الوحش

خاص- ثقافات

*مايك ربلينو/ ترجمة : د.محمد عبد الحليم غنيم

    كانت أختي “بوني” منشغلة بغسيل الأطباق عندما دخلت عليها المطبخ ، رميت البريدـ الذي كنت قد فرزته ـ فوق المنضدة والتفت حولي أبحث عن ابنتى “صوفيا ” ذات الأعوام الأربعة ، سألت :

   – بوني .. ألم تجهز صوفيا حتى الآن ؟

   – أعدت الحذاء والجورب ، ألا من أخبار عن جاك ؟

   قلبت فى البريد مرة أخرى ، لربما أكون قد نسيت رسالة ، أو لربما كانت هناك رسالة مدفونة على نحو ما فى كومة الفواتير ، قلت :

  • لا .. و لا رسالة .

     ابتعدت بوني عن الحوض ، فأحسست بما سيأتي بعد

  • اسمعي يا ماري .

     قالت ذلك وهي تجفف يديها

  • بوني .. رجاء ، ليس الآن .

    قلت ذلك وأنا أعلم أنها ستواصل :

  • ماري .. أنت تحتاجين أن تفكري جيدا فى هذه الحقيقة وهي أن كل شيء انتهى وأن جاك قد ذهب ولن يعود إليك أو إلى صوفيا .

     سحبت منشفة الأطباق من الدرج وشرعت فى التجفيف ، ثم تطلعت عبر النافذة من فوق الحوض إلى محطة الحافلات الخالية وقلت :

  • صوفيا ابنته الوحيدة يا بوني ، لماذا لم يرسل إليها ،على الأقل، بطاقة في عيد الميلاد ؟ لقد رأيتها وهى تنتظر طوال اليوم ساعي البريد ، لدرجة أنها حتى لم تهتم بهديتي إليها .

  • حبيبتي .. أنت أختي وأنا أحبك ولذلك لا تغضبي مني عندما أقول ذلك .. أنت فى حاجة إلى تغيير حياتك ، هذه الحياة الباهتة لا تصلح لك أو لتلك الطفلة .

     قلت وأنا أنظر إلى الساعة :

  • أين الملعونة صوفيا ؟ نحن على وشك أن نفقد الحافلة .

  • ماري .. يجب أن تسمعيني . لم لا تخرجين فى الليل ؟ أستطيع أن أرعى صوفيا !

  • شكرا .. ليس هناك من حل ، يكفيها سوءا أنها تعيش بدون أب ، أقل ما يمكن فعله مع هذه الفوضى التى أسببها أن أكون أما لطيفة .

     رأيت صوفيا تندفع إلى الغرفة وهي تبتسم وتلهث ، جعلت إصبع قدمها نحوي وهي تقف بتوازن فوق مقعد المطبخ ، حيث الجورب داخل من ناحية وخارج من ناحية أخرى ، وكعب الحذاء مائل على ناحية ثالثة ، قالت :

  • مامي .. انظري لبست الجورب كله بنفسي

  • أنت فتاة كبيرة .. تعالي هنا ، دعي ماما تساعدك فى لبس الحذاء وإلا تأخرنا عن الحافلة .

     بمجرد أن وقفت أنا وصوفيا فى محطة الحافلات ، رفعت رأسي إلى السماء الربيعية ، وأخذت نفسا عميقا ، شعرت بالراحة وأحسست بكتفي ينخفضان وأنا أزفر الهواء ، ولكن عندئذ جذبتنى صوفيا من يدي فى ذعر :

  • مامي مامي .. نسيت البيبى ـ نسيت البيبى .

     وكانت الدموع قد نزلت من عينيها الزرقاوين الكبيرتين ، وارتجفت شفتاها عندما أدركت أنها نسيت دميتها المفضلة .

  • ليرحمني الرب .. صوفيا لا تبكي . ستجدينها عندما نعود

  • لا مامي .. لا يمكن أن أتركها فى المنزل هي تحتاج أن تأتي معنا .

  • حسنا .. اذهبي وأحضريها ، ولكن بسرعة .. اليوم هو السبت وإذا فقدنا الحافلة لن تأتي آخرى إلا بعد ساعة .

     راقبتها وهي تجري إلى المنزل ، ثم وهي تقفز إلى سلم الشرفة.

  • مامي .. لم أجدها هناك .. إنها ليست فى الشرفة

     صفق الباب الداخلي بعد أن دخلت صوفيا ، كيف هان لجاك أن يفعل بها ذلك ؟ كيف يستطيع أن ينام فى الليل ؟ وكيف وقعت أنا فى حب مثل هذا الخسيس ؟ نظرت إلى الشارع من جديد ، ماذا لو لم تعد صوفيا فى موعد وصول الحافلة ؟ شددت فكي ، غرزت أظفاري فى راحة يدي ، انتظرت ، مرة أخرى تطلعت ، وأخيرا رأيت الحافلة تقترب ، يجب على صوفيا أن تسرع بالخروج من المنزل حالا وإذا لم تخرج ، أدرك أن على أن أختار : إذا لم تكن هنا مع وقت تحرك الحافلة يمكن أن أنتظر الحافلة القادمة ، أو يمكن .. أ يمكن أن أركب بدونها ؟ وبوني فى الداخل ،يمكنها أن ترعاها لعدة ساعات بينما أذهب إلى المدينة ، إنه يوم عطلتي الوحيد ويجب على أن اذهب إلى “محل النافذة” لتناول الغداء فى المطعم الصغير .

    وصلت الحافلة وفتحت أبوابها أمامي فى الحال ، لم أستطع أن أنظر إلى الخلف ، الهواء ساكن خلفي ، هكذا الأمر, ليس أمامك غير هذا ، وضعت قدما على السلم ، ثم الثانية ، ثم دلفت إلى الحافلة بحرية ،  دفعت الأجرة ، ووجدت مقعدا بعيدا عن النافذة ، لذلك لن تستطيع صوفيا رؤيتي لتلحق بي ، أغلق الباب وحشرج صوت المحرك بمجرد أن تحركت الحافلة من الرصيف ، لكن ثمة صرخة حادة ، صرخة طفل ، ثم  زعقت الفرامل .

     فتح السائق الأبواب فجأة وقفز نازلا لمساعدة طفلة صغيرة تقف بجوار الرصيف ،  تصرخ قائلة ” توقف .. توقف أنت أخذت مامي” أخذها السائق من يدها الصغيرة وقادها نحو السلالم بينما كانت تحتضن الدمية .

     كان نشيجها عاليا ومبللا بالدموع ، رأتني فزاد صوت بكائها ارتفاعا ، جرت عبر الطرقة وألقت بنفسها عند ساقي

  • مامى .. أنت نسيتني

     أغلقت الأبواب للمرة الثانية ، وتحركت الحافلة ، طويت صوفيا بذراعي ومرجحتها ، قفزت الدمية إلى حضني ،  حدق الناس فينا ، من غير المؤكد معرفة ماذا يفكرون .

  • مامي .. لماذا تركتينى ؟

  • أنا لم أتركك يا حبيبتي .. مامي لا يمكن أبدا أن تتركك

     النظرات تنطق بأحكامها ، هؤلاء الغرباء يظنون أن ما حدث نوع من الخطأ . ولكن ليس كل الآباء يحاولون أن ينسلوا بعيدا أحيانا ! عادة يجري ذلك فى المنزل . هذه الطفلة تجري للحاق بالحافلة المتحركة ! هذا ليس خطأ .. لا توجد أم تركب حافلة وتنسى طفلتها ، أي نوع من الأمهات يكون ؟ أي نوع من الأمهات أكون أنا ؟ لابد أن تكون وحشا ، نعم لابد أن تكون وحشا .

     بمجرد أن استقرت صوفيا فى حضني هدأ النشيج ، واستطعت أن أشم رائحة شعرها ، نظيفا وصغيرا ، بينما كان رأسها يستكين على صدرى ، اهتزت بلطف تهدهد نفسها على إيقاعها  خاص ، وهي تغني للدمية .

  • كل شيء على ما يرام هنا يا مامي .. كل شيء على ما يرام يا صغيرتي .. على ما يرام .

     وودت لو صدقت كلامها .

     واصلت الحافلة رحلتها ، لكن الغرباء ما زالوا يدمدمون مع بعضهم البعض ، أحيانا واحد أو اثنان ينظران إلى الوراء بينما يتحدثان إلى أصدقائهم المعتادين ، هؤلاء الناس الذين يأخذون الحافلة  نفسها ، فى نفس الوقت ، ونفس الأيام إلى نفس الأماكن ، إذا ابتسمت إليهم سيعتقدون أنني مجنونة .. هل أنا مجنونة ؟ متى بدأت أهتم بما يعتقده الآخرون فيً ؟ أريد أن أصرخ ، بيد أنني لا أستطيع لأن طفلتي تجلس فى حضني .

     لقد انتهت زفرتها بمرور الوقت ، لذلك يجب أن أتعلم أن الزمن غير محسوس لطفلتي ذات الأعوام الأربعة ، أمسكت بصوفيا ودقنى مستندة على رأسها ، ثم نظرت إلى الخارج عبر النافذة ، متجنبة حملقات الناس ، شكرا لله أن صوفيا توقفت عن البكاء .

     مررنا ببيوت أنيقة ومرتبة وذات مروج مشذبة وأراجيح تنتظر عودة الأطفال من مدارسهم ومن الملابس المغسولة المعلقة على الحبال ، تخيلت عائلة : النسيم يهب على ملابسها ، ترقص القمصان والبناطيل ، وستلاحظ الأم وهي تطوي الملابس بعد العشاء ، كيف تفوح منها رائحة الشمس القوية .

   أعلن السائق عن المحطة القادمة ، عرفت أنها محطتنا وتجهزت لرؤية الوجوه مرة أخرى ونحن نأخذ طريقنا للنزول من الحافلة, لا أستطيع أن أواجه عيونهم ، لذلك نظرت إلى الأرض وأمسكت صوفيا فى يدي ، وبينما نتجه إلى مقدمة الباب ، كانت صوفيا تقول وداعا وداعا ، لكل صف من صفوف الركاب ، فزادت من إدانتي .

     وقفنا أخيرا على الرصيف ، تحركت الحافلة ، آخذة معها أعضاء المحكمة النبلاء ، شعرت بالشمس تسقط على وجهي من جديد ، تنفست بارتياح وأنا ما زلت أمسك بيد صوفيا .

  • مامي .. هل آن وقت الغداء ؟

  • تقريبا يا حبيبتي .

     وقفنا على الرصيف ، كانت الإشارة حمراء ، نظرت إلى صوفيا ورأيت تلك العينين الكبيرتين الزرقاوين تنظران إلىً ، وكان أنفها ما زال أحمر من أثر البكاء ، ورموشها ملتصقة   من جراء الدموع  .

     تحركت السحب بلونها الرمادي ، لتغطي الشمس والهواء القارس ، اتكأت صوفيا على ذراعي باحثة عن الدفء ، كانت دميتها تهتز فى يدها الطليقة ، عند ذلك تغيرت الإشارة ، فتركنا الرصيف وعبرنا الشارع يدا بيد .

المؤلفة :

     شاعرة وكاتبة قصة أمريكية تعيش فى مدينة نيويورك ، وهذا أحد أعمالها المنشورة على شبكة الإنترنت وهو موجود على موقع (anderbo.com )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *