فصول من كتاب الحياة السّعيدة: البحث عن الاكتفاء في العالم الحديث للكاتب ديفيد معلوف (6)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدّليمي

 

      أقدّم أدناه  ( وفي أقسام لاحقة ستنشر تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره ( ديفيد معلوف ) في مجلة ( Quarterly Essay  ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011 ، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّة .

                                                               المترجمة

           الطريقة التي نحيا بها في وقتنا الحاضر

 

   إسأل أي أحد من أصدقائك أو جيرتك بشأن كونه سعيداً أم لا وسيكون جوابه المحتمل هو أن ليس ثمة مايشكو منه . إن مايعنيه بالفعل كلٌّ من هؤلاء هو أن الحياة الطيبة – كما فهمتها الأجيال السابقة ربما – قد تمّ الإيفاء بمتطلّباتها وصارت حقيقة على الأرض : ضمنت العلوم الطبية أن لايموت سوى القلّة من الأطفال فحسب عند وصولهم سن البلوغ ( البيولوجي ، المترجمة ) ، وأن معظم الأمراض الوبائية المُعدية قد باتت تحت السيطرة ؛ بل حتى أن أخطرها ( الجدري ، الطاعون ، السل ، شلل الأطفال ) تمّ إجتثاثها في معظم مناطق العالم ، وأن المجاعة ماعادت منتشرة بيننا ( باستثناء مناطق محدّدة في القارة الأفريقية ) ، وأن الأفراد في المجتمعات المتقدمة باتوا موضع عناية الدولة ورعايتها من المهد إلى اللحد .

   نحن نشتكي بالطبع معظم الوقت ؛ لكنما شكوانا ليست سوى تذمر بديهيّ يتّخذ معظم الأحيان مظهراً طقوسياً : سياسيونا يفتقدون الرؤية ، معدلات الفائدة عالية للغاية ، إيقاع المعيشة الحديثة غدا عجولاً مربكاً ، الشباب ينقصهم الإحساس بالواجبات المُلحّة ، القيم العائلية باتت في إنحدار مخيف ،،،، الخ . يبدو الأمر كما لو أن الحياة الطيبة ماعادت كافية ، وليس ثمة مانشكو منه ونحن سعداء ” بما يكفي “ ؛ غير أننا لسنا لسنا سعداء تماماً . لم نزل حتى اليوم ، وبشكلٍ ما ، غير راضين بأوضاعنا ، وعدم الرضا هذا يستشعره الجميع بعمق بصرف النظر عن الأشكال الغريبة والمختلفة التي يتقنّع بها .

   لو تمادينا قليلاً في الإلحاح على أصدقائنا فربما سيجيبوننا بأن مايشكونه في الأساس هو الضغط  Stress ( التوتر ، الإجهاد ) – ذلك الإحساس الغريب المتخفّي الذي يجعلهم يرون كلّ ماحولهم يبدو على غير مايُرام ، أو في أقل تقدير هذا مايشعرونه وهم يعيشون وسط العالم ، وهو مايجعلهم في نهاية المطاف يشعرون بفقدان الأمن والسلامة .

   عدم الرضا هذا مُتمثّلاً بعدم القدرة على تأمين السلامة هو نسختنا المستحدثة لما شخّصه بروتاغوراس من قبل بأنه ” فقدان السكينة ” ؛  ولكن دعونا نتساءل بتمعّن : في مجتمع متطور مثل مجتمعنا حيث أزيلت ( أو في الأقل وُضِعت تحت السيطرة الكاملة ) أغلب العوائق والمعضلات التي كانت تقف حائلاً أمام تحقيق السعادة الناجزة ، ماالذي يجعلنا على هذا القدر الصارخ من الإرتباك والخوف بشأن سلامة حيواتنا التي تكاد تنزلق من أيدينا ، وأن المستقبل الذي سنواجهه سيكون أكثر ظلمة بكثير ممّا بشّر به أكثر المفكرين تفاؤلاً ( كوندورسيه Condorcet مثالاً لهم ) ، ولنلاحظ في هذا السياق أن الإنهماك المحموم بالمستقبل هو أمر جديد نسبياً بالقياس للعصور  السابقة لكنه بالتأكيد جزء متأصّل في قلب مشكلات عصرنا الراهن . ثمة أيضاً شكوى لاتنفك تتناسل بأن العالم بات ضخماً للغاية كما نراه الآن ، وأن القوى الناشئة فيه والتي تحكم مسار حيواتنا هي قوىً متباعدة ومتنافرة وهائلة التعقيد ولاقدرة لنا على التعامل – أو الدخول في صراع – معها .

  العالم الذي خبرناه بالتجربة المباشرة في معظم التأريخ البشري شهد توسعاً أكثر بقليل ممّا ستنبؤنا به جولة ساعةٍ على الأقدام في أي إتجاه نختار الذهاب إليه من المكان الذي قضينا معظم حياتنا فيه ، وفي معظم الأحيان فإن ذلك المكان هو الذي شهد ولادتنا أيضاً . وحدهم الأثرياء – الذين ربما يملكون أرضاً وبيتاً في المقاطعات الريفية إلى جانب منزل في الحواضر المدينية – سيكون في مقدورهم السفر أبعد من جولة المشي السابقة : سيقضون نصف نهار أو مايقرب من هذا وهم ممتطون ظهر حصان ، ثم سيكملون جولتهم في العربة . ثمة أيضاً الولاة المبجّلون والقضاة وهم في طريقم إلى الجلسات الدورية للمحاكم ، والباعة الجوّالون ، وطوابير النساء والرجال الساعية إلى الحج ، والجنود والبحّارة الذين ذهبوا لأقاصي الأرض المجهولة وعادوا منها بحكاياتٍ عن ” آكلي لحوم البشر الذين يأكل بعضهم بعضاً / وعن الرجال الذين تنمو رؤوسهم لصق أكتافهم … ” .

   كان العالم بالنسبة لأغلبية البشر هو مايرونه لحظياً أمام أعينهم ، ونادراً ماعدّوه موجوداً فيما وراء منظورهم المحدود ذاك ، وإذا ماأراد هؤلاء إبتغاء مصدر للدهشة في حياتهم فسيجدونه في خزين ذاكرتهم من حكايات الغزو ، وبين تلك الحكايات – بالطبع – غزو الطاعون وبداية ظهور أعراضه على الأجساد ، وكم كانت تلك الحكايات مخيفة !! ؛ إذ كان مستحيلاً التنبؤ بمسار الوباء وأفاعيله القاتلة .

   المكان ، مثل كل شيء سواه ، كان يُقاس بمفردات منسوبة إلى الجسد البشري الذي كان يعدُّ مقياس كل شيء ؛ وهنا نجد عبارات مثل : بقدر ماتستطيع عينك رؤيته ، بقدر كفّ يد ، خبرة مؤسسة على التجربة Rule of Thumb ، مائة خطوة ،،، الخ . تحولات الأرض ، ونماذج الطقس المحلية ، ومواسم الحصاد ، والفواكه والثمار الموسمية ، وأوقات إصطياد الطيور وذكور الخنازير البرية ، ومواسم جمع الفِطْر والأغصان الصغيرة المستخدمة في إشعال النيران – هذه هي الفعاليات التي جعلت المكان – كما الزمان – محسوساً لدى البشر خلال معظم التأريخ البشري المعروف لنا .

   ثمة برهات نادرة في التأريخ عندما ضمّت المدينة – الدولة أو الأمة مستعمرات لها ، مثل حال روما بعد سنة 100 قبل الميلاد ، أو حال بريطانيا ، وإسبانيا ، وفرنسا ، وهولندا في الأزمنة الحديثة ؛ إذ في تلك البرهات وحسب بات الرجال والنساء يمتلكون حساً بإرتباطهم بشيء ما هو أبعد من محض تلك الأزقة المعدودة في البلدة أو القرية التي وُلِدوا ونشأوا فيها ، وتحقق هذا الإحساس من خلال إبن لهم يخدم أو يعمل فيما وراء البحار ، أو من خلال جار مهاجر ، أو من خلال رابطة عمل تجاري ، أو من خلال ماشهدته موائد الطعام ( لمعظم العوائل القادرة على الدفع ) من أصناف الطعام القادمة من أماكن يستغرق الوصول لها أسابيع وربما شهوراً أحياناً ، وكان بين تلك الأصناف : الطماطم ، ثمار الأناناس ، التوابل غير المعهودة في شكلها وطعمها .

   كل هذه المشاهد التي مرّت أعلاه تختلف جوهرياً عن العالم كما نراه اليوم ، وربما يكون الجزء الصغير من العالم الذي نتعامل معه ونتحرك في حدوده يومياً ليس بأوسع من العالم الذي عاش فيه أسلافنا ( مالم نكن دائمي التنقل والسفر ) ؛ ولكن وعينا بمكانتنا الحاضرة هو مانال توسعاً عظيماً لم نعهده من قبلُ .

   إن مانقيم فيه اليوم هو الكوكب بأكمله ، وإن مانرى أنفسنا جزءً منه – وإن كان بطريقتنا التي تميل لتصغير المشهد اليومي – لهو أكبر بكثير من تلك المشاهد اليومية المبتسرة ؛ إنه تجريد مفاهيمي يتوهّج دوماً حولنا وتستبطنه مفردات مثل : Die Umwelt كما يدعوه الألمان ، أو LAmbiente بالإيطالية ، وفي الإنكليزية هو مفردة البيئة    Environment– تلك المفردة التي كانت مثل أحجية  ملغّزة حتى قبل خمسين سنة من يومنا هذا ، بل وربما حتى مفردة خالية من المعنى ، ولكنها باتت اليوم بين المفردات الأكثر شيوعاً في الكلام اليومي .

   منذ أن تم تأكيد الحقيقة الراسخة – في القرن السادس عشر – بأن كوكب الأرض ليس مسطحاً ، بتنا نحن البشر نرى الأرض بعيون عقولنا وصارت تعني لنا العالم بكلّ مايضمّه من محيطات وقارات ، وصرنا نحدّق في نماذجها الصغيرة ذات المحور الطولي المائل قليلاً ونطيل النظر في خلجانها ومضائقها المائية ، وكم إستمتعنا بمرآها وهي تدور كالمغزل بفعل أصابعنا في صفوف المدرسة !! ، ثم حصل في بواكير السبعينيّات ( من القرن الماضي ) أن بلغنا نقطة في الفضاء السحيق صوّرت منه كرة الأرض وأعيد التصوير إلينا بحيث صار بمقدورنا في الوقت ذاته ونحن جلوس في مقاعدنا المعتادة على سطح الأرض أن نراقب من تلك النقطة السحيقة في الأعماق : كرة صغيرة ، تبدو وحيدة متروكة لذاتها في مسيرتها الكوكبية ، تماماً مثلما إعتدنا أن نفعل لقرون خلت مع ذلك الجسم السماوي القريب للأرض : القمر بالطبع في كل أطوار ظهوره لنا .

   كان التأثير غريباً صادماً : في تلك المجاهل السحيقة من الفضاء كانت الأرض مسكونة بعبء حركتها الآلية التي تمكّنها من السباحة في الفضاء ، ونحن هنا ماكثون عليها ولكن في الوقت ذاته نراها منفصلة عنّا ، بعيدة وكأنها شيء آخر لاعهد لنا به ، ومنذ تلك اللحظة بات الكون – كما وُجِد في وعينا من قبلُ – يتشكّل بطريقة جديدة ، وطوّرت حيواتنا أبعاداً أخرى مثلما فعل كوكب الأرض تماماً . بتنا نشعر أيضاً بنوع جديد غير معهود من الدهشة أزاء سلسلة الحوادث الباعثة على العجب التي لابد أن تكون قد ساهمت في تخليق سلاسل الجبال العملاقة المنتصبة بشموخ وسط التضاريس المحيطة بها ، وفي إنتاج البيئة الملائمة بالضبط لإدامة التنوّع البيئي الزاخر بالمعادن والحياة النباتية والحيوانية والمخلوقات البرية والمائية التي تخلّقنا منها ( نحنُ ) بفعل تأثير تلك السلسلة من الحوادث – ( نحنُ ) بكل حاجاتنا وقدراتنا ورغباتنا الشغوفة والمُلحّة ، وبكلّ تعقيد جهازنا العصبي ودماغنا ، وبكلّ هَوَسِنا وحركاتنا النزقة وعاداتنا المتأصّلة فينا .

________
*المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *