وما كائنات الليل إلا الجن والعفاريت فلقد عاشت معنا صغارا وكبارا وآنست بنا وآنسنا بها وربما أحدثت أذية أو أتت بلية غير أن بليتها لم تكن إلا بالكلام.
وأول ما شغلنا من الجن الفرس” الزايلة ” تلك الجنية التي أقسم من أقسم من الصغار أنه رآها وحدثنا عنها بعض الكبار في إيمان شديد بوجودها
تأتي في ليالي الشتاء الطويلة تجوب أزقة “السويقة “وتنتهي جولتها أمام الجامع لتعود أدراجها من حيث أتت مازلت أذكر كيف كنت ألتصق بأمي في ليالي الشتاء الطويلة كأنني أسمع حمحمة ووقع سنابكها كنت أرتعد فرقا وأنا أتخيل ذيلها المتموج المنطلق مع الريح وعينيها الزرقاوين وصهوتها التي لا يمتطيها أحد وخوفي كان يزداد لأن بيتنا يقع إلى جوار المقبرة فكنت ألتصق بالجدار إذا ذهبت إلى المرحاض في الفناء المكشوف وأذني مرهفة لسماع حمحمتها أو وقع سنابكها حتى إذا توهمت أنني سمعت صوتا عدت أرتعد خوفا وطلبت من أمي ان تصحبني كرة أخرى.
ونخرج في الصباح فيلقى أحدنا رفيقة:
– هل سمعت في الليل شيئا؟
– فيرد الآخر: لا نمت باكرا
– أقسم بالله سمعت صوتها ووقع أقدامها فعدت إلى الفراش رعبا حتى أنني نسيت قراءة أية الكرسي.
والغريب أننا كنا نخرج في الصباح الباكر بل وفي الظلام الحالك إلى الكتاب لحفظ القرآن الكريم ونجوب أزقة الحي بلا خوف وربما كذب أحدنا على الآخر وأقسم أنه رأى عفريتا أو جنا.
ولم تكن أحاديث الجن والعفاريت أحاديث الصغار فقط بل من أحاديث الكبار بل ومما يشغل بال بعضهم ونصيبا من أحاديثهم ومسامراتهم.
في الثلاثينات من القرن المنصرم قبل أن يسافر جدي لأبي ليستقر بباريس وكان جدي وقتها شابا ضحوك السن يبحث عن النكتة يلتقي بشيخين يحلو له التنكيت معهما يحدثهما صباحا عن العفاريت وينتظر في الليل إذا خرج أحدهم إلى صلاة العشاء وعاد إلى بيته يختبأ جدي ويقذف العائد بأحجار فيهرول الرجل إلى البيت ذعرا وهو يتشهد ويقرأ ما تيسر من القرآن الكريم حتى إذا طلع النهار ذهب إلى جوار ذلك الشيخ الذي قذفه في الليل بالحجارة فاستدرجه في الحديث عن ليلة أمس فينبسط الشيخ ويأخذ في الحكاية:
– البارحة وأنا عائد من صلاة العشاء رأيت عفريتا
– عفريتا يا عصمان؟
– بالحرام يابكير قامته تعدت طول تلك الشجرة.
وهو يشير إلى شجرة عملاقة في وسط الحي ولم يكن بكير إلا شيخا أعشى يكاد يذهب بصره فلا يرى شيئا ولكنه يصدق صديقه الشيخ المخدوع هو أيضا بعفريته الذي لم يكن غير حجارة قذفها جدي العابث به.
وكانت أمهاتنا تتشدد معنا فلا اغتسال بعد العصر “الأوقات “وحين كانت أمي تصطحبني إلى بيت الحنفي لنسمع “جلجال” وهو هاتف من الجن يأتي العجوز صديقة أمي فيبشرنا بقرب عودة جدي وبمشواري الدراسي الناجح ، كنا حين نمر فوق عين السويقة وإلى جوارها المسلخ تطلب مني أمي في إلحاح قراءة آية الكرسي فهي تقول أن المكان ملئ بالجن والعفاريت وكنت أرتعد أمام حفيف الشجر أو حركة حيوان معتقدا أنه الجني الذي خوفتني منه أمي.
وكنا صغارا نلعب الكرة أو ندرس في المدرسة ورقبة أحدنا تلفها التمائم حتى لا يتأذى أحدنا من العين أو الجن .
ومما يتردد في الحي أن رجلا كان شغوفا بلعب “الدومينو” في ليالي الشتاء والصيف فلا يرجع إلى البيت إلا مع منتصف الليل وقد ترجته أمه فلم يبالي بذلك ثم توعدته فما استجاب وفي ليلة من الليالي أخذت ملحفتها البيضاء “الحايك ” وارتدتها وجلست قبالة قبر ذلك أن المقبرة تقع في جانب الحي وأدارت ظهرها للطريق وكانت تعتقد أن ولدها إذا رأى هذا المنظر أصابه الرعب وكف عن الخروج في الليل أو على الأقل العودة في منتصفه فلما اقترب من المقبرة رأى شبح امرأة بملحفة بيضاء تجلس على قبر اقترب منها بدون خوف وكان الرجل شديدا لا يقيم وزنا لأحاديث الجن وقذفها بالحجر وتوالت الحجارة على العجوز حتى كادت أن تصيبها فصاحت بفلذة كبدها أن يتوقف فهو يكاد يهلكها ،إن هي إلا أمه أرادت تخويفه من سهر الليالي.
وأعراس الجن مشهودة فيحدث أحدنا الآخر عن والده أو جده الذي ذهب لسقي الحقل وكان وقتها ما يعرف بالنوبة فاختطفته الجن من بين الأشجار إلى مكان ناء ليشهد عرسهم “زفاف الجن” ولم يكن العرس يختلف عن عرس البشر سوى أن الكائنات الجنية المحتفلة كانت صغيرة بحجم النمل.
ولقيامة الموتى نصيب من الذكر فالمقبرة التي تقع بجواربيتنا تترى الأحاديث حول قيامة الموتى بل وحركتهم في الزقاق وأنين بعضهم ” النزع ” كما كنا نقول.
غير أن أحمد قنيبري وكان رجلا بائسا سكن بجوارنا حينا من الدهر وكان لا يخيفه شيئ يسمع أحدهم يتحدث عن قيام الموتى ينظرون ويتكلمون ويهرولون في الأزقة يقول للمتحدث:
-أعطوني أتعشى أنام على قبر
– على قبر؟
– بالحرام إلى الصباح
ويتعجب البعض لشجاعته ويتعاطف البعض مع بؤسه ولكنه يتعشى ولا ينام على قبر مع أنه يفعلها بدون خوف.، بل ويعيش الجني معنا في البيوت وهو يتلبس شخصية “بو تليسة “ذلك الجني الذي يسرق الأطفال وحتى الكبار من بيوتهم فيأخذهم نياما يقومون في الليل يمشون ويخرجون من بيوتهم وربما أمرهم بوتليسة فأتوا من الأعمال مالا يأتونه أيقاظا.
تلك الكائنات عاشت معنا في منامنا ويقظتنا وجرت معنا في أزقتنا ودخلت بيوتنا وأشد ما كان نشاطها يكثر في الظلام وفي مخيلة الأطفال فهي لا تحب نور الكهرباء ولا أجهزة التلفاز حتى إذا أمعنت البلدة فيهما وجاء جيل جديد ذهبت تلك الكائنات إلى غير رجعة، ولم يبق من حديثها إلا الذكرى.