فيليب هنشر: الكتابة ليست وحيًا!

*ترجمة: أراكة عبدالعزيز

الكتابة الجيدة هي مزيج من الدراسة و الفطرة، وأما أن يتنزل الوحي عليك بالكتابة فهذا ما لا يقع لأي كان، لأن الكتابة لا تنتج إلا عبر مزيج من البراعة والحساب. في الأسبوع الماضي تحدث حنيف قريشي عن الكتابة الإبداعية في مهرجان جامعة باث سبا، طارحًا بعض الشكوك في وجود حرفة قابلة للتعليم والتدريس في الكتابة مصنفاً 99.9% من طلابه بغير الموهوبين وقائلًا: “إن كتابة قصة هي أمر عسير ومهارة أعظم من أن تُمتلك، فهل في وسعكم تدريس هذه الموهبة وهذه المهارة وتعليمهما؟ أنا لا أعتقد ذلك “. يبدو أن مهنة حنيف قريشي في تدريس الكتابة الإبداعية في جامعة كينغستون غير فعالة!

في رأيي فإن ما يكمن أو يجب أن يكمن خلف ازدهار حقل الكتابة الإبداعية هو الاعتقاد بأن أفضل ما يكتب ما هو إلا نتاج من الوعي بحرفة ومهارة الكتابة، إن لم يكن جميعه. وقد يعلق المفسرون قائلين إن الكتابة أمر لا يمكن تعليمه، والكاتب إما أن يمتلك “الكتابة ” وفي هذه الحالة لن يكون بحاجة إلى تعلّمها، أو أنه لا يمتلكها وفي هذه الحالة فإن الوقت والمال سيضيعان عبثًا في التمارين دون أي طائل. يبقى أولئك الكتاب الذين يمتلكون المهارة الكتابية الأصيلة في أنفسهم، ويمتلكون الإحساس باللغة والقدرة على الابتكار، إلا أن ما ينقصهم هو القدرة على الفهم الكامل من أجل التمكن في الأداء الكتابي بصورة متواترة وغير منقطعة.

وهكذا فإن حصص الكتابة الإبداعية هي نقطة اكتشاف تستكشف الأسس الضمنية للكتابة الجيدة دون فرض أي قيود على الكتابة بل على العكس، ابتكار طرق للتفكير في الكتابة القوية والهادفة.

ستبدو حصة الكتابة الإبداعية السيئة على هذا الشكل . يقدم الطالب بعض العمل ويسبقه بعبارة “لا أظن أن هذا عمل جيد” يقرأ “معظم” الطلاب هذا العمل وبعد صمت طويل يعلن أحد أصدقاء الطالب لقد أعجبتني هذه الطريقة التي …” ليرد : “شكرًا لك” ويضيف آخر: “لم أستطع أن أفهم تمامًا أين ….” فيشرح الطالب ونصف الفصل يبقى صامتًا، ثم يغادرون بضمير مرتاح وعمل منقوص.

لقد خضتُ تجربة أن أصبح كاتبًا وعندما بدأت لم يحدث أن أحضر دورة في الكتابة الإبداعية، كما أنه لم يكن  هناك الكثير منها في الثمانينات، وقد بدا لي أن من الأفضل  اللجوء إلى دراسة الدكتوراه الأكاديمية. لقد علّمت نفسي أن اكتب وما زلت أعتقد  أن الكاتب هو قارئ نهم أولًا، وهناك الكثير لنتحدث عنه في مجال التعليم الذاتي. إلا أنه ومنذ 2005 كنت قد بدأت تدريس الكتابة الإبداعية في الجامعات والآن أنا أدرس الكتابة الإبداعية في “باث سبا”. وعندما أنظر إلى رواياتي الأولى أعرف أنني لم يكن لدي أدنى فكرة عن بعض السمات التقنية للرواية .ولا أعتقد أنني كنت أمتلك تقنيات روائية وصلبة حتى كتابة الرواية الثالثة أو الرابعة، فضلًا عن أن عالم النشر اليوم قد يجور على هذه المهنة ويضر بها.

إن الكتابة الإبداعية باعتبارها انضباطًا وتربية قد لا تكون إيثارية أو غيرية تمامًا، على الرغم من نتائجها الناجعة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتوسع تمامًا في اللحظة التي تم فيها نقض الدعم التقليدي المالي لتجارة الكتاب على سبيل المثال “Net Book Agreement

وعندها بدأت مصادر الدعم التقليدي لدخل الكتاب بالانحسار بفعل التوفير عندما قام الناشرون بافتعال ضغوط اختلقوها بقطع قروضهم النموذجية للكُتاب على جميع الأصعدة. حتى في الأيام التي حاول فيها السير فيكتور ساودن إدارة نزل يعمل بفضل الأرباح الناتجة عن كتابة القصص القصيرة ومراجعات الكتب كان هذا الأمر قد تلاشى أيضًا بفعل النقص المالي ذاته.

بالعودة إلى الكتابة الإبداعية ، ربما سيكون بإمكاننا أن نتحدث عن تمرين مراقبة الناس الذي قمنا به في الأيام السابقة، وملاحظة كيف يتزين الناس وكيف يبذلون جهودهم في جذب انتباه الغرباء. وقد نناقش الجانب التقني بالعودة إلى قطعة روائية. وقد يكون بإمكاننا العودة الى رواية كلاسيكية، أو إلى رواية حديثة، إذ من المهم والضروري في دورة الكتابة الإبداعية أن نواكب إنتاجية الأعمال الجديدة، وتكثيف الاستثمار ليس فقط في الأعمال الجديدة وإنما في التقنيات الحديثة للكتابة رقمية أو تقليدية .

وعندما يناقش الطالب العمل المطروح، علينا أن نمارس هذه المناقشة بصورة آمنة ولكن صارمة. وضمن تعليقات بناءة غير محرضة على الأنا والذاتية، إلا أنها محددة تصب في معالجة مواضع الخطأ وطرق تصويبه. وسوف يكون التركيز منصبًا على التقنية المستخدمة في العمل فضلًا عن الخدمة والتجربة.

هل المعرفة حاضرة على رأس العمل؟ هل تمكّن الطالب من تنقية أفكاره من خلال إدراكه وبصيرته؟ وما هو هذا الأسلوب الحر وغير المباشر؟ هل يكفي ما يحدث؟ هل يعلق الطلاب قائلين: لقد أعجبني حقًا ذلك الجزء حيث…؟ 

إن حصص الكتابة الإبداعية تختلف اختلافًا كبيرًا فيما بينها سواء أكانت في جامعة باث سبا أم سواها، خصوصًا مع تنوع الطاقم الأكاديمي الذي يضم كتابًا متنوعين، فمن المستحيل أن يكون هناك منهج موحد لهذه الحصص. إلا أننا نجد في نهاية المطاف أننا إنما نتناول إطارًا واحدًا لأفكار متكررة. كيف بإمكاني أن أخلق شخصيات غير منسية وأخاذة؟ (نصيحة:أبرز شخصياتك من خلال مجموعات صغيرة، وخارج السياق المعتاد ) إلا أن هذا لم يكن كافيًا فشخصياتي المختلقة استمرت ببث ما تشعر به لبعضها البعض، ثم تقع في علاقة أو يقتل بعضهم بعضًا، أو يرزق بطفل، ولكن ماذا بعد ذلك؟ “نصيحة: على الوقائع أن تستمر بالحدوث ولكن من الخارج، ويجب أن يسلط الحدث غير المتوقع الضوء على الشخصية”

هناك أيضًا بعض الإمكانيات التي لم يتوصل إليها بعض الكتاب. فعلى سبيل المثال، ليس عليك طرح العمل كسلسلة واحدة من الوقائع، في وسعك أن تجعل الوقائع متواترة بصورة جذابة في جمل متصلة منفصلة: “متى ما زار أمير براندا، كان يحضر معه علبة من الشوكولاتة بالحليب يقتنيها من بائع الصحف . كانت براندا تمتن كثيرًا له وتشكره بعمق”. خلال كتابتك ليس في وسعك أن تستحث المشاعر بالحديث عنها بصورة صريحة، بل على الارجح أن هذا ما ستصل إليه من خلال وصف حقائق معينة، بصورة موضوعية، وبالنزول إلى الشارع ومراقبة الآخرين بتمعن، وقدر تدرك وسط دهشة كبرى أن مفردات الإيماءات الخاصة بك “يصرخ، يستهجن، يبتسم، يعبس، نظر إلى رأسها، تتلاعب بعينيها، تتنهد” ربما تجد أن مفرداتك لم تعد كافية لوصف ما تراه!

شخصيًا أحب أن أستثير الطلاب في حصة الكتابة الإبداعية وأن ألهمهم على حد سواء، بعض الأحيان بالقول بحكمة بالغة: “إن القصة القصيرة تحتوي على مقدمة، خمس أو سبع حلقات، ومقطع ختامي يتشكل بحسب ما تقدم” أو “إن كنت ستكتب عن حيوان في قصة ما، اجعله كلباً وليس قطة!”

ولن يشبهك “ولله الحمد” طلابك في كل شيئ ككتاب، إنهم على العكس سوف يتفاعلون معك عكسيًا بعرض أفكارهم ومبادئهم الإبداعية الخاصة بهم. نعم يوجد أولئك المدربون الذين يكتبون الروايات التاريخية بالزمن المضارع، هؤلاء إنما سينتجون طلابًا ليسوا إلا نسخًا تشبههم في كل شيء. إلا أن حصص الكتابة الإبداعية الحقيقية والجيدة هي التي تخرّج تفكيرًا مستقلًا، وعقولًا محترفة ونقدية، عقولًا ذات طاقة واطلاع واسعين. وأنا لا أعرف لماذا لا يُعمّم هذا الهدف وهذه الغاية على جميع الكليات والجامعات!

(فيليب هنشرروائي إنجليزي وأستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة باث سبا)
___
*المصدر: تكوين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *