كيف صدف أن رسمت أشعار درويش المبكرة

*هاني حوراني

مكتبة عمّان

في النصف الأول من عام 2016 زارت الصديقة الكاتبة ليانة بدر غاليري رؤى للفنون في عمّان، وتصادف أنني كنت أصور آخر أعمالي الفنية، استعدادًا لطباعة بروشور تعريفي عن هذه الأعمال التي لم تلبث أن عُرضت فيما بعد في معرض شخصي تحت اسم “صدأ”.

كانت قد مرت سنوات عديدة على آخر لقاء لي مع الصديقة متعددة الانشغالات الثقافية في عمّان، وحين جلسنا لتناول القهوة سألتني ليانة سؤالًا فاجأني، إذ قالت: هل تعرف أنك أول من وضع تخطيطات داخلية لشعر محمود درويش؟! وسريعًا أجبتها بأنني لا أذكر أنني قمت بذلك يومًا.

حينها ارتسمت على شفتي ليانة ابتسامة غامضة، وقالت لي: بل فعلت، لقد رسمت رسومًا داخلية لأول دواوين محمود درويش، واسمه “عصافير بلا أجنحة”، وأخذت تصف لي أحد الرسوم الداخلية التي نفذتها لأحد المقاطع الشعرية في ذلك الديوان. حينها فقط… استعدت صورًا ضبابية لذلك الديوان، وكان قد صدر عن مكتبة عمّان، عندما كانت تقع في وسط البلد، في مكان قريب من مبنى البريد المركزي. وهذا يعني أن ذلك كان في أواخر ستينيات القرن الماضي.

في عام 1967 كان أسامة شعشاعة قد أسس مكتبته الباذخة في ذلك الموقع الاستراتيجي من وسط عمّان التجاري، ولم يلبث أن أظهر اهتمامه بنشر الكتب الأدبية، وعدم الاكتفاء ببيع القرطاسية ومواد الرسم والورق والكتب المستوردة من بيروت والقاهرة. واختار للإشراف على إدارة عملية النشر الشاعر المرحوم عبد الرحيم عمر.

كان من بين من نشرت لهم مكتبة عمّان حينذاك فدوى طوقان ومحمود درويش وحنا أبو حنا وعبد الرحيم عمر وعيسى الشعيبي، كذلك نشرت مكتبة عمّان نص محاضرة سياسية مطولة لوصفي التل رئيس وزراء الأردن الأسبق.

وأذكر أنني قمت بإعداد رسوم داخلية، وربما أغلفة، لبعض إصدارات مكتبة عمّان، كان من بينها ديوان “عصافير بلا أجنحة” لمحمود درويش، والذي جاء ضمن المبادرات العربية المبكرة للتعريف بشعراء الأرض المحتلة.

منذ تلك الزيارة غير المتوقعة لليانة بدر، وتذكيرها لي برسومي المبكرة لديوان محمود درويش الأول، وأنا أبحث عن طبعة مكتبة عمّان لذلك الديوان، ليس اهتمامًا بنص شعري يكاد أن يكون قد تخلى عنه صاحبه، وإنما من باب الفضول الشخصي للتعرف على بعض رسومي المبكرة بالأحبار، لقصائد شاعر كان مغمورًا حينها، ثم تحول إلى واحد من كبار شعراء العصر.

كنت قد لجأت قبل ذلك إلى صاحب مكتبة عمّان نفسه، أي أسامة شعشاعة، ناشر الديوان، وكان قد نقل مكتبته إلى مكان آخر في الدوار الثالث من جبل عمّان عام 1979، ثم أقدم على إغلاقها عام 2014. لكن صاحب المكتبة العريقة أبلغني بأنه تبرع بالكتب العائدة لمكتبته إلى جامعات ومكتبات عامة أخرى، وأن لا شيء منها بحوزته الآن.

ترددت بعد ذلك على مكتبة عبد الحميد شومان لأبحث عن “عصافير بلا أجنحة”، ولجأت إلى مدير المكتبة الذي أبلغني، بعد البحث، بأنه كانت لدى مكتبة شومان نسختان منه، غير أنهما أُعيرتا منذ سنوات وأن النسختين لم تعودا إلى المكتبة حتى اليوم. وزاد من الطين بلة أن المعلومات عن الشخصين اللذين استعارا نسختي الديوان مثبتة وفق نظام تصنيف قديم لا يتيح معلومات كافية للاتصال بهما. هذا إذا كانا على قيد الحياة أصلًا!!

راجعت بعض مثقفي عمّان من أصحاب المكتبات المنزلية المعروفين والمخضرمين بحثًا عن “عصافير بلا أجنحة”، علها تكون ضمن مقتنياتهم، لكن دونما نتيجة، وما زلت أبحث حتى اليوم. وخشيتي، بطبيعة الحال، إذا ما وجدت الديوان المفقود هو أن أصاب بخيبة أمل من رسومي المبكرة، وألا تكون ذات مستوى لائق لنشرها أو الإعلان عنها مجددًا.

مركز الأبحاث الفلسطيني

بعد سنوات قليلة، في أواسط السبعينيات، كنت قد تعرفت على محمود درويش شخصيًا، بعد انضمامه إلى مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، وكنت أعمل في مبنى مقابل كان يشغله مركز التخطيط الفلسطيني. حينها لم يتسن لي “التفاخر” برسومي المبكرة لأحد دواوينه المبكرة، والذي نشر في عمان ما بين 1968 و1969. والأنكى من ذلك أنني، وبسبب عقوق ذاكرتي، لم أفلح في توظيف تلك الواقعة في “المساومة” على بيع حقوق كتابي الأول لمركز الأبحاث الفلسطيني، حينما حل محمود درويش محل د. أنيس صايغ مديرًا للمركز ورئيسًا لتحرير مجلة “شؤون فلسطينية”، بالتزامن مع انفجار الحرب الأهلية اللبنانية وزيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس.

في واقع الأمر أنني كنت، وما زلت، أنفر من التعامل مع “النجوم”، وكان محمود درويش قد تحول إلى نجم ثقافي بعد مغادرته إسرائيل وانتقاله إلى القاهرة، ضيفًا على مركز الأهرام، وحين انتقل ثانية إلى بيروت، تسنّى لي الاحتكاك به، خلال ترددي على مركز الأبحاث، كوني كنت أحد كتّاب “شؤون فلسطينية” المواظبين على النشر فيها في سنواتها المبكرة.

وفيما بعد، تطور تحرجي من التعامل الشخصي مع محمود درويش إلى حد تفادي الاحتكاك به. فقد بدأت أعرف عنه أكثر، لا سيما عن مزاجيته وأسلوبه الخاص في الحفاظ على مسافة ما بينه وبين الجمهور العام. ولذلك لم أسع إلى التعامل الشخصي معه، وأبقيت الصلة به عند الحد الأدنى.

خلال الحقبة التي تولى فيها محمود درويش إدارة مركز الأبحاث، وأثناء عمل إلياس خوري مدير تحرير لمجلة “شؤون فلسطينية”، تخلت الأخيرة عن تخصصها الصارم بنشر المواد ذات الصلة بفلسطين وإسرائيل حصرًا، وقد عزز هذا التوجه وقوع أحداث فاصلة على صعيد المنطقة، كان أبرزها زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في أيلول/ سبتمبر 1977 والدخول في مفاوضات كامب ديفيد وصولًا إلى توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار/ مارس 1979.

وهكذا باتت مجلة “شؤون فلسطينية” الشهرية والنافذة الأبرز لمركز الأبحاث أكثر انغماسًا بالشؤون العربية. وهو تطور ما كان ليحدث لو أن المرحوم د. أنيس الصايغ ظل على رأس مركز الأبحاث ومجلة “شؤون فلسطينية”. وما كان هذا ليحدث أيضًا في عهد المدير اللاحق لمركز الأبحاث، وأعني به صبري جريس، والذي أعاد المجلة إلى تخصصها الصارم بالشأن الفلسطيني الإسرائيلي.

لكن، شكرًا لتلك الظروف بالذات التي أتاحت لي المجال لنشر مخطوطة “التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرقي الأردن”، وهي كتابي البكر، أولًا على صفحات “مجلة شؤون فلسطينية”، ثم في كتاب صدر عن مركز الأبحاث إبان إدارة الشاعر محمود درويش له.

بدأت أنشر مخطوطتي على شكل مقالات تمثل فصولًا متسلسلة في مجلة “شؤون فلسطينية” الشهرية، في عام 1977. ويجب أن أقول هنا إنه لولا حماس إلياس خوري لمخطوطة “التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرقي الأردن” واستعداده لنشرها في المجلة، ولولا حاجتي لدخل منتظم وحقيقي يساعدني على تحمل أعباء المعيشة في دمشق، بعد تفرغي للعمل الحزبي، لربما ظلت المخطوطة في الأدراج لفترة غير منظورة.

بعد نشره دراسة “التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرقي الأردن” متسلسلة في أربعة أعداد من مجلة “شؤون فلسطينية”، اقترح إلياس خوري أن نجمعها في كتاب يصدر عن مركز الأبحاث، وهكذا جلسنا إلياس خوري وأنا نتباحث حول ترتيبات النشر. وعلى كثرة أفضال خوري عليّ في هذا المجال إلا أنه لجأ إلى صيغة عقد نموذجي مستعار من إحدى دور النشر، حيث يكفل العقد حقوقًا مطلقة للناشر ولا تبقي للمؤلف سوى مكافأة نقدية لمرة واحدة عند النشر لأول مرة.

ومن الطريف أن العقد نص على تخلي المؤلف عن كافة حقوقه في الملكية الأدبية للناشر، بما في ذلك حق استخدام النص للإنتاج التلفزيوني والسينمائي (!؟) حينها تدخل الشاعر محمود درويش ليخفف من وطأة العقد، وليحرره من بعض “الحقوق” التي لم يكن واردًا أن يستفيد منها مركز الأبحاث.

بقي أن أُشير إلى أن صبري جريس، وأثناء توليه مسؤولية إدارة مركز الأبحاث بعد محمود درويش، حررني بعد سنوات قليلة من العقد المذكور، تاركًا لي حق إصدار طبعات أخرى من الكتاب، لاحقًا! وهو أمر لم يتحقق خلال نحو أربعين عامًا، فظل الكتاب مقتصرًا على طبعة أولى يتيمة، وطبعات “سرية” تعيش عليها مكاتب الاستنساخ السريع خلال تلك السنوات.

وهنا يجب أن أتوقف لأفتح قوسين، فأشير إلى أن مكافأة نشر كتاب “التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرقي الأردن”، بلغت حينها خمسة آلاف ليرة لبنانية، وارتفعت إلى ستة آلاف ليرة، بعد إضافة فصل جديد عن التركيب الاجتماعي. وكانت الليرة اللبنانية لا تزال تحتفظ بقيمتها حينذاك، إذ كان الدولار يساوي ثلاث ليرات لبنانية، ما يعني أن المكافأة كانت تعادل ألفي دولار أميركي، وهو مبلغ كبير في ذلك الزمن.

في هذه “المحطة” من علاقتي بمحمود درويش لا بد من الإشارة هنا إلى أنني تساومت مع محمود درويش على قيمة مكافأة الفصل الختامي والملاحق الكثيرة التي أضفتها إلى مخطوطة الكتاب، إذ طالبت برفع المكافأة إلى الضعف، بالنظر إلى طول الفصل وحجم الجهد المبذول فيه. لكن درويش أظهر عنادًا وأصر على مبلغ الألف ليرة لبنانية فقط. وعلى الرغم من شعوري بالإجحاف، إلا أنني قبلت مضطرًا، ففي حالات كهذه كان يمكن للعناد أن ينتهي بإفشال الصفقة برمتها!

وبطبيعة الحال فإنني لم أذكر واقعة رسومي لديوان شعره الأول، ولم يكن بيدي أن أقول له “كرمال رسوم “عصافير بلا أجنحة” زيد المبلغ قليلًا”، وإن كنت أشك في أن درويش كان سيتأثر بهذا النوع من الابتزاز العاطفي!

مناسبتان خاطفتان

بعد خروجه من بيروت مرت سنوات طويلة كان خلالها محمود درويش يتردد فيها على عمّان، أو يقيم فيها لبعض الوقت. لكنني حافظت على تلك المسافة ما بيني وبينه، أحضر أمسياته الشعرية في مدينة الحسين الرياضية أو في أحد مدرجات مهرجانات جرش، وأتجنب سهراته الاجتماعية والثقافية. كنت سعيدًا بأن أكون أحد الشاهدين على عصر درويش، من دون أن أقترب منه أكثر، إلى أن صدفته في مناسبتين خاطفتين؛ الأولى كانت في مطار عمّان الدولي، حين التقينا في طابور الجوازات، وكنت حينها قادمًا من المغرب وهو من باريس، وقد ظهر على وجهه الإنهاك.

إبان ذلك الحوار العابر في المطار سألني إن كنت أعرف شخصًا يصلح لشغل مهمة مدير التحرير في مجلة “الكرمل” التي عادت للصدور من رام الله. ولا أذكر أنني نجحت في ترشيح شخص ما لهذه المهمة.

بعد ذلك الحديث الخاطف تقدم أحد المسافرين من درويش بعد أن تعرف على ملامحه، فأخذ كفه بيده، مرددًا “أنت شاعرنا الكبير!” ولاحظت فورًا الدم وهو يصعد في عروق درويش، جراء احتفاظ المسافر المعجب بيد الشاعر لمدة أطول من اللازم، وسرعان ما تحول انزعاج درويش إلى غضب، وسحب يده من قبضة المسافر المحتفي. وأخذ يروي لي وقائع مشابهة عن اعتراضه في المطارات والأماكن العامة، قال لي أحيانًا أكون بحاجة إلى زيارة المرحاض، ولا أحتمل أي تأخير فإذا بي أجد من يقف في طريقي ويستوقفني رغمًا عني، متجاهلًا نداء الطبيعة… ماذا تقول بهؤلاء، وكيف لا أصبح عصبيًا؟!

في مناسبة ثانية، وكانت في أواخر شباط/ فبراير 2007 كان محمود درويش يزور معرض الفنان التشكيلي حسني أبو كريّم في غاليري “رؤى” للفنون في عمّان. في ذلك اللقاء العابر، وكان وقوفًا، أثار فنان المائيات حسني أبو كريّم مسألة تعاضد الشعر والفن التشكيلي في أعمال مشتركة، وتساءل عن كيفية بناء علاقة تفاعلية بينهما. وفي الأثناء انضم إلينا د. فيصل دراج، وبينما كنت أعرّف شاعرنا على محتويات بعض أجنحة الصالة، اختفى فيصل دراج وبدا درويش كما لو كان طفلًا ضائعًا في الزحام.

كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل نحو عام من وفاته، وربما لا حاجة بي للقول إنني أضعت الفرصة الأخيرة لكي أخبره عن رسومي المبكرة لأول دواوين شعره، وذلك قبل وقت طويل من توظيف شعر درويش في بناء أعمال تشكيلية ترتقي على أكتاف قصائده.

وها أنا أواصل البحث عن رسومي تلك، فمن يجدها في “عصافير بلا أجنحة”، طبعة مكتبة عمّان، أواخر ستينيات القرن الماضي، فليدلني عليها وله أجر عظيم!

______
*ضفة ثالثة 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *