*نزار آغري
نسير، صديقي آكسل، وأنا، في شارع كارل يوهان في أوسلو. هذا الشارع يشبه شارع الحمرا في بيروت. يشق العاصمة من نقطة في الغرب إلى نقطة في الشرق. يجمع الغرب بالشرق. يصل المدينة القديمة بالمدينة الجديدة. قبيل نهاية الشارع، بالقرب من قصر الملك، هناك مكتبة كبيرة تسمى نورلي. تشبه كثيراً مكتبة أنطوان في الحمرا: شاملة، كوزموبوليتية تبيع الكتب والمجلات باللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية ولغات أخرى ليست العربية من بينها.
سألني آكسل عن آخر كتاب قرأته. قلت: رواية بول أوستر الأخيرة، 4321، لكني لم أنته منها بعد. هي رواية ضخمة من حوالى 900 صفحة من القطع الكبير، صادرة عن دار فابر أند فابر في لندن. صدرت منذ شهر الترجمة النروجية غير أني غارق في النص الأصلي الإنكليزي.
وصلنا إلى مكتبة نورلي وبشكل لا إرادي دلفنا إليها. دخلنا من الباب الرئيس (للمكتبة ثلاثة أبواب). نكزني آكسل وهمس: أنظر.
أنظر فأرى طابوراً طويلاً. عادي، اقول لنفسي. هكذا هم. يقفون في الطوابير من أجل شراء كل شيء: الحبز، الورود، الحليب، الكتب.
ينكزني من جديد. أنتبه إلى أن الأمر يتعلق بتوقيع كتاب. هذا أيضاً عادي. يأتي الكتّاب ويجلسون لتوقيع كتبهم فيقف الناس طابوراً في انتظار أن يأتيهم الدور. ثم فجأة. أراه. إنه هو. بالفعل. بول أوستر. بعينيه الجاحظتين وشعره المشدود إلى الوراء.
كأن الأمر يتعلق بفصل من كتبه. كنا تواً نتحدث عنه. روايته تتحدث عن هذه الظاهرة: الصدفة.
نقنع أنفسنا بأن ننتظر حتى تنتهي حفلة التوقيع كي نقابله. كي نتحدث إليه. نفعل.
في الإنتظار نراقبه. ينحني برأسه على الكتب التي يوقعها. يتبادل أحاديث مقتضبة مع الشارين. يبتسم. ألاحظ أثار الزمن: ترهل وجهه، زوغان عينيه، انحسار شعره، مظاهر الإنهاك. وحين ينتهي وينهض، ألاحظ انحناءة في ظهره.
طلبنا أن نجري معه مقابلة، آكسل وأنا، غير أنه اعتذر بشدة وقال أن لا وقت لديه. طائرته تغادر مساء، وهو مدعو الآن إلى بيت أحدهم. برفقته امرأة لا أعرفها. أقصد أنها لم تكن زوجته، الروائية سيري هوستفيدت، النروجية الأصل، والتي سبق لي أن التقيتها حين ألقت محاضرة في بيت الثقافة منذ فترة.
حين عرف أنني سأكتب عنه لصفحة عربية تصدر في لبنان، سألني إن كانت قد صدرت ترجمات لروايته بالعربية، فقلت: ليس على حد علمي. قال: أنا اسأل لأني أعرف أن دور النشر العربية تترجم قرصنة، أي من دون علم الكاتب أو دار النشر. اتفقنا أن نقضي معه بعض الوقت في الدردشة واقفين داخل المكتبة. أن نطرح بعض الأسئلة ثم نتركه في حال سبيله.
هو يهودي من أصل بولندي. حين كان في الثالثة من عمره أنجبت أمه طفلة، أخته الصغرى، معاقة نفسياً. اثر ذلك فيه كثيراً. ربما منذ تلك اللحظة بدأ يطرح على نفسه وعلى من حوله الأسئلة عن الأقدار والمصائر. تخرج في جامعة كولومبيا العام 1970. انتقل إلى باريس وأقام فيها مع صديقته الروائية ليلى دافيس، التي تزوجها وأنجب منها ابنهما دانييل. عملا هناك في الترجمة من أجل كسب قوت العيش.
عاد إلى نيويورك العام 1974 وانفصل عن زوجته. وفي العام 1981 تزوج من الكاتبة سيري هوستفيدت. هما يعيشان الآن معاً في بروكلين مع ابنتهما صوفي التي تعمل في التمثيل وكتابة الأغاني.
أصدر روايته الأولى “اختراع العزلة” العام 1981. الكتاب من جزئين هما “بورتريه رجل غير مرئي” ويتحدث فيه عن وفاة والده المفاجئة. و”كتب الذاكرة”، وأدلى فيه للمرة الأولى بآرائه عن القدر والمصادفات.
رواية “مدينة الزجاج”، الجزء الأول من “ثلاثية نيويورك” رفضها 17 ناشراً قبل أن توافق دار نشر صغيرة في سان فرنسيسكوعلى نشرها العام 1985. الجزآن الآخران، “أشباح” و”الغرفة المقفلة”، كتبهما العام 1986. حققت الثلاثية شهرة واسعة وشكلت بداية عمله الأدبي هو الذي قرر بعد عودته من باريس أن يصير أديباً.
كان قد أصدر العام 1972 ترجمة لقصائد فرنسية تحت عنوان “أنطولوجيا صغيرة للشعر السوريالي”.
يخبرنا: “أكتب دائماً بالقلم. قلم ناشف. أحياناً رصاص. لو كان في مقدوري الكتابة على الكومبيوتر لفعلت. أعجز عن التفكير حين أرى يدي تتموضع في هيئة محددة على الكيبورد. مع القلم، تشعر بأن الأفكار تنتقل مباشرة من جسمك إلى الورق. الكومبيوتر يخيف ويحجز الأفكار. يطردها. الكتابة فعل جسدي”…. “حين انتبه كيف أني أجبر نفسي على الكتابة فيما أفكر في العيش خارج غرفة الكتابة، وأعرف كم هي الحياة جميلة وممتعة هناك، يخطر لي أن ما أعيشه هو أغبى طريقة للعيش. الكتابة أمر منهك جسدياً وذهنياً. ليس هناك من شخص يكتب إلا إذا وجد نفسه مضطراً لفعل ذلك. لسبب أو لآخر.. لكن هناك ما يمكن أن نسميه الجوع للكتابة. حتى ولو رفضت العبارات الجميلة أن تأتي فإن النشوة المتأتية منها، كافية بحد ذاتها لخوض المخاطرة. أنا أشعر بأنني أعيش حقاً حين أكتب”.
كان يدخن السيكاريللو، لكنه أقلع عنه وصار يدخن السيجارة الإلكترونية. يواظب على ارتداء اللون الأسود. البنطلون، القميص، الكنزة، السترة، الجوارب.
يساري النزعة، يكره دونالد ترامب إلى حد الهوس. كان قد عارض الحرب على العراق. رفض زيارة تركيا: كيف أزور بلداً تسجن حكومته الكتّاب والصحافيين؟
مغرم بصموئيل بيكيت. المقربون اليه: دون دي ليلو، وسلمان رشدي، وج. م. كويتزي، الذي تبادل معه رسائل نشرت في كتاب.
مغرم بالبيسبول أيضاً، بل إنه اخترع لعبة مستمدة منها وأخذ يبيعها بعد عودته من باريس.
“مات والدي بسكتة قلبية. الأشياء غير المتوقعة تحدث في كل لحظة. لا قانون ولا منطق. يمكن الآن وأنا أتكلم أن يتوقف قلبي وأموت، أو أن ينهار المبنى لسبب أو آخر”.
“كل الأشياء التي فعلتها في طفولتي ومراهقتي أثّرت فيّ. قراءاتي، مشاهداتي، مغامراتي، حماقاتي. أفلام الكرتون، المسلسلات الكوميدية، المجلات، الأخبار. كلها ساهمت في صياغة شخصيتي، كما أقف الآن أمامكم”.
يرى أن العالم مكان غير مستقر، متحرك، لا يمكن التوقع بسيرورته، لا من حيث حوادث الطبيعة ولا حتى في السياسة والتحولات المجتمعية: “من كان يتوقع أن يفوز دونالد ترامب برئاسة أكبر ديموقراطيات العالم؟”.
“حياتي، مثل رواياتي، تشبه الحكاية. إنها إلى حد ما حياة ما وراء حياتية، ميتافيزيقية.
روايته الجديدة “4321”. يعيش بطل الرواية، ارشيبالد فرغسون، حياة من أربع نسخ.
الشخص نفسه، العائلة نفسها، الأب والأم الجينات، لكنها حيوات مختلفة باختلاف المحيط الإجتماعي، وبالتالي المصائر.
يقول إنها أهم رواياته على الإطلاق. مأثرته. خلاصة حياته. استعجل في كتابتها لأنه خاف أن يموت قبل أن ينهيها. ألغى كل المواعيد واللقاءات واعتكف في القبو: “حجزت نفسي في القبو ورحت أكتب سبعة أيام في الأسبوع. أردت أن أنهيها قبل أن يخطفني الموت. فهو على الأبواب وجاهز في أي لحظة ليأخذك”.
الرواية تسير على تخوم السيرة الذاتية غير أنها ليست كذلك. السيرورة الزمانية لبطل الرواية، فيرغسون، توازي تلك التي عاشها الكاتب: حرب فيتنام، ثورة الشباب في أوروبا، مقتل كينيدي. الخ. كذلك أماكن الإقامة: نيوجرسي، نيويورك، بروكلين. كما تحضر شخصيات روائية من كتاباته السابقة.
فترة المراهقة هي أكثر المراحل ثورية في حياتنا. هي التي تحدد شخصيتنا المستقبلية.
الحادثة التي شكلت محوراً وجودياً في حياته ومهدت لكل كتاباته الإبداعية، هي عندما مات صديقه أمام عينيه. كان في رحلة كشفية مع رفاقه في المدرسة الإعدادية. ضربتهم صاعقة رعدية. كانوا يسيرون في طابور ليمروا من تحت الأسلاك الشائكة. كان التلميذ الذي أمامه يزحف تحت الاسلاك مباشرة، وفي تلك اللحظة، ضربته الصاعقة.
“لحظات قليلة أنقذتني من الموت. لو أن البرق تأخر نصف دقيقة، لكان أصابني أنا، وليس التلميذ. لماذا حدث الأمر على هذا النحو؟ من قرر أن يموت التلميذ وليس أنا؟ الصدفة. ما هي الصدفة؟ هل لها قانون، ناظم، منطق، تفسير؟”.