البصر.. الطريق السريع إلى العقل

*محمد الأسعد

قبل ما يقارب قرناً تنبّأ المعماري والمصمم والكاتب الألماني «أوجست إندل»، (1871-1925) بولادة فن بصري جديد، عماده أشبه بما نسمّيه في هذه الأيام تراسل الحواس؛ أي عمل الفنان أو الكاتب المبدع على استغلال ماهو بصري وسمعي وحسي في تشكيل عمله، أو كما جاء في مراجعة الأمريكي «ترومان كابوتي» (1924-1984) في أيامه الأخيرة، حين صحا فجأة على اكتشاف أنه مع كل ما حققه من نجاح أدبي، لم يكن يستخدم كامل طاقاته الفكرية والوجدانية في أعماله؛ أي لم يكن بتعبيره يستخدم مجموع ألوان لوحة مزج الألوان التي يستخدمها الفنان. ويعني بذلك أنه لم يكن يوظّف ما يعرفه عن فن الموسيقى والمسرح والسينما.. في صياغة الشكل الذي يعتمده؛ أي الرواية. ويمكن أن نضيف إلى هذا تأكيد الإنجليزي ت.س. إليوت، معنى تجربة الشاعر، التي يقوم على اعتبارها بجمع إدراكات شتى، سمعية وبصرية، وقراءات، تتمازج وتشكّل كلية واحدة.

تكتسب نبوءة «إندال» أهميتها من كونها كانت بالفعل نبوءة مستقبلية فذّة، بدليل أننا نعيش الآن في القرن الحادي والعشرين، بعد أن عشنا في الشطر الأعظم من القرن الماضي العوالم الفنيّة الجديدة المتفردة في العمارة، والفن التشكيلي، وفن التزيين (الديكور)، كما كان الأمر مع الفنون الأدبية من شعر ومسرح ورواية، وكذا الفن الموسيقى.
ومن ينظر إلى الوراء قليلاً يدرك أن المسافة شاسعة بين أساليب الماضي التي استنفدت كل ممكناتها، وبين ما جاء من مرحلة أسلوبية جديدة، لم تكن مجرد مرحلة كما قال «إندل»؛ «بل عتبة تطور فن جديد جدة تامة.. فن قد يبدو فن أشكال لا تمثّل شيئاً، ولا تدل على شيء، ولا تذكرنا بشيء، إلا أنه فن يثير في أرواحنا بعمق ما تثيرها الموسيقى». وعلينا أن نتعلم كيف نرى.

كانت هذه نصيحة كل هذه الأسماء التي أشرنا إليها، أو هي حجر الزاوية في فهم وتثمين منجزات بدأت بنظرة جديدة إلى الفن البصري، جعلت منه نظيراً للموسيقى وتفرعت عنه بقية المدارس الفنية وأكثرها بروزاً؛ مدرسة الفن التجريدي والتعبيري، وامتدت إلى الفنون الأخرى من شعر ورواية وسينما ومسرح، فعمارة وتخطيط المدن. ولم تبق زاوية من زوايا الإبداع الإنساني لم يلحقها تغيير زاوية النظر، أو كيفية النظر وتثمين الإحساس بالشكل.
علينا أن نكتشف كيف نستخدم عيوننا؛ لهذا كانت البداية من الفن التشكيلي قبل أن تظهر دعوات اكتشاف كيف نستخدم المفاهيم والأفكار. قد يكون استمتاع الإنسان بالشكل عفوياً دون وعي، استمر زمناً طويلاً، ويمكن دراسة تطوّره الآن في تاريخ الفنون الجميلة، ولكن لم يتجذّر بعد. فحتى الآن ما زال الحديث عن الأشكال يثير اللامبالاة أحياناً، أو يواجَه بعدم الفهم إن لم يكن الاستنكار، على الرغم من كل ما طرأ على البيئة من متغيرات أبرزها تغير الأشكال في كل نواحي الحياة.

* * *

صحيح أن اللون كان هدفاً كما علّمنا الرسامون، ولكن العناية بالشكل لم تكن بلا غاية كامنة وراءه، في البحث عن خواص مفاهيمية وليست جمالية فقط. ما الذي يعنيه هذا؟
إذا أردنا فهم وتقدير جماليات الشكل، علينا أن نتعلم قبل كل شيء كيف ننظر في التفاصيل. علينا ألاَّ نلقي نظرة عابرة لامبالية حين ننظر إلى شكل جذر شجرة، أو إلى الوسيلة التي تتصل بها ورقة الشجرة بالغصن، أو حين ننظر إلى التيارات المائية على الشواطئ. كل منحنى وكل منعطف، كل كثافة أو انكماش، كما يقول «إندل»، يجب أن نتابعه بدقة، ونتعرف إلى كل فارق دقيق في الأشكال التي نتطلع إليها.
فإذا نظرنا بهذه الطريقة سيتكشف لنا عالم جديد هائل الغنى، يحمل تجربة جديدة جدة تامة. في داخلنا يستيقظ ألف إحساس وشعور جديد، وظلال جديدة من المعاني، وتحولات مستمرة غير متوقعة. ستبدو الطبيعة حيّة، وستلاحظ العين بعيداً عما هو ممل وبلا معنى جلالاً سامياً يخترق الروح، هذا ما يسمى نفوذ الشكل إلى الفكر والإحساس، النفوذ المباشر بلا توسط من كلمة.
ولنأخذ أمثلة، حين نتحدث عن شجرة متألمة فهذا لا يعني أننا نفكر بالشجرة بوصفها وجوداً حياً يتألم، بل يعني أنها توقظ فينا شعوراً داخلياً بالأسى. وحين نقول إن شجرة الصنوبر توحي بالعلو، فهذا لا يعني أننا نبث فيها حياة، بل هو تعبير فقط عن إلهام في ذهن من يستمع لصورة العلوّ، اللفظ يقدم مساعدة لإنتاج مفهوم حي.
ورداً على من يتساءل عن تفسير المشاعر التي يثيرها الشكل فينا، يجيب «إندل»: «لا حاجة للتفسير هنا. فالإنسان يمكن أن يستمتع بالموسيقى دون أن يكون على معرفة بالأسباب التي تجعل الأنغام تحرّك مشاعرنا». ولكن تمهيداً لطريق المشككين، يحلّل ويصف التأثير الانفعالي لعناصر الشكل والأجزاء التي تتكون منها، ووضع خطوط عامة لتفسير نفسي. وهو ما سيشكّل قاعدة أساسية لفن القرن العشرين، وما سيلحق به.

* * *
تحليله للخط المستقيم نموذجي هنا، ويمكن أن يلخص جوهر رؤيته. فهو كما يرى خط متفوق على أنواع الخطوط الأخرى؛ ليس من ناحية رياضية فحسب؛ بل من ناحية جمالية. حين نتابع خطاً مستقيماً، وليكن عمودياً، نجده يحافظ على الاتجاه نفسه في مجال رؤيتنا. على الضدّ من ذلك، الخط المنحني، أو القوس، فهو يغيّر شكله باستمرار، ويوجد فيه جديد دائماً علينا أن نلاحقه، بينما يظل المستقيم هو ذاته.
ومع نظرنا إلى المستقيم يتسارع إدراكنا، كلما امتد إلى مسافة أبعد. ويمنحنا هذا شعوراً بالسرعة، ويظهر الخط المستقيم أبطأ أو أسرع بناء على ما إذا كان عريضاً أو رفيعاً، ولاتجاه الخط طبيعة مختلفة، فللمستقيم المنحدر تأثير خفيف، بينما يمتلك الأفقي قوة هادئة، ويمنح العمودي الصاعد شعوراً بالمجهود القوي.
يقول إندل: «ربما تستند هذه الجاذبية العاطفية إلى حقيقة أن توجيه العين إلى الأعلى يتطلب جهداً إضافياً، أكثر مما يتطلبه النظر إلى الأسفل، والسبب ليس واضحاً تماماً. نقطة العين المركزية تقع في مقدمة النقطة المحورية، وربما مركز الجاذبية. هذا يعني أن رفع كرة العين يتطلب جهداً لا يتطلبه تخفيضها».
ويخلص إلى أن «الاتجاه المستقيم إلى الأمام، هو اتجاه النزاهة والدفء والسلام والعمق والسمو. ولهذه السمات درجة سرعة بطيئة بشكل عام، بينما يبث فينا السريع والمفاجئ الفظاظة والعجرفة والتفاهة والوحشية»، إلا أن هناك تدرجاً في التوتر والجهد والقوة والكثافة، وفي كلا الحالين يحضر عنصر الخفة واللاَّجهد في البساطة والتفاهة على حد سواء، بينما يستثير فينا القاسي والطموح جهوداً قصوى. وعند هذه الحدود القصوى تسارع معيّن لكل عاطفة، ولها درجة من درجات القوة تتسق معها.
ولأن كل أحاسيسنا تتكون من تسارع وتوتر، فإن الشكل يمكنه أن يوقظ كل ظلال العاطفة فينا. ولا يولّد الشكل نوعين من الإحساس لا غير؛ بل يمكن أن يولّد إحساسات منوّعة قدر الإمكان.
________

*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *