الأرَق … حياة كاملة

*لانا المجالي

(1) عدوّ الموت

ترتدي منامتك. تدخل فراشك، وفي انتظار أن تمدَّ يديك لقطف أحلامٍ طازجة، تتسلَّى بتبادل وجهات النظر مع صديقك هيبنوس. يتطوّر الأمر- دون أن تقصد- إلى جِدالٍ عقيم، فينحشر ضيفٌ ثقيل الظلِّ؛ اسمه الأرَق، بين جفنيك.

الأرَق، لسوء الحَظّ؛ خلاف حادّ مع إله النوم (هيبنوس).

الأرَق، لحسن الحَظّ؛ خلاف عابر مع  شقيقه/ إله الموت( ثاناتوس).

(2) مَن يُحبّ لا يَنَام

يوهانِّس إلياس آلدر، بطل رواية “شقيق النوم” للنمساوي روبيرت شنايدر/ ترجمة: د. نبيل الحفار، موسيقيّ مغمور، أنهى حياته وهو في الثانية والعشرين من عمره، بعد أن قرَّر التوقّف عن النوم، مستعيناً بالمنبّهات الطبيعيّة، مثل: فطر المجانين، وأوراق الداتورة، وكرز الجنون.

تدور أحداث الرواية خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، في قريةٍ جبليّةٍ تعاني من غضب الطبيعة والحرائق والأمراض، ويحيا أهلها في جهل وفقر مدقع، حيث نتعرّف على حكاية آلدر، صاحب العبقريّة الموسيقيّة الفطريّة التي لم تجد الرعاية الكافية في ظل الظروف التي يعيشها، بالتزامن مع عشقه الجنونيّ لابنة عمّه إلزبت.

وتشاء الأقدار أن تختار محبوبة آلدر وملهمته الزواج من غيره، ما يدفعه إلى الاعتقاد بأنّه يستحقّ مثل هذه النهاية؛ لأنّه أحبّها بنصف قلب فقط، بعد أن توصل إلى قناعةٍ تفيد بأنّ النوم زمن ضائع ومهدور بوصفه حالة تتطابق مع الموت، وخطيئة تودي بصاحبها إلى غضب الربّ، متسائلاً من وحي شعوره بالتقصير: كيف يمكن لإنسان صافي القلب، أن يزعم بأنه يعشق محبوبته طوال الحياة، في حين أنه لا يفعل ذلك، حقيقة، إلا أثناء النهار. وربما بطول فكرة عابرة لا أكثر! لا يمكن لهذا أن يكون برهاناً على الحبّ؛ فمن ينام لا يحبّ.

هل يتعارض فعل الحبّ مع النوم؟ لا نعرف الحقيقة، فها هو إدواردو غاليانو، يدحض الفكرة من أساسها، عندما يعترف في كتابه المعانقات: ” مؤخّرا، بدأتُ أعاني من الأرق، والآن، لعدّة ألفيَّات، أعاني من المشكلات حين أحاول النوم، وأنا أحبّ النوم، حقّا أحبّه؛ لأنّني حين أنام، عندئذٍ أصبحُ عاشقاً، أحرقُ نفسي في اللهب القصير للحبّ الهارب…الخ”.

(3) فندق بين اليقظة والحلم

الأرق عند محمود درويش طنين بعوضة وصراع خفيّ على لحاف ومخدَّة وركبتين. يقاومه بمحاولة انتشال جسده العالق بين النوم واليقظة، وممارسة الحلم يقِظاً، أن يحلم بأنّه نائم، فينام ويعلم أنّه نائم، ويحيّي هيبنوس متناسيًا أنه شقيق الموت.

عدوّ الليل فرانتس كافكا يعتبر الأرَق خطيئة، يبرِّر ارتكابها بخشيته من أن لا تتمكَّن روحه، التي تفارقه أثناء النوم، من العودة إلى جسده ثانية، وهو الأمر الذي يحيلنا إلى روايته الشهيرة “التحوّل”، للبحث عن دور الأرق بصفته خطيئة، عقابها مسخ غريغور سامسا إلى حشرةٍ ضخمة، أو على الجانب الآخر، مخاوف كافكا التي جسّدها، منطلقاً من فكرة أن روح البطل التي فارقته أثناء النوم ضلَّت طريقها، ولم تجد إلا جسد حشرة تسكن إليه. هذه العلاقة المضطربة التي تربط كافكا بالأرق منحته قوىً إبداعيَّة غامضة، قال عنها: “إنها قوَّة أحلامي، مرَّة أخرى، تشرق على اليقظة، حتى قبل نومي، وهو ما منعني من النوم”.

فرناندو بيسوا هجرَ الرغبة في النوم، المذكِّرة بالتفكير؛ لكون التثاؤب المحض والضروري لتحقيقها بدا له بحاجةٍ إلى مجهود. حتّى أن الكف عن النظر، كَما يقول في (اللاطمأنينة)، يؤلم العينين- ناهيك بالنظر- وفي التبادل العديم اللون للروح بكاملها، لافتًا إلى أن الضوء الخارجيّ، القصيّ، وحده، يمثِّل العالم المستحيل الذي ما زال موجوداً.

أمّا تشارلز سيميك الذي يقول في (فندق الأرق)/ ترجمة أحمد شافعي: “حينما مسستني على كتفي، أيّها الضوء الذي لا توصف روعته، أسديتَ لي خيراً كثيراً، جعلتَ- فقط- أرَقي يطول”، فيمثّل حالة استثنائيّة، إذ تربطه بالأرق وشائج عشق وافتتان،معترفاً إنه ما كان سيكون ما هو عليه لو كان ينام بشكلٍ جيّد. وكما يطيب لكل عاشق سرد قصّة لقائه الأوّل بالحبيبة، يأخذنا سيميك في مقطع من (ويقع المينوطور في غرام المتاهة) إلى البدايات؛ أي عندما أصيب بسهم كيوبيد  وهو في الثانية عشرة من عمره، فقط: “حينما أحببتُ ورحتُ أرقدُ في العتمة، أتخيَّل ما تخفيه الجيبة السوداء، كنتُ أظن، اسمها ماريا، لكن اسمها الحقيقي كان إنسومينا( أرق)، وفي عالمٍ مليء بالمشاكل، وفَّرت لي إنسومينا، صحبةً أواجه بها الخوف من الظلام، فقد كنتُ وإيّاها حبيبين شابين، لا أخفيها سرّاً، وكان صمتنا مساوياً للكلام”.

(4) أرَقٌ طريٌ

في رواية “الجميلات النائمات” للياباني يوساناري كواباتا/ترجمة: ماري طوق، يعثر الستِّيني إيغوشي على منزلٍ سرّيّ يلبي رغبة المسنّين في النوم إلى جانب فتيات يافعات نائمات بفعل مخدّر، ما يدفعه إلى التردّد عليه، مستعيداً خلال زياراته الخمس، ذكرياته مع أمّه وابنته ونساء مررن بحياته، متأمّلا أعمق المناطق في داخله، ومواجها وحدته وما تثيره من أسئلة، قبل أن تنتهي التجربة بموت غير متوقّع لإحدى الفتيات أثناء نومها إلى جواره.

يضعنا كواباتا الحائز على نوبل عبر تسلسل الأحداث في روايته، أمام التضادّات القائمة بين الشيخوخة والشباب، والحياة والموت، والرغبة وزوالها، والجمال والقبح، والذكورة والأنوثة، والنوم واليقظة، أو –ما يهمّنا في هذه الحالة- النوم والأرق.

الحقيقة، ليس ثمّة حاجة إلى الحديث عن رواية بشهرة “الجميلات النائمات”، فما دفعني إلى استحضارها بشكلٍ موجز، حالة من التماثل الشعوريّ مع  قصيدة “أرق طري” ليانيس ريتسوس، من ديوانه (إيماءات)/ ترجمة: سعدي يوسف، أقتبس منها المقطع الذي يقول فيه: إنّه حارسُ الأرَق قد عيَّن نفسه بنفسه، يحرسُ نوم الأبرياء. العجوزُ النحيفُ يفتحُ إحدى عينيه نصف فتحةٍ، ويصيح: “أطفئ الضوء.. بحقّ الله”. إنه يستدير  مواجهاً الجدار. مخفياً الضوء بجسده، كأنما قد سرقه.

_________
*الإمارات الثقافية

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *