هل يمكن أن تنجز الحداثة في مجتمع متخلف؟ هذا هو السؤال الجوهري، بل المعضلة الكبرى التي يواجهها المثقف الطليعي في مجتمعه المحكوم بموروثه الصلد، وقيمه الاجتماعية المتجذرة في الواقع الساكن والذات الجمعية. والحداثة المقصودة هنا Modernity، وهي مصطلح قديم استخدمه بودلير في القرن التاسع في كتابه «رسام الحياة الحديثة»، هي الإزاحة الاجتماعية والثقافية الشاملة، وبشكل أفقي يمس كل نواحي الحياة والمجتمع، وليس الحداثة الأدبية والجمالية Modernism، وهي مصطلح حديث نسبيا، ويشمل حقلي الآداب والفنون، وخاصة منذ خمسينات القرن الماضي.
وللأسف، يضطر المرء للاستعانة بالمصطلح الأجنبي، لأننا لا نملك في العربية مقابلا يوضح الفرق الكبير بينهما، مما قادنا إلى الخلط بين الاثنين في أحايين كثيرة.
الحداثة بمعناها الحقيقي عرفناها ربما مرة واحدة في تاريخنا، وذلك في العصر العباسي، الذي شهد ازدهارا حقيقيا في العلم والأدب والفنون، والطب والصيدلة، والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، والبلاغة والترجمة.. لقد أنتجت لنا تلك الحداثة المتنبي، والبحتري، وأبو تمام، وأبو نواس، ومن العلماء الخوارزمي، وابن الهيثم، وابن حيان، بالإضافة إلى ازدهار المدارس الفلسفية والفكرية والفقهية التي تآخت مع بعضها البعض لفترة طويلة من الزمن. أما ما عرفناه في عصرنا الحديث مع علي عبد الرازق، ومحمد عبده، ولاحقا مع طه حسين، فلم يكن سوى محاولات جبارة من أجل التنوير والتطور الاجتماعي والثقافي، لكنها انقطعت للأسف مع انقلاب جمال عبد الناصر 1952، فلم تتحول إلى تيار يمكن أن يتغلغل في كل مناحي الحياة والمجتمع.
غير ما تعلمناه من درسها البليغ، هو أن التنوير بحاجة إلى حامل اجتماعي لم يتوفر عندنا للأسف لحد الآن، كما توفر قبل قرون لفولتير وروسو ومونتسكيو بقيام الثورة الفرنسية.
غياب هذا الحامل الاجتماعي، لا بد أن يخلق تناقضاً بين المثقف الطليعي ومجتمعه المتخلف. وفي مرحلة من المراحل، وفي حالات كثيرة، قد يصل التناقض بين هذا المثقف، ذي الوازع الأخلاقي والجمالي العالي، الحالم أبدا بسيادة الحرية والعدالة لكل البشر، وبين مجتمعه إلى درجة التمزق التراجيدي، الذي يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة كالانسحاب والعزلة، أو حتى الانتحار. وفي حالات أخرى، وهي تكثر في بلداننا العربية، قد تقود ضراوة هذا الصراع الهرقلي، المثقف إلى التعب واليأس، ثم الاستسلام ومحاولة التكيف مع الواقع بحجة الواقعية، وهي، في الحقيقة، خيانة لكل المثل الأدبية والجمالية والإنسانية التي كان يؤمن بها. في كتابه «كل ما هو صلب يصير هباء» – وهو تعبير مستمد من ماركس – يشبه الكاتب الأميركي مارشال بيرمان مثقفي البلدان المتخلفة، أو بتعبير مخفف البلدان النامية، بـ«فاوست» غوته، فهم مثله يعيشون تمزقاً حاداً بين المثال الثقافي والجمالي، والرغبة الجامحة في التطور، وبين الواقع الاجتماعي الذين يعيشونه.
فقد عاش فاوست حالماً ينتمي إلى عالمه الداخلي، أكثر مما ينتمي إلى الخارج، وكلما اتسعت دائرة عقله زادت حساسيته عمقا، وتنامى نزوعه للاعتزال. لكن فاوست الناضج سينتصر على هذا «التمزق التراجيدي» وعلى تلك الثنائية القاتلة بين ثبات الحياة مع الناس ودفئها، وبين الثورة الفكرية والثقافية التي تشتعل داخله.
هذا الانتصار يتم، حسب بيرمان، عبر تطور دائري تدريجي مؤلم على مستوى البناءين: النفسي والعقلي حتى يلتقيا عند نقطة معينة ينبثق منها وعي حقيقي، يسميه بيرمان بـ«الوعي الفاوستي»، ويقصد به الوعي بضرورة العمل مع جماعة حقيقية، ليس العمل معها فقط، ولكن العمل من أجلها في الوقت نفسه، واستخدام العقل باسم «الإرادة العامة والرفاه الشامل» في ميدان الممارسة العملية.
هذه «الجماعة الحقيقية»، أي الحامل الاجتماعي، لم تتوفر في تقديرنا منذ العصر العباسي الذهبي. فأصبح المثقف المستنير، الذي لا يكف عن الحلم بالتغيير، أقرب إلى سيزيف منه لفاوست. ومع ذلك، هو لا يستطيع، ولا يريد أن يلقي الصخرة من على ظهره فهذا قدره!