وقفتُ ألتقطُ صورا تخلد جمالَه الخديج بفعل خروجه كرها من رحم الزلازل الغابرة. أحسستُ أن شيئا ما غيرُ مكتمل فيه، رغم ضخامة جسده، مثل منحوتة لميكيل أنجيلو غير مكتملة. وقلت ما لي ولولادته وعمري كله ثانية من ثوانيه وعبوري صغير فانٍ في أعاليه رغم توثيق الصور. أعلم أنني أعوامًا بعد نسيانٍ سوف تفاجئني لـُقيا الصور في أحد الملفات إن نجت من فيروس رقمي، أو يذكرني بها الفضاء الأزرق، آليا دون إحساس. يذكرني فأتذكر أنني حينها فضلتُ الصور على إنعام البصر ورهنتُ لحظةَ السياحة المُتَحَقـِّقَة للحظة اصطناعية متوقَّعَة أمام شاشة وزرقة، لكي يرى الأصدقاء الرقميون مكاني، وحالي يقول لهم ما قال البحتري لسامعيه وهو يلقي شعره في المجالس:” ألا تعجبون؟”
لولا أنني تنبهت فيما تبقى من وقت بعد طقس التصوير، فقدمتُ رجلا وثبتُّها وأخرتُ الأخرى حذرا من ذلك الرونق الرهيب، وأطللتُ من حرف المُنحَدر الشاهق كحرفٍ في مَطلع سورةٍ هيمن فيها الجلال على الجمال. أصختُ السمعَ للصمت وصمتُ الجبل حمَّالُ أوجه كصمت محارة جوفاء عملاقة. وحمَّالُ حجارة تسربلت بها السفوحُ كأنه فارسُ قرونٍ وسطى يواري هشاشتَه بالحديد. ويواري أوتارا تفضحها الرياح العالية، تداعبُها صيفا وتصفعُها شتاءً، كأن لكل فترة على الجبل تعابيرُ حب فصلية..
الوقوف على حرفِ الجبل كطلائع العشق ومشاعره وشعائره. الروح تتوهم التحاقا بالأفق الأعلى، والعين تعانقُ السماء، والشفاه ترشف حروفَ بعضٍ من كلِّ الأسماء وتلامسُ القربَ الأوَّلَ، تقدم القربان، ثم الانجذاب إلى السفوح المتعرجة، إلى حدود البصرْ، إلى أمانِ في السَّهل لا يزيدُ في العمرْ..
أو كصلاة الصبي الذي كنتُ، خلف إمام المسجد الهرم المرتعش حين يقرأ كلَّ عشاء بأواخر الحشر “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيتَه..” أكان ذلك ميلا من الإمام لسهولة التكرار أم كانت آيةَ جبلٍ يحبها وتحبه، وتأتي على لسانه عفوًا كاسم محبوب؟ وبدل الاسم الواحد كانت تتوالى الأسماء في أواخرها تتلألأ كالبيوت المتناثرة هناك لا تُرى إلا ليلا حين توقَدُ أنوارها مثل نيران على جبل.
أيها الوقور على ظهر الفلاة، أيها الخلق العظيم الجامدُ أسفله، المارُّ مَرَّ السحاب، أنا المدعي وقوفا أعلاك إن كان لوقفتي اعتبارٌ أمام حجمك العملاق. أيها الوروار الساكن في السنديانة العظيمة، لقد استوينا..
أو كتمرين فيزياءٍ على معادلاتِ الكتل المهملة. فوق الجبل يختفي وهم الأنا المركزية الآمنة في السهول الواطئة ودروب المدن، حيث ترى نفسك شجرة تخفي غابة وسبابة تخفي قرص الشمس. تمرين جميل. ليس عبثا أن الوقوف على جبلٍ حجٌّ والحج عرفة..
والوقوف على الجبل جولة على سنام ناقة. كتلك التي كانت تجوب دروبَ الصِّبا كأنها مأمورة، عليها ثوبٌ أخضر كتِب عليه بخط يدٍ غير ماهرة “مولاي ابراهيم الطايْرْ الجْبَالْ” يتبعها طرُقيون يحملون أعلاما مزركشة على خلفية خضراء، عمائمهم خضْراء وثيابهم. من أين يأتون وكيف؟ أطيرانا من جبل لجبل؟ فما لهم بَرِحوا الأعالي وتَرَجَّلوا؟ لماذا انسكبوا في دروب الزحام والضنك المتضارب؟ لماذا تستهويك العبارة المكتوبة بخط غير متقن: “الطَّايْرْ الجْبَال” ويُغويك نمو جناحين لتحلق مثل ذلك الطائر البشري العجيب. بقدر ما كنتَ تخشى طبولَ الموكب وهيئة أهله، كنتَ تصدق أن يكون الرجل قد طار الجبال وطويت له الأرض.. وهل كان ليطير لو لم يحلق فوق الأهواء، لو لم يطرح النزوات كأثقال زائدة. طار إلى مولاه شوقا وهم رأوا بشرا يقفز من سنام جبل لسنام جبل ثم حطوا به على سنام ناقة يتسولون باسمه على ثوبِ سندسٍ كاذب ..
وأنت أيها العابرُ أعلاه، أيها الخائفُ أن تزل به الأقدام والعجلات.. ثم تطمعُ أن تطير من جبل لجبل! مرحبا. ما من عدو هناك وهي تبدو كالعائلات والأُسَر. الجبال الأجداد تبدو صلادة شيخوختهم وقد ولوا ظهرهم للصحاري ولفحِها يُجيرون مَن دونهم. وجبالٌ كأحفاد صغار عند قدم أب أو أخ شاهق. وجبال عليها خِمارٌ من تراب وشجر لم تكشف عورتَه الرياح. جَبَلاتٌ بتاء تأنيث جيولوجية. ودود ولود. كابرًا عن كابر. ملوك الفلاة وملكاتٌ في سكون..
ولا اقتتال على النفوذ الزائف كملوك الأرض، المُنتخَبين غربًا أو المُتَوَّجُين شرقًا والمتربعين. لكنْ.. فوق الجبل يصغر كل شيء، التيجان والعروش وصناديقُ اقتراعٍ لا تمثل أحدا ولا تمنع الثورات على الضجر والدَّعَة والسكون. لولا المدن ومرَارَاتها وسَخاَئِمُها ما كان شيء اسمُه ثورة. الثورة رغوةُ فوق الزحام، زَّبَد على شدقي الاكتظاظ، عرقُ من تضام أجساد بلا حب ولا شوق. العواصم يجب أن تبنى على قمم الجبال كي يرى المالكُ والمملوك نفسَه على الحقيقة ويسهل السقوط الجسدي بعد تدحرج الحقيقة. دودٌ على عود الطريقة..
يُروى أن عمر بن الخطاب وهو على المنبر في المدينة نادى قائد جيش في العراق اسمه سارية: “يا سارية.. الجبل، الجبل!” فبلغه النداء..
مبدع كالعادة استاذ نازه … لك من نصيبك اوفر حظ… قلم نزيه وفكر نازه….تحياتي