أول محاكمة لشاعر بتهمة ‘التطفل’

*وارد بدر السالم

ستة مؤلفين اشتركوا في تأليفٍ جامع عن حياة الشاعر الروسي برودسكي وأهميته الشعرية وفحص المداخلات والالتباسات في محاكمته التاريخية ليقدموا صورة وافية لمحاكمة أيديولوجية عن شاعر كانت تهمته الوحيدة هي “التطفل” بذريعة أنه لا يعمل في بلاد تحكمها الشيوعية الصارمة ويسيّرها الرفاق على حد كان أرفع من شعرة.

الشاعر المتمرد

المؤلفون والمتابعون لسيرة برودسكي في محاكمته ووثقوا الكثير من مراحله الشعرية والحياتية والشهادات التي تُليت في المحكمة ومحاولة إملاء تهم متراكمة على شخص الشاعر هم هيلين كارييندانكوس وايفيم ايتكند وجانين ليفي وفريدا فيغوروفا وليديا تشوكوفسكايا وشارل دوبزينسكي، وقد قام بترجمة هذا الكتاب التاريخي الروائي والمترجم العراقي شاكر نوري وصدر قبل أيام عن دار نشر سطور في بغداد.

تعد محاكمة برودسكي أول محاكمة لشاعر وتُعد التهمة الموجهة إليه أغرب تهمة أيضاً وهي تهمة “التطفل” لأنه لا يعمل، أي أنّ في التهمة أبعاداً تشكيكية بولاء برودسكي للمنظومة الشيوعية القاسية وللرفاق الذين يسيّرون الحياة بأيديولوجيا صارمة. وهذا الكتاب توثيقي ونقدي وحياتي لشاعر حاز على جائزة نوبل 1987 وتم تعيينه ملك شعراء الولايات المتحدة في سنة 1991 ولكن السلطة السوفيتية السابقة لم تعترف بشاعريته ولا ترجماته ولا ثقافته العامة فحكمت عليه بالنفي في منطقة نائية شمال الاتحاد السوفيتي وبالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة ثم رحّلته عام 1972 خارج البلاد حتى توفي عام 1996 بعد أن أطبقت شهرته الأوساط الشعرية والأدبية العالمية. وبين هذه الفترات كان برودسكي قد أدخل إلى المصحة العقلية مرتين.

تكتب هيلين كاريير عن شاعر ذوبان الثلوج برودسكي باستعراض ذي أهمية تاريخية لشخصية الشاعر بوصفه لم يكن عضواً في اتحاد الكتّاب السوفيت الذي يمنح الشهادات للمواهب الأدبية، وهذا يعني أنه شكّل لنفسه عائقاً شعرياً وحياتياً يتناقض مع توجهات السلطة المركزية التي تحسب الحساب لتأثيرات هكذا شعراء لا سيما وأن الشبيبة السوفيتية كانت تستنسخ أشعاره سرا وبالتالي رسمت هذه المقالة الخطوط العريضة للتحولات السياسية بعد الحقبة الستالينية ما قبل الخمسينات من القرن الماضي وحتى منتصف الستينات، التي برع فيها برودسكي وهو شاب متمرد على القيم اليومية الأدبية والحزبية كصوت شعري لا يتماشى مع مركزية الحياة الرفاقية ولا مع طروحاتها الفجّة.

في حين يرسم جانين ليفي تخطيطات بيوغرافية في فصل آخر لحياة برودسكي ويتوقف عند طفولته وأحلامها الصغيرة وصولاً إلى بروليتاريته الحقيقية، ومن ثم سجنه حينما كان في الرابعة والعشرين من عمره، وهو فصل قصير يفتح آفاق الشاعر في بدايته ومكوناته الحقيقية وتطلعاته الشعرية المبكرة والثقافية العامة عبر الترجمة، على أن إيفيم إيتكيند الذي له الفضل في ترتيب هذا الكتاب وكتابة مجمل فصوله يأتي في “صناعة المذنب” على المتطفل الاجتماعي برودسكي الذي كانت بداياته غير التقليدية مع السلطة بتحريضه للشباب على أنّ “الجمعيات الأدبية” الرسمية من شأنها تعطيل الإبداع إضافة الى إشهاره قصائد تتسم بالعدمية واليأس من هذا العالم، ومن ثم نجح برودسكي بمراحل متسارعة في أن يكسب الشباب والمراهقين الذين “يتحلقون حول شعراء الموضة” بإقامة أمسيات شعرية في أروقة جامعة لينينغراد ومكتبة مايكوفسكي، وفي أوقات مختلفة كان يتكلم بغطرسة وربما بغرور وتعالٍ، لكن بطريقة الواثق من قدراته الشعرية والنفسية في اجتياح منظومة شعرية رسمية هائلة الأطراف وبالتالي خضع هذا الشاب المتمرد إلى عين السلطة ومراقبتها الدائبة.

المحاكمة الغريبة

سنلاحظ أن هذا “المتطفل” الشعري وأثناء محاكمته كما يروي إيتكيند كان قد وُجهت إليه عشرة اتهامات بواسطة الصحف لتأليب الرأي العام ضده وإثارة نقمة الشعب عليه وتحطيم تطلعاته الشبابية بإنشاء قصيدة مضادة للدارج الحزبي الموَجّه؛ وإيجاز التهم العشر يتلخص في أن برودسكي كائن فردي يريد أن يدخل إلى حقل الأدب بمفرده من دون المرور بمرشّحات حزبية ورسمية ورفاقية، وأن جميع قصائده كتبت في دفتر مدرسي صغير وهذا يعني “رؤيته الكئيبة للعالم”، وأنه برجوازي يبحث عن الغموض واللامعقول والعبث، وأنه يفتقر إلى المعرفة والثقافة، كما أنه متهم بقصيدته “تطواف مقدس” لأنها نجحت نجاحاً كبيراً بين أوساط الشباب ويريد أن يمارس تأثيراً خطيراً على الشباب غير الناضج، وأن كتابة الشعر ليست مهنة، والذين يشكلون محيطه الشخصي هم من اليهود الغرباء ومجرمون ضد الحق العام، وأنه يخترع الحكايات العجيبة حول الحياة، وآخر التهم الخطيرة هي أن برودسكي قد “نضج من خيانة خطط وطنه منذ زمن طويل”.

أما صيغة المحاكمة الواردة في الكتاب فهي صيغة كيدية جرت من طرف واحد إلى حد كبير وكان معظم الشهود معبّئين ضد برودسكي لتجد المحكمة أنها في ساحة مفتوحة للطعن والتشهير والإدانة لكن الشاعر كان حريصاً وهو في ذروة حصاره القضائي أن يبقى متمسكاً بقضيته الشعرية، وهو أمر نادر أن يدفع شاعر تهماً خطيرة عنه بالتمسك بشعريته وأمله في أن يبقى شاعراً لا مجرما؛ ففي أكثر من مرافعة بينه وبين القاضي كان يصر على أنه شاعر ويكتب الشعر، ومن هذه الملخصات ما يمكن أن يشير إلى ذلك الوجد الشعري المدفون في أعماقه الإنسانية الواسعة، وعلى سبيل المثال:

القاضي: ما هي مهنتك؟

برودسكي: أكتب القصائد..

***

القاضي: لماذا أنت عاطل عن العمل؟

برودسكي: إني أعمل في مجال القصائد.

***

القاضي: ما هو اختصاصك بصورة عامة؟

برودسكي: إنني شاعر ومترجم

***

القاضي: ماذا قدمت من فوائد للوطن؟
برودسكي: كتبت القصائد..

***

القاضي: .. كيف تركت العمل الأول وانتقلت الى عمل ثان؟

برودسكي: كنت أعمل في كتابة القصائد..

***

هذا المضي العنيد في ترسيخ روح الشعر في محكمة صعبة وقاسية وضعت حكمها مسبقاً لتقويض تأثير برودسكي على الشارع العام لا سيما بين صفوف الشباب يؤكد أنّ الشاعر- المتهم على دراية عميقة بآليات المحكمة وهو ما جعله متشبثاً بأنه شاعر ويكتب الشعر ولا علاقة له بدولة حديدية تمنع الحياة عنه بطريقتها الفولاذية، ولو تأملنا شهادات الشهود الذين كانوا ضد برودسكي ومنهم أدباء في تلك المرحلة لتبيّن لنا حجم الضغط الهائل الذي واجه برودسكي وهو في قفص الاتهام: “إنه معادٍ صامد للسوفيت”، و”ينبغي أن نكون بلا رحمة أو شفقة مع بشر كهذا”، “برودسكي وجماعته أشعارهم سافلة ومعادية للسوفيت”، “إن لهذا الشاعر تأثيراً سيئاً على الشبيبة”، “قرأتُ قصائده الساخرة وأنت تحمرّ خجلاً أيها الرفيق القاضي”، “لديه غياب كامل للوعي والإحساس بالواجب”، “يتملص من الخدمة العسكرية”، “الذين يدافعون عن برودسكي هم مجموعة من الغشاشين والشطارين والمتطفلين والحمير..”، “إننا لا نحاكم شاعراً بل متطفلاً”.

ومثل هذه الشهادات المتتالية في أكثر من مرافعة كافية لإدانة الشاعر ووضعه في موقف لا يُحسد عليه لكنه بقي صامداً وثابتاً في موقفه الشعري الخالص من دون أن يتنازل عنه ولم يقدم استرحاماً كما كانت المحكمة تطالب به لتفعيل إدانته جماهيرياً، مع أن العقوبة كانت قاسية عليه إلا أن المحكمة ارتأت أن تقلصها إلى سنتين وتعمل على إبعاده خارج وطنه، فأتاحت له فرصة الظهور من جديد ليكون في مقدمة الشعراء الروس الذين نالوا جائزة نوبل.

ذهب القضاة إلى النسيان وبقي الشاعر لم يمت حتى اليوم.
___
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *