كثيرون نظّروا واجتهدوا بصدد عملية الكتابة – والكتابة الأدبية بالذات – كحالة إبداعية استثنائية وذات خصوصية في مضمار النشاط الإنساني الواعي. وهم راحوا يُشرّحون هذه العملية ويُحلّلون تفاعلاتها وكأنّها حالة كيميائية بحتة، أو شرعوا يَشرّحونها ويُفسرونها وكأنّها مادة قانونية أو قاعدة فقهية، أو يضعون لها القوالب والقواعد، ويصفون لها المراحل ويمنطقون لها الخطوات والأدوات والوسائل، وكأنّها لعبة ذهنية كالشطرنج.
ومع تسليمنا بصحة الكثير من القوانين والقواعد والأسس النظرية التي وضعها هؤلاء لعملية الكتابة – وأقصد هنا النص الأدبي تحديداً – إلاَّ أننا مع ذلك لا بد لنا من التسليم بأن «لكل قاعدة استثناء» بالطبع وربما بالقطع. غير أننا قد نتفق مع رؤية مالكوم كاولي مثلاً، بصدد لحظة ولادة هذه العملية وتطورها المرحلي حتى اللحظة الأخيرة، وهي لحظة وضع آخر عبارة في النص. ويمكنني اختزال رؤيته – التي استطالت وتشعّبت كثيراً – بتكثيف بالغ وبأسلوب مغاير نسبياً:
هناك دائماً بذرة لا بد من توافرها حتى تنمو نبتة الكتابة. سمّها – إن شئت – الفكرة. وقد تأتيك هذه الفكرة من شيء مرئي: وجه إنسان أو جزء تفصيلي جداً منه مثلاً، أو حادث ما أو مجرد مبنى.. أو قد تأتيك من حالة سمعية: صوت مميز – أو حتى مزعج – أو موسيقى ما.. أو ربما أتتك من ذكرى عابرة في حياتك الماضية أو حياة سواك، قد تكون لحظة رومانسية أو مشاجرة حامية أو موقفاً مضحكاً حدث لك أو لغيرك في مكان عام.. وقد تأتيك من أي تفصيل في واقعك أو في خيالك. غير أن هذه البذرة في مسيس الحاجة إلى ماء يرويها، حتى تغدو نبتة يانعة أو وردة متفتحة. وذلك الماء يتجسد في التفكير والتأمل ثم إعمال الخيال والجدّ في الدرس والبحث، فهي العناصر الكفيلة بإنجاز عملية الكتابة على نحو مثالي، إذ ْ لا يمكنك الشروع في الكتابة بثقة إلاَّ إذا اختمرت الفكرة تماماً. ثم تأتي مرحلة التشذيب والتقليم، حتى تكون النبتة في أحسن تقويم؛ نصاً مكتملاً صالحاً للنشر. أما بعد ذلك فلا يهم، فهو ليس من شأنك، بل هو شأن القراء والنقاد، وقبلهم الناشر بالطبع.
إن كثيراً من الكُتّاب والنقاد اهتموا كثيراً بطرح عدد من الأسئلة المتصلة بعملية الكتابة، كمثال: لماذا يكتب الكاتب أو الأديب ؟ ولمن يكتب ؟
وقد أغرق الأدباء والنقاد كثيراً في السعي للإجابة عن هذين السؤالين. غير أن سؤالاً آخر – أكثر تفصيلية وحميمية – يُطرَح عادةً في المقابلات والحوارات التي يُجريها بعض الصحفيين مع عدد من الأدباء أو الكُتّاب: كيف تكتب ؟
وقلّما تجد إجابة ضافية عن هذا السؤال في سياق مقابلة، ناهيك عن مقالة كتبها أحد الكُتّاب أو الأدباء، كاشفاً به جانباً يُعدّ سرّياً في نطاق ما يمكن تعريفه بالسيرة الأدبية. وفي هذا المضمار سنكشف زاوية حميمة من عملية الكتابة تتصل بكيفية الكتابة لدى عدد من أبرز الأقلام في عالم الأدب. وهي حالات تطرّق إليها هؤلاء بأنفسهم في مقالات كتبوها ونشروها، أو في مقابلات أُجريت معهم، في أزمنة وأمكنة مختلفة. وقد توافرت ُ عليها في عدد من الكتب والمجلات والمواقع الإلكترونية. قيل إن «الأسلوب هو الرجل» بحسب سانت دينيف، أو بالأصح «هو الشخص» حتى لا تشوب العبارة شُبْهة الجنسوية. غير أن أسلوب الكتابة لدى أي أديب ليس حالة منفصمة عن سلوكه – إن جاز التعبير – المُتّبَع في إنجاز العملية الإبداعية المتمثلة بالنص. والمُطّلِع على سِيَر الأدباء وأسرارهم – المتصلة على نحو حميمي بهذه العملية – سيُدهش من الطرائق التي يكتب بها عديد من الأدباء نصوصهم. ويتنوّع أغلب هذه الطرائق بين ما هو طريف وما هو جنوني، بل إن بعضها يصب في قالب الشعوذة.
فثمة من يقوم – قبل أن يشرع في الكتابة – بنزهة طويلة في الخلاء أو على الشاطئ وحده.. وثمة من يقرأ عدة صفحات من الكتاب المقدس.. أما أطرفها على الإطلاق فهو قيام أحدهم ببري عدة أقلام رصاص. لكن ماذا سيكون حكم القارىء إذا عرف أن أحد الأدباء يؤمن بالخرافات على نحو مرعب؟ إلى حدّ أنه وبحسب قوله شخصياً: «لا أدع ثلاثة أعقاب سجائر في منفضة واحدة، ولا أسافر مع ثلاث راهبات في طائرة واحدة، ولا أبدأ عملاً في يوم جمعة أو أنتهي به».
وبرغم أن معظم الكُتّاب يعملون بأيديهم، فإن بعضهم يلجأ إلى استخدام صوته، إما بالتحدث إلى جهاز تسجيل أو إلى محرر اختزال يُدوّن ما يتلوه عليه. ويقول كثيرون ممن يأنفون هذا النمط الشفاهي إن «الكلمات ليست مجرد أصوات» بالنسبة إليهم، إنما هي «تكوينات سحرية تصنعها أيديهم على الورق».. أو كما يقول جورج سيمنون: «اني حِرَفي وأحتاج للعمل بيدي، وأتمنى لو استطعت أن أنحت روايتي في قطعة من الخشب».
وفيما تتعدد ساعات الكتابة يومياً لدى معظم الأدباء بين ثلاث وستّ ساعات، يتنوع استخدام الأقلام لديهم بين الرصاص والحبر الجاف أو السائل، أو على الآلة الكاتبة مباشرةً، أو على الكمبيوتر بعد ظهوره.. فيما لاتزال ثمة تفاصيل – ربما تبدو صغيرة في نظر القارئ – تُشكّل حيزاً غير محدود من اهتمام وانشغال، بل وقلق بعض الكُتّاب، كمثال: المفاضلة بين الكتابة بالقلم على الورق والكتابة على الكمبيوتر؟ أو أفضل الأوقات للكتابة: في الصباح الباكر، أو منتصف اليوم، أو في ساعات متأخرة من الليل؟
وقد يُدهش القارئ إذا عرف أن الكاتب الفذ أرنست هيمنجواي كان يكتب واقفاً، فيما كشف أديب فرنسي ذات مرة أنه لا يستطيع الكتابة إلاَّ إذا كان جالساً على كرسي المرحاض، وقرأتُ في زمن بعيد أن أحد كبار الكُتّاب لا تحلو له الكتابة إلاَّ إذا كان ممدداً على سطح مكتبه.
وعدا هذه التفاصيل، ثمة التكنيك الخاص بكل كاتب، وقد يكون بعضها مشتركاً لدى عدد من الكُتّاب، فيما يتميز بعضها بالتفرُّد لدى أديب ما. وبحسب فرانسوا مورياك «ينبغي على كل كاتب أن يخترع التكنيك الخاص به». فهناك من يُخطّط للقصة أو الرواية قبل أن يشرع في تسطير العبارة الأولى فيها، وهؤلاء كُثر، ومن بينهم هنري جيمس كمثال.. غير أن هناك عدداً آخر – مثل جورج سيمنون – يشرع في الكتابة من دون أن يدري ماذا سيكون الحدث التالي في القصة، أو الى أية نهاية ستُفضي الرواية؟
وثمة من يتقمّص شخصياته القصصية، أو يغدو – في حالة من اللا شعور – إحدى شخصيات روايته. يُحكى أن تشارلز ديكنز كان يغرق في الضحك أو في البكاء أو في الصراخ أثناء الكتابة، تبعاً للمشهد أو الحدث الذي يقوم بتأليفه في تلك اللحظة. أما فرانسواز ساجان، وفرانسوا مورياك فيتفقان في أنهما عند لحظة البدء في الكتابة، لا يكون لدى أيٍّ منهما سوى القليل جداً من الأفكار والشخصيات والمشاهد، ولكن مع الاسترسال في السياق وتنامي التصاعد الدرامي تتغير الأمور ويحدث الكثير من غير المتوقع بصدد الشخصيات والمآلات.
أما وليم فوكنر فيرفض التزام الكاتب بتقنيةٍ ما في الكتابة، أو الخضوع لما اصطلح عليه بالتكنيك، والذي يتّبعه كثير من الروائيين. وهو يقول: «إذا اهتم الكاتب بالتكنيك، فليتّخذ الجراحة أو البناء. ليست ثمة طريقة ميكانيكية لإنجاز الكتابة»، وهو يعتقد بأنه عندما لا يتدخل التكنيك، فإن الكتابة تكون أسهل. غير أن جورج سيمنون – وعلى النقيض من ذلك – يلجأ الى تفاصيل تكنيكية في غاية الإرهاق، فهو مثلاً يعمد إلى دليل الهاتف ليختار من بين قوائم المشتركين أسماء شخصياته، وهو في العادة لديه أدلة هاتف من جميع أنحاء العالم لهذا الغرض، كما يلجأ إلى كتب وقواميس في القانون والطب وعلم النفس وفي مجالات عدة مختلفة، لاستخدامها في رسم الشخصيات والأحداث وطبيعة الحوار. أما تحديد الأماكن والمدن والبلدان فيلجأ إليه من خلال الخرائط.
غير أن أغرب ما يمكن معرفته عن الحالة الكتابية لدى سيمنون هو أنه فور بدء الكتابة لا يقابل أو يكلم أو يهاتف أحداً، بل يعيش كالراهب تماماً – بحسب وصفه – ويكون طوال الوقت متقمّصاً شخصياته الرئيسة حدّ الامتزاج التام، لدرجة أنه في آخر لحظات الإنجاز يُصاب بإرهاق شديد، ما يستدعي تدخُّل الطبيب.
وعلى الرغم من أن مكسيم جوركي لا يُفصح البتة عن التفاصيل الحميمة المرتبطة بعملية الكتابة لديه، فإنه يختزلها في قول الشاعر كورنفيلد «لا عذاب في هذه الدنيا أقسى من عذاب الكلمات». وهو – أي جوركي – يرى أن اللغة (ليست لغته الأم فحسب، بل اللغات عموماً ) هي «باردة وفقيرة» بحسب الشاعر نادسون، معزياً ذلك إلى عجزها عن اكتشاف المشاعر والأفكار، أو الإفصاح عنها.
________
*الخليج الثقافي