■ لا شك في أن بعض الأمم لن تتقدم ما دامت تنتهج، أو تتملكها نزعة الاستلاب التي تعد نزعة بشرية غير سوية، لا يمكن القضاء عليها كونها عميقة التكوين في الإنسان على المستويين: الفردي والجمعي، فهي مكون عضوي وموضوعي في العقل البشري، إذ تخللت التاريخ البشري منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، بحيث شكلت جزءاً من الذاكرة البشرية. وعلى الرغم من صعوبة محو آثارها وتداعياتها، مع ذلك، يمكن التقليل من آثارها.
في اللغة العربية، ومن خلال معاجمها المتعددة، يلاحظ أن كلمة «الاستلاب» تتشارك أو تتجاور مع معان أخرى، ففي معجم مقاييس اللغة ثمة إشارة إلى الانتزاع، أما في صحاح اللغة فنقرأ الاختلاس، في حين أن لسان العرب يذكر الخطف، وهناك أيضا الاقتلاع… والسلب ما يؤخذ في الحرب، وغير ذلك من المعاني التي تتداولها المعاجم، والتي تحيل إلى مكون يعتمد تجاوز الإرادة الذاتية للضحية، وهو ما يعد انتهاكاً للطبيعة البشرية.
ولعل مفهوم الاستلاب لا يبتعد عن عبارة السلب والنهب بمعنى السرقة، غير أن هذا المصطلح في القراءة الثقافية يأتي متقاطعاً مع ممارسات منها الخضوع والاستعباد، والمعنى الأخير يحملنا إلى ممارسة اجتماعية ثقافية سائدة عبر التاريخ، فالإنسان لطالما سعى إلى إخضاع الآخر، الذي يعني الضعيف، فلو كانت القوة مجالاً سائداً لا متنحيا في الآخر، لما تحقق هذا الوصف، أو للاستلاب، الذي يتمظهر في عدة مظاهر، تتراوح بين المادي والمعنوي، فلا جرم أن يشير ريموند وليامز إلى نطاقاتها المعرفية التي تشمل النظرية الاجتماعية والاقتصادية والفلسفة وعلم النفس.
في تتبع وليامز لمفردة الاستلاب ثقافياً ثمة إشارات بالغة الأهمية، كونها تدفعنا إلى تأمل آثار هذه الممارسة على الذات البشرية، ولاسيما تلك التي تستشعر غيريتها، أو اغترابها عن ذاتها، كون الاستلاب يتجاور مع مفهومي الإقصاء، والإبعاد، أي ثمة قطيعة تتخلل الإحساس، وهنا ينبثق الوعي ليمارس سطوته، وبالتحديد حين يدرك الإنسان حصاره جاء نتيجة الاستلاب، فالحرية على سبيل المثال شكلت أهم مطالب الإنسان فرديا وجميعاً، فالاستعمار قد استلب حرية الشعوب المستعمرة، فضلا عن مقدراتها الاقتصادية، وهذا يقودنا إلى استلاب الأوطان، بتاريخها وحاضرها ومستقبلها، مما يفعّل وعي الاغتراب.
إن مفهوم الاستلاب في أحد معانيه، يعني نقل الملكية من وإلى، أي بمعنى مباشر «الاختلاس» حسب المفهوم القانوني، وهكذا يبتعد وليامز قليلاً لقراءة التأثير الرمزي للاستلاب بأنه ينطوي على تداعيات عميقة التأثير، فالاستلاب يعني تعطيلاً، بما في ذلك القدرات الذهنية مما يقود إلى ظهور الجنون، فالاستلاب قانونياً ومعنوياً يبدو نتاج موضع جدلي يصيب البنية الشعورية أو العاطفية للإنسان مما يحفز ميكانيزم الانتقام، أو الرفض، أو الثورة، التي تتطلب مجتمعة وعياً بالاستلاب وآثاره، وبما أن الذي يتعرض للاستلاب مكون ضعيف، تعمل الذوات المستضعفة على تكوين فعل تآزري من أجل قهر الاستلاب، وبهذا فإن أي حضارة تعتمد في أسسها على قيم الاستلاب، فإنها – وبلا شك- لن تستمر.
لقد استطاع الغرب أن يقيم توازنه القانوي، ونبذ معنى الاستلاب الذي كانت تمارسه سابقاً جماعات من الإقطاعيين أو طبقات من الأرستقراطية أو حتى البرجوازية، غير أنها سرعان ما نقلت الاستلاب إلى محور أكبر، حيث مارست الحالة الاستعمارية، ومع ذلك فقد تمكنت من تكريس حالة مجتمعية (داخلية) بحيث جعلت من الاستلاب فعلاً يطاله العقاب، وأقصى درجات التجريم، وبهذا فإن مؤسسات المجتمع المدني، والأجهزة التشريعية والتنفيذية أصبحت تدرك أن الاستلاب يعدّ من أهم أسباب الانهيار المباشر للدولة، كما السبب المباشرة لتفسخ معنى العقد الاجتماعي القائم بين الدولة والمواطن.
لا شك في أن آلاف السنين لم تتمكن من تخليص العقل العربي من ممارسة الاستلاب، وتوصيفه بأنه حق للأقوى، فالتاريخ العربي إلى يومنا هذا، لم يتمكن من نبذ الاستلاب، أو التعامل معه على أنه ممارسة بغيضة، بل هو من أقسى الممارسات التي عرفتها البشرية، فسلب النفس، والمال، والحق والحرية، ما زالت ممارسات قائمة في دول لم تصل بعد إلى مستوى النضج في تمكين القانون، فلا جرم أن تنهار الدويلات، ولا تمضي إلى أبعد مما يتوقع، كونها ما زالت تمارس السلب والاستلاب بشكل هرمي، حيث تسلب الحكومات من مواطنيها شعور الحرية، ويسلب المسؤولون حقوق المستضعفين، وبذلك أضحت تنتشر قيم، باتت تمتلك شرعيتها بوصفها جزءا من العرف، فالمسؤول سيمضي في سلسلة من الاستقواء، وممارسة توريث قوته لمن بعده، ليكون وريثه مسؤولا من بعده، في حين أن مقولات القانون لا تكتمل، فالسلطة تطالب الجميع بالقيام بواجباتهم تجاه الدولة، ومنها على سبيل المثال دفع الضرائب، ولكنها تسلب معنى المساواة في العمل والحقوق، بما في ذلك بعض الوظائف الحيوية والمناصب ومواقع السلطة، التي تبقى مقصورة على فئة معينة. وهكذا تنتشر هذه الممارسات بشكل أفقي وعمودي لتتحول إلى أنساق من الاستلاب الممنهج والمستند إلى منظومة عرفية، في حين أن القانون معطل، كونه مستلبا من السلطة، غير أن آثار هذا الفعل تتجاوز هذا المستوى، ونعني أن تستلب القدرة على توظيف القانون، وهذا يقود إلى تعطيل نهج التفكير، فلا جرم أن تتخلى المؤسسة التعليمية في معظم الدول العربية عن تدريس الفلسفة بوصفها محفزة للتفكير، وبذلك فهي تسلب أهم أسس مقاومة الاستلاب من أجل أن تبقى منظومة الخضوع شكلا متعسفاً من أشكال الممارسة الاجتماعية، ولعل هذا ما أشار له جاك جان روسو، حين تبصر تداعيات الاستلاب بوصفها تقود الإنسان إلى أن يكون مقصياً، أو منعزلا عن طبيعته الأساسية، فهو مستبعد من التواصل مع منظومته الدينية؛ لأن ثمة نواباً وسلطة دينية تحتكر المعرفة، وهذا ينسحب على كافة المستويات، فالإنسان لا يشارك في توجيه مستقبله أو شكل حياته؛ لأن ثمة سلطة تعرف أكثر منه، بل هي قادرة على سن القوانين، واختيار ما هو أفضل للإنسان، ولهذا فإننا في تحديد السياسات في الدول النامية، أو غير الديمقراطية، فإنه غالباً ما تتخذ القرارات ضمن بنية سلطوية، تقودها مجموعة، في حين أن مفهوم الاستفتاء حول قرار يرتبط بمكون جمعي غير مفعل في معظم هذه الدول، وبذلك فإنها تخلق نظاما يبعد الإنسان عن تكوينه، أي بمعنى الحرية التي تولد مع الإنسان، فالاغتراب الناتج عن الاستلاب يتفق مع تنظيرات علماء النفس الذين يشيرون إلى تداعيات الاغتراب الديني المقترن بالاغتراب الدنيوي، والأخير يعني أنك لا تملك ممارسة أو اختبار أطوار الحضارة، أي تحقيق التطور الطبيعي للحضارة من طور البدائية إلى الحرية المطلقة، مما يعطل هذا التسنين الحضاري، ويحدث تشوها عميقا في البينة النفسية للإنسان لتتحول في مجملها إلى ذوات خارج التاريخ، ولعل هذا مما يدعو إلى توصيف عدم قدرة الثقافة العربية على المضي في سلم الحضارة، كونها تستلب معنى التطور الطبيعي للذات في تعاطيها مع الحضارة وممارستها.
لا بد من الإشارة إلى ملحوظة شديدة الأهمية كونها تفسر أثر تعطيل أو استلاب النموذج الطبيعي للتطور الحضاري في بنيته الفردية والجمعية، حيث يشير وليامز إلى أن النموذج البديل لهذا التعطيل أي استلاب شهوة الحضارة، أو شهوة الذات لممارسة ما ترغب به (الطاقة الرئيسة) يتسبب بأن تسعى الذات إلى شكلين أو مسلكين: استعادة شعور المقدس أو من خلال تقليد بديل للرغبة ربما تكون جزئية، وهو ما يطلق عليه وليامز جزءاً من الثمن المدفوع للحضارة. ولعل هذا الموضع يستدعي مفهوم هيغل، ونعني به «الروح ذاتية الاستلاب»، وينهض على أثر العائق الذي يحول بين الإنسان وطبيعته البشرية الأصلية، إذ لا يمكن تجاوز هذا المصير إلا بأن تصنع ذاتك، وهكذا، فلا جرم أن تبرز الأفكار الثورية والاشتراكية، والمنظورات الدينية الماضوية، بالإضافة إلى المجتمعات المدينة والنقابية كي تقلل من هذا الاستلاب، ولكن هذا لا يتحقق في عالمنا العربي الذي يبقى على ظواهر هذه الأفكار من خلال مؤسسات صورية، أضف إلى ذلك بأنه يمارس استلابا مركبا ومزدوجا، فهو يرفض منطق الفكرة- التفكير، ويقصيه، فكل منتج لفكرة إما أن يٌقصى أو أن يجهز عليه، أو أن يعاد تدويره ليكون ضمن سلسة السلطة الاستلابية.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن شعور الإنسان بأنه غير قادر على نشاطات مرضية بوصفه إنسانا مما يعدّ من أقسى الأقدار كآبة – وهنا أستعير جزءاً من عبارة إدوارد سعيد- فالإنسان في مجتمعاتنا لا يمتلك النموذج كي يتخلص من الاستلاب، ويتلمس حقه البشري بأن يكون جزءاً من التطور الحضاري للمجتمع، إنما ينظر له بوصفه وقودا لتطور السلطة التي لا تستهدف إلا الإبقاء على وجودها فقط.
____
*القدس العربي