وفضحتهم وتعريتهم أمام القارئ والتشهير بهم، الهاربون في هذا النص هم القتلة خارجون بخزيهم وعارهم.
وكما اعتدت على دراسة الثلاثية القصصية البوليفونية القصيرة جداً لعرابها ومبدعها الدكتور حمد الحاجي، يحتم علّي الربط بينها؛ فهي وحدة واحدة، وكلٌّ منها مكمل للآخر، وأرى أن هذه الثلاثية تميزت عن غيرها لأنها احتوت على مفارقة في بنائها الكلي؛ فهي بدأت بتسلسل لم يتوقع نهايته القارئ بهذا الشكل، خصوصاً المتابع لكتابات الدكتور حمد، فدائماً ما تكون النهاية مأساوية ومحزنة جداً.
القصة الأولى بدأت من لحظة تأزم كبيرة جداً داخل السجن تحت الأرض، وعكست مدى سيطرت وهيمنة السجان وجنوده، مما جعل الضعفاء لا ظلال لهم في غيهب الظلمة، والقصة الثانية مرحلة نضال السجين (الأنا الساردة) ضد الجنود، ومسح الدماء بقميص الحب والستر والعفة، والمناديل البيضاء رفعت مراراً وتكراراً اعلاناً لاستسلامهم، بينما القصة الثالثة قدمت لنا صورة هروب الجنود وخروجهم بخزيهم وعارهم، هذه الثلاثية تحمل من الأمل أكثر من الألم، وتهذي بلذة الإنتصار يوماً ما.