الأطفال..أصوات يضطهدها الكبار

*محمد الأسعد

شهدتُ في عدة مناسبات مشاهد حوارية بين الأطفال وذويهم، وأخص بالذكر ما يحدث منها في معارض الكتب. كنتُ أجد أطفالاً يتوزعون جماعات حول المطبوعات الملونة؛ بعضهم يتصفح عدداً منها، وبعضهم يميل على من يجاوره ليريه شيئاً في كتاب. أما الكبار فبعضهم واجم في حالة تأمل. وآخرون يحاولون تهدئة إلحاح صغارهم على الشراء، بينما يشرع البعض في انتزاع مطبوع من يد طفله وإعادته إلى الرف.
وفي خضم هذا الحراك، أسمع ما يقال همساً أو صراخاً، أحاديث متبادلة بين الكبار والصغار، وبين بعض من هؤلاء منفردين أو مجتمعين. وأنظر إلى هذه المشاهد نظرة من يرى تجربة تحدث أمام سمعه وبصره؛ تجتذب فيها الأطفالَ ألوانُ المطبوعات وصورها، ويصاب الكبار بالحيرة فلا يتخذون قراراً، وبعضهم يقرر بحزم، فيمسك بيد صغيره ويسحبه بعيداً. ورأيت طفلة تتمسك بكتاب ملون بشدة، فيضطر الأب إلى دفع ثمنه مرغماً ليضع حداً لما يعتقد أنه مشكلة.

كان ما يحدث «مشاكل» من نوع ما بالفعل؛ فإما الاستجابة لرغبات الصغار أو محاولة توجيه أنظارهم نحو أمر آخر، أو سحبهم وإبعادهم بالقوة عن واجهات الكتب المعروضة. وكان الأمرُ ينتهي إما بالاستسلام لرغبة الصغير، أو الصغيرة، أو مقاومة الرغبة بإصرار، مع حجج وأعذار غير مقنعة بالنسبة للصغار.
ما الذي يجذب الأطفال تحديداً؟ ما لاحظته هو أن الصورة تقف على رأس عناصر الجذب. ليس الصورة كلوحة تشكيلية بالطبع، بل كنسق لوني وتركيبي يتمتع بتغاير لوني وتركيبي لافت للنظر. وتأتي الكلمة المطبوعة في المقام الثاني، بالنسبة لمن هم دون السابعة على الأقل.

بعض الكبار أدهشني تمسكه العجيب بحجة يرفض بمقتضاها شراء مطبوعات مصورة؛ حجته هي خلو المطبوع من مساحات مكتوبة كافية. وشهدتُ الكل تقريباً يتجاهل تجاهلاً تاماً أهمية العنصر التشكيلي في تثقيف الطفل، فلا تلفت نظره رداءة الرسم أو جودته في سعيه نحو الحصول على مطبوع يحتشد بالكلمات. وفي هذا الجانب كانت تبرز نزعة اختيار ما يصلح للصغير من وجهة نظر الكبير بحدة.
لدى غالبية الكبار، كان تجاهل العنصر التشكيلي بارزاً، والاهتمام بأولوية هذا العنصر بالذات بارزاً لدى الغالبية شبه المطلقة من الأطفال. ولهذا كانت تجري مواجهة، بل وصدام، في هذا المشهد، بين هذين النوعين من جمهور المعارض. لا وجود لحوار، أو ما يشبه الحوار. وفي هذه المواجهة لم يكن النصر من نصيب الفريق الثاني إلا نادراً. أغلبية فريق الأطفال كانت تُهزم بعنف بعد أن تتعرض لاضطهاد فريق الكبار ذهنياً وجسدياً. وكثيراً ما شاهدتُ عدداً من المهزومين الصغار وهم يُسحبون بعيداً وعيونهم تتطلع إلى الوراء بحسرة: إلى ساحة المواجهة أمام رفوف الكتب.
في هذا الجانب، حيث يختار الكبار ما يعتقدون أنه صالح لإثراء معرفة الأطفال وعالمهم، لا يمكن ضمان نتائج إيجابية. وفق مشاهدة هذه التجربة ومثيلاتها، يكون منطلق الكبار عادة شيئاً مستمداً من شخصياتهم ورغباتهم أولاً. إنهم يتخيلون أحياناً ماهو مقنع بالنسبة لهم، ولا يفصلون بين شخصياتهم وشخصيات صغارهم. بل إن فكرة الفصل هذه تبدو غريبة غير مفكر فيها أصلاً حين يتصرف الكبار بالنيابة عن الصغار. ولا نبالغ إن قلنا إن هذا النوع من التوجه يتضمن نزعة عدوانية تمحو حساسية الطفل تجاه شخصيته وشخصية الآخر. إنه تثقيف لا يحمل من الثقافة غير اسمها، بينما يعني بالفعل ترسيخ فكرة التماهي بين الأنا والغير، وإمحاء التقدير الشخصي للأمور.
* * *
إذا تجاوزنا ما قلنا إنه تخيّل، نصل إلى ما يمكن أن يكون الاحتمال الأقوى؛ خضوع الكبار لصورة، أو صور نمطية لما يعتقدون أنه ملائم لثقافة الأطفال. فهذه أمّ مقتنعة بألا طاقة للصغار على قضاء وقت في القراءة. كيف ولماذا، وما هو الدليل؟ لاشيء، ولا يمكن مناقشة هذه القناعة لأنها لاتنبع من تفكير شخصي بل من نمط ذهني شائع. وذاك أب قد يصاب بالدهشة لو قلت له إن من الممكن أن يمتلك الأطفال، قبل سن المدرسة، اهتماماً بأشياء أخرى غير الألعاب والدمى، مثل الإصغاء للقصص، أو قراءة المشهد الطبيعي أو الاجتماعي. متعة اللعب في ذهن هذا النوع من الآباء محدودة باقتناء آلة أو دمية، وليست متعة ذهنية على الإطلاق، كأن تكون تمتعاً بالأشكال أو الكلام. وكثيراً ما تنظر غالبية الناس إلى الطفل المنصرف إلى أشياء غير مادية محسوسة نظرتهم إلى شخصية شاذة، تستدعي وضعيتها القلق.
وبسبب هذه الأنماط الفكرية الشائعة اجتماعياً، تشوب ما تعتقده الغالبية صالحاً وإيجابياً في ما يخص الطفولة والأطفال، أخطاء عديدة لا حصر لها. ويتعذر إحصاء كمية هذه الأخطاء لأننا لا نُخضع الأفكار المسبقة للفحص والتحليل، ولا للتجربة حتى، تلك التي تعني التعديل والنمو والتغاير، والنمو أيضاً. ومع الارتياح في ظل أنماط التفكير الشائعة، وفي ظل النفور من التجريب وإعادة النظر، والشك في الطرائق المطروقة، لا يشعر الكبار بالعبء الجوهري في علاقتهم بأطفالهم، عبء كونهم مطالبين بأن يولدوا مع ولادة أطفالهم وأن يتغيروا مع تغيرهم.
في مقابل هذا، هناك عبء من نوع آخر يتحمله الأطفال، ويشعرون به أكثر من غيرهم. لأن الكبار، بتعبير الفرنسي «سانت أكزوبري» (1900-1944) صاحب كتاب «الأمير الصغير»، لا يدركون شيئاً من تلقاء أنفسهم، فلا بد أن يشرح لهم الأطفال، ويطيلوا الشرح، ويكرروا، مع كل ما يحمله هذا من تعب وعناء. وكثيراً ما يذهب التعب والعناء سدى، لأن تمثل الأشياء كما تتمثلها عقلية الطفل، أو حتى تفهمها، مهمة مرهقة.
* * *
العلاقة بين الصغار والكبار، كما أظهرت لنا تجربة الإصغاء لأصواتهم أمام رفوف الكتب، هي علاقة أبرز سماتها الاضطهاد؛ من يسيطر فيها ويضطهد، هو من يمتلك السلطة، سواء كانت سلطة دفع ثمن المطبوعة أو سحب الصغير وإخراجه من المشهد. محاولة الإقناع لا تمارس إلا نادراً. الوقت ضيق بالنسبة للكبير، أو هو خاص بما هو أكثر أهمية، بينما هو شاسع ومحير بالنسبة للصغير.
وهكذا نجد بين أيدينا فريقين مختلفين ومتصادمين في المشهد حول كتاب الطفل، مما يعني التسليم بفكرة نمطية شائعة؛ أن للطفل كتابه الذي يستطيع أن ينعزل معه وحيداً، وللكبير كتابه عن الطفل، وفي معزل عنه أيضاً. لا مشاركة ولا حوار. وليس أمراً بلا مغزى أن نسمع في هذا المشهد أحد الآباء يهمس في أذن زوجه: «معنى هذا أنني سأقرأ لطفلنا.. نحن نريد شيئاً يستطيع قراءته بنفسه».
ويقال في تبرير هذه الوضعية إن هذا هو عصر السرعة، ولا وقت لمثل هذه المشاركة، وستضاف مئات الحجج لتكريس مبدأ خطأ مثل هذا. ولكن ردنا هو أن المساهمة في النمو النفسي للطفل لا تخضع لهكذا اعتبارات. فكما أن الكبير يصيبه الهلع إن لاحظ انتكاساً في نمو طفله العضوي، عليه أن يصاب بالرعب أيضاً إن لاحظ جموداً أو تباطؤاً في تطور طفله النفسي. الكثيرون لا يلتقطون الظواهر النفسية ذات الصلة بالنمو العقلي وإن كانوا أسرع في التقاط الظواهر الجسدية. للطفل جسده النفسي أيضاً، وطاقاته العقلية، وما يشكل جماع شخصيته التي تبحث عن طريقة لتحقيق وجودها. ولا يدافع الطفل عن نفسه بمهاجمة الكبار، بعكس هؤلاء الأخيرين الذين يدافعون عن ضيق مداركهم وأنماطهم الفكرية الملتقطة من الشائع بمهاجمة الصغار، متعللين بأقوال شتى عن حقوق الأبوة، وواجبات الأطفال.. وما إلى ذلك.
ما نعنيه بهجوم الكبار، هو اتخاذ قرارات وأساليب تحكمية بلا استئناف. أكثرها شيوعاً السخرية من عقلية الطفل أو سلوكه أو تفضيلاته. إن امتداح الطفل المنتزع من طفولته وإدانة الطفل الغارق في طفولته في هكذا ثقافة يفترضان أنه كان من الخير ألا يولد طفل في هذا العالم، وإن تسنى له أن يولد فليأت مسيجاً ومثقلاً بسلطة الكبار ونوازعهم ورغباتهم.. وهو أمر محال بالطبع. الطفل لا يفهم ولا يعترف بهزيمته وفق شرائع الكبار. إنه من قوم آخرين تحكمهم شرائع مختلفة.
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *