خاص- ثقافات
* – د. محمّد محمّد خطّابي
تحية الودّ والوفاء إليك أيّها الأديب ، والشاعر ، والباحث ، الصّديق محمد شقور العربيّ قلباً وجَناناً، والإسبانيُّ بياناً ولسانا….
تحيّة الإكبار والإجلال لمن هو قمينٌ وحريّ عن حقّ بهذين النعتين الحميدين. بعد أن غيّبك الحِمَامُ عنّا، وخطفتك يد المنون منّا التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبط عشواء بدون هوادة، تسلبنا أحبّاءنا، وخلاّننا ،وتتركنا حيارىَ في قبضة الزّمن الذي لا يرحم. .
صديقي ، هأنا ذا أتطلّع إليك من وراء الغيب، وأنت في دارالبقاء والنقاء والبُعد عن الشقاء، أبعث لك بكلمات نسجت خيوطها السّنون بأحرف من نور، وأترحّم على روحك الطاهرة، عشنا جنباً إلى جنب على المودة والصفاء على امتداد ما ينيف على أربعين سنة، منذ أن امتدت يدي نحو يديك النديتين لتناولهما أوّلَ حلقة من برنامجٍ ثقافيٍّ إذاعيّ قُدِّم لي في الإذاعة المغربية أوائل السبعينيات من القرن الفارط،. منذ لقائنا في المبنى العتيق المتواضع لدار البريهي الذي كان يحتضن مقرّ الإذاعة والتلفزيون المغربي في الرباط آنذاك.
كنا فئة قليلة، وكان إنتاجنا غزيراً كشلّالٍ منهمر لا ينضبّ ،.بجسمك النحيل،و ابتسامتك المعهودة، وصوتك الخفيض،وتواضعك الجمّ،وكلماتك المنتقاة المميّزة بتلك اللكنة الجميلة للغة أهل مدينة الحمامة البيضاء مسقط رأسي تطوان العامرة،كنتَ تبادلنا الحديث كأنك مخلوق بلّوري صافي الشّيم والسّجايا، حميد الخصال والمزايا ،بلطف شديد وبكلمات هادئة تخرج من فيك بالكاد كانت تلامس آذاننا . كنتَ قليلَ الكلام، كثيرَ الإصغاء تطبق بالحرف الواحد المثل الإسباني الشهير القائل :لقد وهبنا الله فماً واحداً، وأذنين اثنتين لنتحدّثَ أقلّ و نُصغي أكثر!
أنت الذي سكنتْ كلماتك النافذة قلوبنا ، ووجدت لها مكاناً ومستقراً فيها،فاستوطنت وجداننا وكياننا،أنت الذي أعطيتَ للمعنى وقاراً، ومن أوّل نظرة اليك كنّا ندرك أنّك لستَ من بعض ذوي العمائم واللحىَ الذين هجرّهم الشاعرالمُعنّى كامل الشناوي، ذاك الذي أخبرنا أنه عندما نزعَ عِمّته عن رأسه، وأزاح جلبابَه عن بدنه ووضعهما على المصطبة وضع معهما كلَّ همومه وأحزانه، بالنظر إليك كنتَ تجعلنا توّا نتذكر،ونستحضر ميغيل دي سيرفانتيس، ولوبّي دي فيغا، وغونغورا، وكيفيدو، و لوركا، وألكسندري،وخوان رامون خيمينيث، ودامسُو ألونسُو، ورفائيل ألبرتي، وخورخي غيّين،وماريا ثامبرانو،وأنا ماريا ماتّوتي، وخوسّيه ييرّو،وميغيل دي أونامونو، وخوسّيه أورتيغا إي غاسيت، وأنطونيو غالا،وخاثنتو لوبث كورخي، وترينا ميركادير،وخوان غويتيسولو وسواهم،وما أكثرهم من فرسان وفارسات اليراع والإبداع في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس في كل عصر .
كلّ ما كتبته عن هؤلاء، وعن سواهم بلغتهم الأصلية التي أبدعوا فيها وهي اللغة الإسبانية أصبح اليوم بعد رحيلك المباغت عنّا أدباً بليغاً مشحوناً بالرّموز البعيدة الغور، إنك لم تكن تقرأ لهم ولهنّ بعيونك أوبلسانك أو بقلبك أو بعقلك بل بكلّ جوارحك، إنّ صدى كلماتك، وتعابيرها، وأبعادها مازالت تفعل فينا فعلَ السّحر حتى اليوم .
صديقي..أضمّ صوتي إلى أصوات كلّ هؤلاء الزّملاء الأكارم فرسان القلم والخلق والابداع من أصدقائك وخلاّنك الذين فازوا بقصب السّبق في تكريمك. خجول أنت من نفسك ومن أصدقائك وممّن عملوا معك وإلى جانبك، من مُحبيك، ومريديك ، إنك رغم الغياب لمّا تزلْ تطلّ علينا بهامتك من وراء أكوام الأوراق المحيطة بك التي كانت تملأ مكتبك المتواضع في دار البريهي، أو في ثكنات الجرائد والمجلات الناطقة بلغة سيرفانتيس التئ كنت ترأس تحريرها، أو في مكتبك بوكالة المغرب العربي للأنباء بمدريد ، أو في برنامجك في التلفزيون الإسباني الأخير حول الإسلام.
لقد كنتَ حريصاً على حضور مختلف التظاهرات الثقافية التي أقيمت في إسبانيا خلال عملي بسفارتنا بها ، بل والإسهام بكلّ ما أوتيتَ من بلاغة الكلام، وحُسن الديباجة والمرام في اللغة الإسبانية،كما أنك لم تألُ جهداً، ولم تدّخر وسعاً – وهذه شهادة شاهد عيّان منّي- في تقديم المشورة، والمساعدة، والنّصح السّديد بدون تأخّر وبلا تردّد لجميع السّفراء المغاربة الذين تعاقبوا خلال وجودنا بمدريد بدءاً بالسادة ،عبد اللطيف الفيلالي، والمعطي جوريو، وعبد الحفيظ القادري، وعزّ الدين جسوس، وعلى بنبوشتى، وكلّ مَنْ جاء بعدهم .
أتذكّر أيها الصديق أننا ذات مرّة كنا نتعشى أربعتنا أنت، و الأديب السفيرمحمّد العربي المسّاري،والمفكر الفذّ المهدي المنجرة، وكاتب هذه السطور ، في أحد مطاعم مدينة مدريد بأحيائها العتيقة، وعندما ناولنا النادلُ قائمةَ الطعام ،وألقينا نظرةً عَجْلىَ على الوجبات ، والأطباق التي كان يعدّها هذا المطعم، طلب منه المنجرة شريحةَ لحم Solomio يسميّها الإسبان Solo millo تُنطق في الأسبانية “سُولُو مِييّو ” فقال للنادل بلغة سيرفانتيس : (ْسُولُومِييُّو لأننّي أريده أن يكون لي لوحدي) ،فضحكتَ ملأى شدقيك، كنّا ضيوفاً على طعام مزّ، وفكر خلاّق، وأدب رّفيع، وبعض السياسة والكياسة…وجَعَلْنَا ليلنا قصيراً ، أيّ أنّنا قصّرنا في ليلنا، ولكنّنا لم نقصّر قطّ في صداقتنا،وعِشرتنا وأنسنا . وأنستنا هذه الأمسية الحافلة باللحظات السعيدة ،والهنيهات الممتعة، والأحاديث الشجيّة، والأقاويل الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة ،وملأها أو عوّضها دِفْءُ الصداقة مع مَنْ يُسمّيهم ” رينيه ديكارت” ( أنبل النّاس..).
تقول في تقديمك لكتاب “تحليق طائر فوق سماء المغرب” للكاتبة الإسبانية كونشا لوبث ساراسُووّا: ” إنها كالورود الناعمة التي تماطل في أن تفتح أكمامَها للنّور، إلاّ أنّها عندما تفعل ذلك فإنّها تملأ الدّنيا جمالاً، ورونقاً، وروعةً،وبهاءً،وتشيع بيننا ألواناً ربيعية زاهرة زاهية” أجل الأديبة الإسبانية ساراسوا في هذا الكتاب تغمس اليراع في حبر لغة سيرفانتيس بمهارة فائقة لتوظيفها في التفنّن في نسج أو حبك مختلف ضروب الخلْق ،والإبداع، إنها تجعل أمام أعيننا شلاّلات منهمرة من الصّورالفاتنة ، والأخيلة الطليقة، والمناظر الخلاّبة في بلدٍ جار تربطه علائق تاريخية،وحضارية، وثقافية، وأدبية، ولغوية وطيدة ببلدها إسبانيا، إلاّ أنّه بلد غير معروف بما فيه الكفاية لدى معظم الإسبان على الرّغم من أنّ الوجود (العربي، والأمازيغي) في الحياة الإسبانية، وبشكل خاص في الأدب الاسباني يرجع لأحقاب بعيدة خلت.
وإنْ نسيتُ فلن أنسى دورَك المحمود في المجال الثقافي لتوثيق وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والمغربي، حيث إضطلع المثقفون الإسبان والمغاربة بالفعل في العقود الأخيرة بدور طلائعي في تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما، وإليك يرجع الفضل في تأسيس عام 1978 “مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة” التي ضمّت صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان الذين نشروا في الصحافة الإسبانية بياناً في هذا القبيل منهم 40 مثقفاً من المغرب ، و46 مثقفاً من إسبانيا الذين طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات ، وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات، وطاولات مستديرة هامّة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، منها” معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون” بين الطرفين التي ألحّت بدورها على ضرورة تفعيل وتحريك الجانب الثقافي بينهم. من الموقّعين المغاربة : أنت، والمهدي بنونة ،محمّد شبعة،لسان الدين داود،عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى،مصطفى اليزناسني،محمّد العربي الخطّابي،وعبد الكبير الخطيبي،عبد الله العروي، محمّد اليازغي ، ومحمّد المليحي،ومحمّد العربي المساري،سيمون ليفي، ومحمّدالصبّاغ،وكاتب هذه السّطور..إلخ. ومن الإسبان:الراحل خوان غويتيسولو ،وفرناندو أرّابل، وبيدرو مونطافيث،وخورخي سينبرون،وفاثكيث مونطالبان، وفيكتور موراليس،وآخرون . وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفس جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين ، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما في مختلف المجالات السياسية، واالإقتصادية، والثقافية، والإجتماعية، والإنسانية..إلخ .
إنّها لفاجعة كبرى بالنسبة لنا جميعاً، فالفقيد كان صديق الجميع، ،محبّاً ،متواضعاً ، يميل للبسط، والدّعابة، والمزاح..وكانت لنا إسهامات مشتركة في حقل الترجمة والأدب الإسباني والعربي في العالم الناطق باللغة الإسبانية،ومشاركاتنا الحثيثة في مختلف التظاهرات التي تُنظّم في هذا القبيل في مختلف ربوع التراب الإسباني،إنّ محمد شقور لم يُعطَ الأهمية ولا العناية اللتين هو قمين،وجدير بهما في حياته، وهُمِّش تهميشاً فظيعاً ، أتذكّر أنه كاد أن يُعيَّن سفيراً للمغرب في المكسيك أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، وأسرّ لي إبّانئذٍ بذلك ، بل أخبرني أنني سأذهب معه كشخصٍ ثانٍ في السفارة، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يتحققّ،فعُيِّن بدله صديق عزيز آخر، وهو السّيد عبد اللطيف العلْوي ، فشاءت الأقدار أن طلبني أيضاً هو الآخر للذهاب معه إلى المكسيك كشخص ثانٍ بالسفارة ، عندئذٍ وبعد وصولي إلى المكسيك، وبكلّ بساطة العالِم الأصيل، وتواضع المفكّر الفذّ تلقيتُ مكالمة هاتفيّة من المرحوم محمد شقور وهنّأني بكلّ حماس على هذا التعيين ،وقال لي بلهجته التطوانية الجميلة المميّزة الخاصّة به :” أخاي السّي محمّد لَعْزيز،معليهش، لقد حققنا خمسين في المائة من الرّغبة التي كنّا نسعى إليها في مدريد للذّهاب معاً إلى المكسيك، وها قد عُيّنت أنت على الأقلّ..” وغمرني حينئذٍ شعور غريب ممزوج بالأسىَ، والحسرة ،والألم ، فشكرته من سويداء قلبي على تهنئته الرقيقة، ومكالمته اللطيفة، وبعد أن أحيل على التقاعد آثر العيش في إسبانيا دون أن تفارق البسمة محيّاه الطيّب البشوش إلى أن وافاه الأجل المحتوم يوم الرابع من يوليو(تموز) الجاري2017.
أخي محمد شقور.. تحيّة حرّى صادقة من حاضرة أبي القاسم المجريطي مدريد العامرة التي شرّفتها بوجودك فيها هذه السنوات الطوال التي عشتّ بها فيها، هذه المدينة التي طالما هِمتَ بها وعشقتها ،والتي كنتَ كثير السّؤال خلال جلساتنا المطوّلة في مقاهي مدريد الجميلة عن تاريخها ، وعلمائها، وشعرائها، وأعيانها أيّام الوجود العربي- الأمازيغي بها، ذكراك العطرة ستظلّ نابضة متّقدة في قلوبنا كالشّعاع الوهّاج، إنك ما زلتَ حيّاً فينا وبيننا ، بكلماتك وأدبك، وإبداعك ،وخلقك، وطيبتك، ونبلك، وأريحيتك.
تابع الفقيد دراسته في مرحلة التعليم الثانوي بتطوان، ثم حصل على الليسانس في جامعة مدريد في مجال تخصّصه،وقد زاول الصحافة في الرباط، ، وأشرف على عدة جرائد ومجلات ، مثل “المغرب ” و”صحراؤُنا و”قضايا عربية “، و”إِيبِرْ-أطلس و”الإسلام والغرب” و” مارويكوس” .كما عمل في حقبة من حياته بالإذاعة والتلفزة المغربية،
نشر العديد من الأعمال الدراسيّة والإبداعيّة منها : “أنطولوجيا القصص المغربية باللغة الإسبانية”، بالتعاون مع الراحل خاثِينْتو لُوبّيثْ غُورْكي، سنة ، و”ملتقيات أدبية: المغرب-إسبانيا-إيبيرُوأمريكا” و”الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية “، بالتعاون مع الباحث والناقد التشيلي سيرْخْيو ماثيَّاسْ،و”المفتاح ونبضات الجنوب”..إلخ .
وعلى إثر رحيله نعاه وأبّنه العديد من أصدقائه أو من زملائه الذين عملوا إلى جانبه منهم الإعلاميّان البارزان الصّديقان حسن أشهبار، ومحمد بوندي، فضلاً عن بعض الأدباء والشعراء المغاربة والإسبان مثل محمد مغارة، ودومينغو ديلْ بينو،والاستاذة بالجامعة المستقلة بمدريد الناقدة والشاعرة ليونور ميرينو، والعديد من أصدقائه وأحبّائه المشتغلين بالدراسات الإسبانية داخل المغرب وخارجه،ونعاه الشاعر والناقد الإسباني” خوسّيه ساريّا ” الذي كتب يقول عنه: “قد لا يعني اسمُ محمد شقور شيئاً بالنسبة للكثيرين. فهوبالإضافة إلى كونه مثقّفاً من الطراز الرّفيع، وكاتباً فذّاً باللغة الإسبانية ، ومفكِّراً ذا نزعة إنسانية شمولية، كان كذلك من كبارالمهتمّين في حقل الدراسات الإسبانية- العربية ومن أبرز الذائدين والمدافعين عن لغة سيرفانتيس “.
ويؤكّد الناقد الإسباني ما أشرنا إليه آنفاً أنه همِّش تهميشاً فظيعاً من طرف القائمين على الشأن الثقافي الإسباني طوال إقامته بإسبانيا فيقول : ” لم يحْظَ محمد شقور بأيّ إحتفاء يناسب مستواه الثقافي، كما لم تُنظّم له أيّ تظاهرة تكريمية من طرف الحكومة “. وقد عاب الناقد ساريّا على السلطات الإسبانية هذا الصّنيع المُشين حيال رجلٍ قدّمَ الكثير للغة الإسبانية ولثقافتها كما عاب كذلك على الحكومات الإسبانية التي تعاقبت على تسيير دفّة الأمور في إسبانيا في العقود الأخيرة كونها ظلّت تنظر بلا إكتراث للزَّحفَ المتواصل للغتين الفرنسية والإنجليزية في منطقة كانت بإستمرار موطنا، ومرتعاً، وملاذاً للموريسكييّن، والسّفارديين، والأندلسيين، والإسبان”. وختم الناقد والشاعر الإسباني خوسّيه ساريّا كلمته قائلاً : ” لقد رحل شقور، إلاّ أنّ تراثه سيبقى لنا ، كما ستبقى لنا مقاومتُه العنيدة ، وإخلاصُه للّغة الإسبانية”.
* كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – كولومبيا.