*أمجد ناصر
إنها زليخة أبو ريشة، الشاعرة والرائدة الأدبية الأردنية. أما معركتها فهي معركتنا كلنا مع المزيج المتفجِّر من الإرهابيْن الديني (الجاهل حتى بالنصوص الدينية، فما بالكم بتأويلاتها التي لا حصر لها!) والسياسي الاستبدادي. تحالف معلنٌ مرةً، مضمرٌ مرةً أخرى بين محوليْ الدين إلى أيديولوجيا كحجر صوانٍ لا فراغات فيها ولا مسامات، وبين الاستبداد السياسي الذي يخوّفنا من دعاة هذه الإيديولوجيا المصْمتة، لكي نصطفّ ليس معه، بل وراءه، كقطيع مغمض الأعين. من ينظر إلى معركة النهوض والديمقراطية وبناء دولة المواطنين بغير هذا المنظار، مزدوج العينين، لن يرى. سيرى بعينٍ ويغمض الأخرى، ما يؤدي إلى النتيجة نفسها. الاستبداد يؤدي الى الأدلجة الدينية، والأدلجة الدينية تؤدي إلى الاستبداد، والرأي عندي أن الأول لا يحمي من الثانية، والعكس صحيح.
أعود إلى معركة زليخة التي تخوضها، أو تخاض عليها، منذ إجهاض الربيع العربي وإطفاء مشاعله المنوّرة الأولى. فإن تناولت المناهج الدراسية يطلع حماة الدين، والديار، معاً في صوتٍ يشبه الجوقة المنسقة لتسفيه الرأي، ثم لإسقاط الأهلية الفكرية، وإن تجرأت على أفكار الإسلام السياسي أو مسالكه، تُهدَّدُ حياتها التي لم يعطوها، ولكن بمقدورهم حصدها بمسدّس، بسكين، بضربة حجرٍ على الرأس. ولا أحتاج حتى لضرب مثلٍ على ما أقول، فالأمثلة تكاد تكون قاعدةً على هذا الصعيد، وليس استثناء. من مغرب العالم العربي إلى أقصى نقطةٍ في مشرقه. كلنا في هذا الهمّ شرق، على حد تعبير “أمير الشعراء”.. ويا لها من نبوءة مبكّرة، سطَّرها الشعر، على مآلات سكان هذا الكوكب المنكوب المسمّى: العالم العربي.
زليخة تتحدَّر، كما يعرف بعضهم على الأقل، من عائلة أدبية عريقة (فيها مثلا عمر أبو ريشة) ومن عائلة متصوّفة تمارس دين الأعماق، وليس دين السطوح والأيدي التي تقطر ماء وضوءٍ مرائياً. إنها من هذه التربة القديمة الخصبة التي أنبتت أشكالاً مختلفة من التصورات الدينية الأولى، والأديان ذات الرسل، وكان فيها للدين الإسلامي مروحة ألوانٍ وليس لوناً واحداً يريد الإيديولوجيون حصره في قالب حديدي واحد، فمن خالفه، نسبياً حتى، سلك طريق الكفر والردَّة الجديرين بحدِّ السيف (الذي لا يزال مسلطاً على رقاب غلابى ومساكين في دولةٍ عربية تدّعي محاربة الإرهاب، وهي مرضعته).
على الذين أطلقوا التهديدات الأخيرة بحق زليخة، والكاتب الصحافي الأردني باسل الرفايعة، (وهم متشدّدون أردنيون يسرحون ويمرحون من دون مساءلة) أن يتذكّروا حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة على نحو لم نر في وحشيته عند الصهاينة. على هؤلاء، بل على الأردنيين الذين ينخدعون بخطابهم، أن يتذكّروا البزّة البرتقالية والقفص الحديدي والنيران التي تستعر في جسد رجلٍ حي، لا يستطيع منها فراراً. لم يكن ذلك فعلاً حربياً (لخسَّته وغدره) بل استند إلى “تحليل” التحريق في الإسلام. فالداعشية ليست حكراً على أتباع البغدادي، وأساليبهم الوحشية، فهناك داعشية “فكرية” أيضاً، تمهد الأرض لداعشية التطبيق. ألم يستند حارقو الكساسبة إلى فتوى ابن تيمية بجواز حرق “المماثلة”؟ وعندما تصدّى للفعلة الخسيسة “المعتدلون” زادوها شناعة، إذ قالوا إن المقصود حرق جثث الكفار!
التكفير وإحلال الدم لفظياً ليسا أقل جرماً من القتل. يحتاج القتل “المؤدلج” إلى كلمةٍ تغطي الدم المهرق، وتجعله “حلالاً” شرعاً، وهذه يتكفّل بها فقهاء الظلام.
وفيما أقف، بلا تردّد، إلى جانب زليخة وباسل، وكل من تُهدَّد حياته بسبب رأيٍ أو فكرة، أجد لزاماً عليّ تذكير بعض الذين انتصروا لحرية التعبير أن الإرهاب ليس، فقط، في دس الدين في السياسة (وهما من معدنين مختلفين) والتسلّط على ضمائر الناس ومعتقداتهم، بل ذروة الإرهاب، الذي ما بعده إرهاب، تتجسَّد في قتل مئات الآلاف من الأبرياء وتشريد الملايين، في أربعة أركان الدنيا، وإهدار آخر نقطةٍ من السيادة الوطنية، من أجل بقاء طغمةٍ عائلية، أو عسكرية، في الحكم.. رغم دم الناس المراق، رغم تدمير المدن، رغم اختناق الهواء بالغازات.
على من ينتصر لحرية التعبير فعلاً أن ينتصر لمئات آلاف الضحايا، ملايين المهجّرين، للأكفان البيضاء الصغيرة التي ورايناها التراب في مقابر جماعية، لعلَّ لعنتها تكفُّ عن مطاردة صمتنا، شريك الجريمة.
________
*العربي الجديد