*ترجمة وتقديم : لطفية الدّليمي
أقدّم أدناه ( وفي أقسام لاحقة ستنشر تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره ( ديفيد معلوف ) في مجلة ( Quarterly Essay ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011 ، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّة .
المترجمة
الطريقة التي نحيا بها في وقتنا الحاضر – تتمّة
واحدٌ من جملة الأمور التي باتت واضحة وعلى نحو مفاجئ لنا هي كَمْ أنّ كوكبنا الأرضيّ صغير ويمثل كلاً مترابطاً ، وكَمْ هو نظام معقّد وفريد في نوعه ، وكَمْ هو متراكب بما يجعله كياناً مقفلاً على ذاته ، وأننا – مخلوقات هذا الكوكب – كلّنا في المركب ذاته ، وأننا ( من وجهة نظر الكوكب ذاته – هذه الكرة المادية التي تقتفي مسارها الخاص في الزمان والمكان ) لسنا بأكثر – ربما – من محض حادثة عابرة !!
جعلتنا التجربة ( يقصد المؤلف تجربة معاينة صور الأرض من الفضاء البعيد والتي أورد ذكرها في القسم السابق ، المترجمة ) نشعر بصغرنا كذلك ؛ فهاهي الأرض التي لطالما بدت لنا مترامية الأطراف ( خلال معرفتنا المتنامية بها وكذلك خلال إستكشافنا لمجاهلها ) والتي بدت عظيمة القرب منّا أثناء خبرتنا اليومية بها في ليلها ونهارها ، وفي حرّها وبردها ، وفي مراعيها المخضرّة وسمواتها الزرقاء ،،، هاهي الأرض ذاتها غاية في الصغر ومخذولة من كل معونة يمكن أن نتوقعها لها ( من ذلك الفضاء السحيق ) ، وكل تلك الأشياء التي لطالما نظرنا إليها على أنها أشياء بديهية مُجمَعٌ على حقيقتها : الأشجار ، السّحُب ، البحار ، الأطيار ، الحشرات ، والمدن التي نحيا فيها ، والناقلات البحرية العملاقة ، والطائرات ،،، كل هذه وغيرها الكثير بتنا نفهم أنها تعتمد على محض التوازن التصادفيّ بينها والذي ربما سيُصاب في مقتلٍ يوماً ما – من يعلم متى ؟! هذا التوازن الذي أديم على مرّ ملايين السنوات ؛ ولكنه بات اليوم هشاً سريع العطب . تلك كانت رؤيتنا البشرية الجديدة .
عندما راح كيريلوف Kirillov في رواية ( الشياطين ) لديستويفسكي يفكّر في كوكب الأرض فإن مالامس شغاف قلبه هو ” ورقة خضراء صغيرة بحوافٍ صفراء ” وقد رأى فيها تأكيداً أن الحياة ( والأرض كذلك ) ستمضيان في مسيرتهما من دونه . إن مابات يلامس شغاف قلوبنا اليوم ، وبمزيج من الرثاء والقلق ، هو كوكب الأرض ذاته : نسيجه الكليّ المتراكب الموحّد والإعتماد البينيّ الشامل والسائد بين كلّ مخلوقاته نزولاً حتى بلوغ أكثرها صغراً وندرة ، مثل ضفدع الأشجار الأمازوني ذي البطن الصفراء ، والفأر ذي الجراب ،،، و أصبحنا أكثر حساسية تجاه الهشاشة التي تحيط حياة تلك الكائنات وإمكانية إستمرارها بطريقة مقبولة .
شكّل هذا الأمر بداية لحقبة غير مسبوقة من الحساسية الجديدة ؛ إذ بات يُنظَرُ إلى أدق الأشياء الصغيرة ولكن في إطار مفردات عالمية وفي حدود بيئة عالمية – مفردات مثل : أنماط الطقس المستجدة ( مثل إلنينو El Nino ولانيناLa Nina ) ، غازات الدفيئة Greenhouse Gases ، الرابطة السائدة في المسالك الأرضية المتشعبة بين الحوادث الصغيرة القصية ( تأثير جناح الفراشة ) والحوادث العملاقة التي قد تُسجّل على مبعدة آلاف الأميال عن تلك الصغيرة ، الأمن العالمي ، الثقافة العالمية ، الإقتصاد العالمي وقوى السوق المؤثرة فيه ( وبخاصة في عصر الإدارة ذات المقياس الكبير ) ، إتفاقيات التجارة الدولية ، صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي ،،، ثمة سلطة عالمية تتشكل وهي تمتلك سحرها الغامض وسطوتها النافذة ولاتقبل بأقل من الإذعان الفوريّ والإيمان المطلق بها ، وفي الوقت الذي ضربت فيه الأزمة الإقتصادية العالم مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان الاقتصاد العالمي قد إستحال النظير المعاصر لما كان البشر يقفون أزاءه في يوم من الأيام الغابرة بكل رهبة وخشوع وهم يتضرّعون إليه والخوف يملأ جوانحهم – كما إنعدام الأمل – . كان ذلك النظير الغابر يتقنّع في مسمّى القدر أو الآلهة .
إنّ ما عملت المدارس الفكرية الكلاسيكية على منحه لمُريديها وأتباعها الخُلّص هو إزالة ” غير المُسيطر عليه ” في حيواتهم اليومية وكذلك وهنهم العاجز أزاء ماهو خارجيّ بالنسبة لهم ؛ وأعني ماهو خارجي بالنسبة للذات البشرية – أشياء مثل : الإعتماد على الآخرين ، الخوف من القَدَر أو الآلهة ، الخوف من الموت ،،، ، والسعادة في هذا السياق تكمن في الإكتفاء الذاتي واحتواء الحاجات داخل حدود الذات ، وكان الأمر الوحيد العصي على أي شكّ لدى كل تلك المدارس الفكرية الكلاسيكية هو الأهمية المطلقة للذات بحسبانها الوسيط الأكثر نقاوة وإخلاصاً للتعبير عن الكينونة البشرية ؛ لذا كان أمراً لازماً الحفاظ على حاجات تلك الذات بعيداً عن أيّة إلهاءات أو إنشغالات وكذلك عن أية إغواءات مشتّتة هي بعض نتاج السيل الهادر للحياة اليومية المزمجرة .
لكنّ الحقّ أننا لسنا واثقين تماماً بشأن هذا الأمر- مركزية الذات البشرية وعلويّتها على ماسواها : بالنسبة لنا تبدو الذات البشرية التي فهمها الإغريق وبشّروا بها غير ملائمة تماماً ولاتتناغم مع الحكاية التي صرنا نرى بها – في أوقاتنا الحاضرة – كيفية إرتباطنا مع عالم الظواهر ، وكيفية رؤيتنا لأنفسنا ، وكيفية تعبيرها عمّا نراه بالنسبة للآخرين . إن كلّاً من ال دي. إن. أي. DNA وعلم الوراثة والدماغ البشري ( كما يصف علماء الجهاز العصبي والعلوم الإدراكية الآن ) قد غيّرت صورة المشهد بكامله ، وأنّ وعينا بالأشياء بقدر مايتوسّع أكثر فأكثر خارج المديات الجسدية المتاحة للإنسان فإننا نغدو في الوقت ذاته أكثر وعياً بأجسادنا وأكثر إلتصاقاً واهتماماً بحاجاتها وكل مايؤمّن الحفاظ عليها والإيفاء بمتطلباتها المتعاظمة ( وبخاصة من حيث الشكل والإطلالة على الآخرين ) ، كما نغدو أكثر متابعة لكلّ مستجدّات العلم – وبخاصة العلوم الطبية – التي من شأنها إطلاعنا على الكيفية العجائبية التي تعمل بها أجسادنا ، وفي عصر مثل عصرنا باتت فيه التغيرات والتطورات التقنية الحاسمة التي كانت تتطلّب ربما قروناً من قبلُ لاتستغرق سوى بضعة شهورٍ في عصرنا الحاليّ ؛ فإن معظمنا شهد في حياته بالتأكيد ماكان يتطلّب عدّة حيوات في أزمان سابقة ليرى تلك التطورات ماثلة أمام عينيه .
إنني لَمُندهشٌ أعظم الإندهاش إذ أنظر لتلك السنوات الخوالي من يفاعتي إبان ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي وأرى كم كان الجسد البشري يعدُّ صغيراً واهناً بالقياس لما نشهده اليوم – تلك كانت سنوات ماقبل المضادات الحيوية ( البنسلين مثلاً ) حيث كان يمكن للمرء أن يموت بسبب وخز إصبعه بشوكة ملوّثة كما كانت أعداد كبيرة من النسوة الحوامل يفقدن أرواحهنّ أثناء الولادة ، أو عندما كان يمكن لجائحة وبائية مثل الأنفلونزا الإسبانية أن تقتل الملايين في كل أرجاء الكوكب في بضعة شهور وحسب ، أو عندما تمكّنت موجة جامحة واحدة من وباء شلل الأطفال ( مثل ذاك الذي ضرب العالم في صيف 1947 ) أن يترك ألوفاً مؤلفة من أطفال العالم وبالغيه معوّقين مدى الحياة في حال لم يلقوا حتفهم بعد الإصابة بذلك الوباء الجامح . تلك كانت أزماناً سابقة لزراعة الأعضاء ، ومكائن الغسيل الكلويّ ، وجراحات زرع الشرايين القلبية ، والعلاجات الكيمياوية ، وقبل تخليق حبة منع الحمل ، وقبل التصوير بالرنين المغناطيسيّ ، وقبل تطوير خزعات عنق الرحم للكشف عن السرطانات المبكّرة ، والفحص بالموجات فوق الصوتية ، والفحص التصويري الوعائي الدقيق للقلب ( أنجيوغرام ) ، وكذلك قبل عصر شفط الدهون ، وتكبير الصدور ( أو زرعها ) ، وحقن البوتوكس ، والآذان المزروعة ،،، إلى جانب اللهاث الصارخ لمعظم فئات المجتمع وراء أشكال مختلفة من العناية المفرطة بالذات بعد أن غدا الجسد مثل صفحة بيضاء يُراد العمل عليها بقصد تحسينها وتأثيثها وتزيينها بالمُضافات والأفاعيل والتحسينات المفترضة : الحِميات ، الألعاب الرياضية التي تصاحبها الموسيقى ، الوشم ، إزالة الشعر بالشمع ، تعليق أقراط ( في الأنف او الآذان أو الشفاه أو حتى اللسان ، المترجمة ) ، الزيادة الملحوظة في إستخدام مساند تقويم الأسنان وبخاصة عند المراهقين ، وكذلك حشو رفوف صيدلياتنا البيتية بمستحضرات الفيتامينات ومساحيق البروتينات المكمّلة والحبوب التي تحافظ على البكتريا الصديقة المتواجدة في أمعائنا .
إن الصورة المثالية للجسد المعاصر ( نتاج الهوس المحموم بالصورة والمثال والحيوية والصحة الطيّبة ) تطالعنا دوماً على صفحات المجلات البراقة والإعلانات التلفازية وكذلك من خلال النماذج المفخّمة لعارضات وعارضي الأزياء وأبطال الرياضة والنجوم السينمائيين ونجوم الصابون ومساحيق الغسيل وكذلك نجوم البورنوغرافيا .
بعد أن تحرّر الجسد أخيراً من وصم المتعة الحسّية بالخجل أو الخطيئة ، صار يرى نفسه وكأنه قد خُلِق لا من أجل المتعة فحسب بل لكي يعرض مفاتنه كذلك : هو إعلان متاحٌ طول الوقت إذن للآخرين كما لأنفسنا بعد أن صار مُنتجاً طالته عمليات تزيينية وتكميلية هي بعض تمظهرات العناية المنضبطة والصارمة التي استحالت إنجازاً أخلاقياً بمثل قيمة الإنجاز الجسدي ، وتطوّر الأمر بحيث صارت الشهوانية الجسدية البريئة والخفية تتوق لإثبات علويّتها وكونها أمراً جذاباً وصارت لاتفتأ تعيد تأكيد حيويتها الدافقة وحضورها الصارخ في صورة رعشة الذروة الجنسية الكاملة والمتفجرة صحة ونشوة* – تلك الظاهرة التي صارت في خضمّ نصف قرن ( منذ أيام كينسي وفيلهلم رايخ ) مادة للنقاشات المفتوحة بعد أن كان المفهوم السائد أننا لسنا جميعاً متماثلين في الأداء الجسدي والسايكولوجي المثالي ؛ أما اليوم فإن الفشل – على صعيد الصورة المبتغاة أو الأداء المرجوّ – هو مابات يوصف بالعار الجديد – ذلك العار المتسربل بتأكيد الإحساس على أنه مصدر لبعض الأشكال المستحدثة من الإذلال والشقاء ، أو في بعض الحالات المتطرفة قد يبلغ الأمر أنماطاً جديدة من الإعتلال مثل فقدان الشهية السايكولوجي المفرط أو الشّره المرضيّ .
إن الإنشغال المفرط بالجسد ليس بالأمر الجديد كلياً برغم أنه صار أمراً واسع الإنتشار كظاهرة ثقافية أكثر بكثير من قبل ، ولكنّ الجديد فيه – ربما – هو الطريقة التي أعدنا معها تشكيل توجّهنا نحو النهاية الحتمية للجسد : نحو الفناء ، نحو الموت .
الهوامش
* دخل مفهوم الذروة الجنسية orgasm ميدان اللغة كمصطلح فسيولوجي أواخر القرن السابع عشر ، وبات مقبولاً إجتماعياً وواسع الإستخدام مع بدايات خمسينيّات القرن الماضي بعد نشر عمل ( ألفريد سي. كينسي ) الموسوم السلوك الجنسي والذّكر البشري ( 1948 ) وكذلك عمله الآخر السلوك الجنسي والأنثى البشرية ( 1953 ) ، أما عمل فيلهلم رايخ المعنون وظيفة الذروة الجنسية فقد نُشِر أول الأمر بالألمانية عام 1927 ثم تُرجِم ونشِر في الولايات المتحدة عام 1942 وصار أحد الأدبيات المرجعية الأساسية في الثورة الجنسية التي تفجّرت في ستينات القرن الماضي.
_________
*المدى