1
كُلَّما عَاودْت قراءة أَشْعَار لوركا خفَّ وَزْني ورَفْرَف مزاجي لأنَّني في حضرة النبع المسحور أكون، ماء الشعر الطلق، أتشرَّب عبير الطفولة الأزلي، أو لم يقل خورخي غيين عن رفيقه الغرناطي إنه شاعر الينبوع، شاعر الحيوية الشعرية الخالصة. شاعراً عاش في كل ما كتب من شعر ونثر، وفي كل ما خط ورسم، وما عزف من ألحان، وما عاش من تجارب وصداقات.
أو لم يخاطب هو نَفْسُه رائدَ الغنائية الإسبانية الحديثة لويس دي غونغورا بالعبارات الآتية:
«أمام الطبيعة يَقف بعينين نَفَّاذتين ينظر بانْدهاش إلى الجمال المتماثل في كُلّ الأشكال، ينفُذُ إلى ما يمكن تَسْميته بالعالم المنفرد لِكُل شيء. وهناك يلائم ما بين إحساسه والمحسوسات المحيطة به، وَمِنْ ثَمَّ تَبْدُو الأشياء كل الأشياء سواء بالنسبة إليه، تُفَّاحة كانت أم بحراً، لأنه يعرف أن التّفاحة في عالمها الصغير هي لا نهائية تماماً مثل البحر في عالمه الشاسع. إنَّ حياة أيّ تُفّاحة منذ أن تبدأ زهْرةً رقيقة إلى أن تَسْقُط مذهبة من الشجر على العشب، هي حياة كبيرة ومليئة بالأسرار كالإيقاع الدّوْري للبحار».
كذلك هو شعر لوركا متدفّق ملوّن حار ومتحرّر، نشيد غنائي آسر مشبَّع بعبق الطبيعة الأندلسية، بالتراث الشعري الأندلسي العربي والتراث الشعري الإسباني في عصوره المختلفة، لقد رُزِق لوركا عبقرية صَهْرِ كلِّ ذلك الموروث بالأغاني بالفلكلور بقصص الأطفال بالأساطير المحلية وبالتقاليد الاحتفالية والمآسي أيضاً مما تتكوّن منه الحياة. غنائية لوركا غنائية احتفالية لها طراوة المعيش الجوهري وبنْية الدرامي وجدّة التخييل، مصهورة كلها في بوْتقة لغة سهلة ممتنعة حديثة بقدر ما هي مستوعبة للشعرية الكلاسيكية الإسبانية ممثلة في غونغورا وغارسيلاسو وكيبيدو، مَاشادو وخوان رامون خيمنيث، لكن علينا ألّا ننسى أن الحديث هنا يتعلَّق فقط بإبداعه الشعري، لأنَّ أعمالهُ الدرامية الرائدة خلَّدتها آلاف المقاربات والدراسات والاقتباسات في مختلف أنحاء العالم.
2
مرت هذا الأسبوع الذكرى الحادية والثمانين لمقتل لوركا في التاسع عشر من أغسطس 1938، ففي عِزّ عطائه وحيويته وضَعْت الآلة الفاشية الجهنّمية حَدّاً لحياة لوركا وهو في الثامنة والثلاثين من عمره. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يتوقّف الإشعاع اللوركوي عن الاغتناء والتجدُّد عَبْر كل اللغات والثقافات ترجماتٍ ودراسات، احتفاءات ومراجعات، مِمَّا جعل أثره الأدبي يتبوَّأ مركز الصدارة على مستوى الاهتمام العالمي منذ سبعة عقود بجانب كبار شعراء القرن العشرين وما زال تأثيره وحضوره متوهّجين حتى آخر العقد الثاني من قرننا هذا.
وحسبي الإشارة إلى ما عناه ويعنيه اسم لوركا وأدبه بالنسبة إلينا نحن في العالم العربي مشرقه ومغربه منذ بداية خمسينيات القرن الماضي إلى اليوم. لم تكن وفاة لوركا عنصراً حاسماً في احتضان أثره الشعري واقتفاء أثره في تقديري. كان لها دورها بلا شك. العنصر الجوهري هو جاذبية شعره. أغلبنا، حتى لا أقول جميعنا، شعر بقرابة وانجذاب لا يقاومان تجاه أدب لوركا كأنه منّا، من العائلة الرَّمزية للشعرية العربية. لغته وإيقاعاته ومجازاته.. صُوره مستمدة من البيئة الطبيعية والثقافية القريبة إلينا. لقد كان لوركا عَربيّاً في جَوانب أساسية من وعيه ولا وعيه الثقافيين ذلك ما تقوله بصيغ مختلفة أعماله ذاتها.
لذلك نجد أن أبْرز شعراء الحداثة العرب استحضروه في قصائدهم وجعلوه رمزاً من رموز الخلاص على نحو ما فعل السّياب في قصيدة «غارسيا لوركا» في ديوانه «أنشودة المطر» حين ارتقى به إلى مستوى المخلّص الذي «طوفانه يطهّر الأرض من الشرور»، أما صلاح عبد الصبور في ديوان «أحلام الفارس القديم» فقد أضْفَى على لوركا صُوراً رهيفة مجنحة جاعلاً منه:
«سَوْسَنةً بيضاءْ
مَسَحت خدَّيْها في الماء»
أو: «أجراس قباب
سكنتْ في جوف ضبابٍ قرب النجم المُفْرَدْ
آنا تشدو، آنا تتنهَّدْ».
ثم نجد لوركا يأخذ تجليَّات مغايرة في شعر عبد الوهاب البياتي يَغْلُب عليها التوظيف السياسي التراجيدي كما في قصيدة: «إلى أرنست همنغواي في إسبانيا» حيث نجد وجه لوركا والغجر والدم جنباً إلى جنب مع همنغواي وابن عربي. وفي «قصائد عن الفراق والموت» أو في قصيدة «السمفونية الغجرية» يستلهم البياتي صور وحكايا الغجر المأساوية حيث يتحدّ المغني الغجري والشاعر الجوّال الباحث عن القصيدة المستقبل وعن النبوءة الرحيل. ولا شكّ في أن أهم تجليات لوركا في شعر البياتي تتجسَّد في قصيدته «مراثي لوركا» التي يمتزج فيها صوت البياتي بجلجامش بحثاً عن مدينة مسحورة لعلها «غرناطة» غرناطة الحلم أو الأمل المستحيل الذي أجهضه الفاشيست.
3
لقد تنامى أثر لوركا واتسع في كل العالم العربي وافتتن به الشعراء من شعريات مختلفة وأجيال مختلفة لا يكفي المجال هنا لمقاربة حضوره فيها، حسبي أن أشير إلى ما عرفه الأثر اللوركوي من تفاعل وتأثير في المغرب بحكم القرابة الجغرافية والتاريخية من جهة وبحكم الروابط الخاصة بين شمال المغرب وبلاد الأندلس خلال فترة الاستعمار الإسباني وما بعدها في شمال المغرب. لقد تعرف الجمهور المغربي على أعمال لوركا في وقت مبكر في كل من طنجة وتطوان مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان لوركا لا يزال على قيد الحياة من خلال عروض مسرحية لفرقته الجوالة «la barraca»، ثم فيما بعد من خلال التبادل الأدبي والثقافي بين الشمال المغربي والجنوب الأندلسي والذي تجلى على الخصوص في الدور المهم الذي لعبته مجلة «المعتمد» الأدبية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بتعريفها بشعر لوركا وباقي شعراء جيل 27 ممن ربطت بعضهم علاقات صداقة أدبية وطيدة بشعراء مغاربة، وأذكر هنا على الخصوص علاقة الصداقة التي جمعت الشاعر الأسباني فسينتي أليساندري، الحاصل على جائزة نوبل للأدب، بمحمد الصباغ وإبراهيم الإلغي وأحمد عبد السلام البقالي ومحمد البوعناني، ومع ظهور الأجيال الجديدة الستينية والثمانينية أخذ حضور لوركا أبعاداً وتوظيفات جديدة جمالية وإيديولوجية، ولعل أن أغنى وأعمق ضيافة شعرية حظي بها لوركا في البيت الشعري المغربي هي تلك التي أجدها لدى الشاعر الكاتب محمد الصباغ (19282013) في أغلب أعماله النثرية الشعرية، ولدى محمد الميموني (1936) الذي أعتبر قصيدته «حديقة لوركا» عملاً شعرياً فريداً في التماهي مع عالم لوركا على أمثل وأجمل وجه شعري ممكن، إنها قصيدة عرفان وامتنان وافتتان بالنص اللوركوي. تناصّ حيّ وحميم يستخدم الرموز والمفردات الأثيرة في شعر لوركا مثل القمر السهر الغجر الجيتار البساتين العزف إلخ.. وبدوري لم أسلم من جاذبية لوركا وسحره، غير أنني لم أحظ من صحبته سوى بقصيدة يتيمة عنوانها «صفحة عند لوركا» تبدأ هكذا:
«نسوة من أغاني الغجرْ
أترى جئننا ساحرات
قبل هذا النوى والمكان؟
أترى صفحة واحدةْ
تجرح الليل كله؟
ويجذفن بي
خضرة عابقةْ
بالجياتير والشهوة الحارقةْ»
وتنتهي القصيدة بهذا المقطع:
«دورقي ظامئٌ
يا نساء الأغاني فاملئنه
بدم من مراثي الغجرْ»
4
مع محمود درويش تنكشف أمامنا عُرى النسب الشعري الوثيق الذي يربطه بلوركا: دينامية القصيدة إيقاعاً وتعبيراً وبنيةً الغنائية الخلاقة الدفاقة، الأبعاد الدرامية، السلاسة وجمالية اللغة المكونة من معجم الطبيعة ومن اليومي وحيوية المتخيَّل مع الانشداد إلى خصوصية البيئة المحلية (الفلسطينية الأندلسية) الذاكرة الشعبية بصورها ومفرداتها وحكاياها في تشكيل القصيدة، لكن مع بروز لافت وطبيعي لعناصر التمايز: أهمها الحضور المبرّز للسياسي والإيديولوجي في شعر درويش بحكم وَضْعية القهر والاحتلال الذي يعانيه الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة.
منذ ديوان «أزهار الدم» نَلْتقي في شعر محمود درويش بمفردات درامية قريبة من جَوِّ الغنائية الدرامية اللوركية، ففي نص عنوانه «القتيل رقم 18» يفاجئنا صوت القتيل:
«يا حبيبي لا تَلُمْني
قتلوني، قتلوني.. قتلوني»
يختلط الدم بالعشب تماماً كما في صور لوركا وتتحول غابة الزيتون الخضراء إلى بركة دم حمراء «من خمسين ضحيّة». وفي «القتيل رقم 45» يَصير الشهيد قمراً بعدما وجدوا في صدره قِنْديل وَرْد، وَهُو مُلْقى «ميِّتاً فوق حجر». إنَّ عنوان الديوان نفسه رغم استحضاره لـ«أزهار الشرّ» لبودلير، يذكّرنا بـ«عرس الدم» للوركا تماماً مثلما يَضعُنا ديوان درويش: «أعراس» في قَلْب المناخ اللوركي المطبوع باختلاط العشب بالدم والحياة بالموت، فعرس الفلسطيني هو عُرْس الشهيد المكلل بالدم، عُرْس محمد الذي خَطفتْه الطائرات من «حِضْن الفراشة» فتزوَّج البلاد أو بالأحرى زوَّجَتْه البلاد كُلها نفسها وهو عرس راشد حسين الشاعر الذي فاجأه الموت في المنفى، وهو عُرْس أحمد العربي ونشيد ولادته أو ولاداته المتعدّدة من ميتاته المتعدّدة، وهو عرس إبراهيم مرزوق الرسام الفلسطيني. في قصيدة «الخبز» التي تستعير من مرثية لوركا لصديقه المصارع إغْناسيو ميخياس دقّات الساعة الخامسة في أكثر من مقطع: تقول قصيدة درويش:
«ما الذي أيقظك الآن
تمام الخامسة؟
إنهم يغتصبون الخبز والإنسان
منذ الخامسةْ».
ثم يقول:
«ويموتُ إبراهيم في تمام السادسة
دمه في خبزه
الآن تمام السادسة»
ومع تطوّر غنائية درويش في أعماله اللاحقة اتّخذ حواره مع نصوص لوركا مناحيَ أرهف وأعمق من حيث اللمسة الشعرية ووجازة العبارة ومن حيث حضور تيمة الموت «اللوركي» الغادر المفاجئ. ومن أبرز الأمثلة: نصُّه الشعري «لحن غجري» من ديوانه «حصار لمدائح البحر». وفي قصيدة «أحد عشر كوكباً على المشهد الأندلسي» من ديوانه الحامل للعنوان نفسه نلتقي بنشيد ملحمي مدوَّر يُحاور فيه العربي الأخير تاريخه المطبوع بالرحيل والمأساة والغناء. وتمثل غرناطة في هذا الحوار/&rlm النشيد بؤرة النص ورمزيته بوجهها الأندلسي العريق وإيحاءاتها الحضارية التي جعلها الشاعر مركزا لتوليد الصور والتماهيات وخاصة في نص «كيف أكتب فوق السحاب»، وفي نص «ذات يوم سأجلس فوق الرصيف»، فلوركا حاضر بقوة في هذه المشاهد بِصُور متوارية أو مبرّزة تماماً كما في النصّ الثالث: «لي خَلْفَ السَّماءِ سماءٌ» وحضوره المقَوّى دالٌّ على المكانة الأثيرة وجدانياً ورمزياً في حياة درويش وشعره يقول:
«سوف أخرج من كل جلدي وَمِنْ لغتي
سوف يهبط بعض الكلام عن الحبِّ
في شعر لوركا الذي سَوْف يسكنُ غرفة نومي
ويرى ما رأيتُ من القمر البدوي»
ولكي يؤكد قوة الآصرة الجامعة بينه وبين صديقه لوركا يختم نصَّه بهذه الوصيّة:
«… واقتلوني على مَهَلٍ
تحت زيتونةٍ
مع لوركا».
«سوسنة»
صلاح عبد الصبور في ديوان «أحلام الفارس القديم» أضْفَى على لوركا صُوراً رهيفة مجنحة جاعلاً منه:
«سَوْسَنةً بيضاءْ
مَسَحت خدَّيْها في الماء»
أو: «أجراس قباب
سكنتْ في جوف ضبابٍ قرب النجم المُفْرَدْ
آنا تشدو، آنا تتنهَّدْ».
في أنشودة «السّياب»
أبْرز شعراء الحداثة العرب استحضروه في قصائدهم وجعلوه رمزاً من رموز الخلاص على نحو ما فعل السّياب في قصيدة «غارسيا لوركا» في ديوانه «أنشودة المطر» حين ارتقى به إلى مستوى المخلّص الذي «طوفانه يطهّر الأرض من الشرور».
الإشعاع اللوركوي
في عِزّ عطائه وحيويته وضَعْت الآلة الفاشية الجهنّمية حَدّاً لحياة لوركا وهو في الثامنة والثلاثين من عمره صيف 1938. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يتوقّف الإشعاع اللوركوي عن الاغتناء والتجدِّد عَبْر كل اللغات والثقافات ترجماتٍ ودراسات، احتفاءات ومراجعات مِمَّا جعل أثره الأدبي يتبوَّأ مركز الصدارة على مستوى الاهتمام العالمي منذ ثمانية عقود بجانب كبار شعراء القرن العشرين وما زال تأثيره وحضوره متوهّجين حتى آخر العقد الثاني من قرننا هذا.
____
*الاتحاد الثقافي