تجليات الاغتراب والبناء الشعري.. قراءة في ديوان ” إيقاعات الغرفة” لفؤاد سليمان مغنم

خاص- ثقافات

*د.محمد عبدالحليم غنيم

     يعد الأستاذ فؤاد سليمان مغنم من الأصوات الشعرية الجادة في ديوان الشعر العربي المخلصة لرواد حركة الشعر الحديث ، وهي بهذا الإخلاص تحاول أن توجد لنفسها صوتا متميزا وسط ركام ضوضاء وقعقعة فارغة ، نشر فؤاد سليمان مغنم ثلاثة دواوين ، هي على الترتيب : فصول من كتاب الليل ، فبراير 1989 ـ حالات من العشق ، عام 1994 ـ أشجار الخوف ، عام 1999 . ثم يأتي هذا الديوان الذي بين يدي ” إيقاعات الغرفة ” هذا العام 2006 ، عن سلسلة خيول أدبية حيث يدخلنا الشاعر في عمق تجربة شعرية جديدة ، مؤكد هي امتداد لدواوينه السابقة وهي تجربة الاغتراب وانقسام الذات وهي تيمة تتجلى عبر معظم قصائد الديوان ومفردات القصيدة ومكوناتها لغة وصور وغير ذلك ، ولأن الشاعر الجيد هو في الأساس صانع صور ، ولأن الصورة أبرز مكونات النص الشعري التي تميز شاعر عن آخر.

     ومن القراءة الأولى للديوان لاحظت أن تجليات الاغتراب عند مغنم تبدو أكثر وضوحا في صوره ، لذا رأيت أن يكون موضوع دراستي هو تجليات الاغتراب والبناء الشعري في ديوان ” إيقاعات الغرفة ” وسنحاول أن نقف عند أبرز صوره الشعرية  التي يتجلى فيها الاغتراب   “فقوة الشعر تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور ، لا في التصريح بالأفكار مجردة ولا المبالغة في وصفها ، ومدار الإيحاء على التعبير عن التجربة ووقائعها ، لا على تسمية ما يولده في النفس من عواطف ، بل إن هذه التسمية تضعف من قيمة الشعر الفنية ، لأنها تجعل المشاعر والأحاسيس أقرب إلى التعميم والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص ، فالشعر يعتمد على شعور الشاعر بنفسه وبما حوله شعورا يتجاوب هو معه ، فيندفع إلى الكشف فنيا عن خبايا النفس أو تكون استجابة لهذا الشعور في لغة هي صور إيحائية لا صور مباشرة ”  (1 ) .

     ولا نريد أن نكرر ما قيل عن وظيفة الصورة وأهميتها في البناء الشعري ولكن لا جدال أن معظم شعراء الحداثة ـ ومنهم شاعرنا ـ متفقون على أن الشكل الشعري ليس الوزن والقافية فقط ، وهم واعون من خلال محاولاتهم الإبداعية أن الشعر الحديث ” يقوم على حركة داخلية تجعل من الشكل والمحتوى وحدة ، إن تلك الحركة تتولد من الصورة ، من تداخل الصور بالإضافة إلى حركة الإيقاع ، فارتفعت الصورة عندهم من كونها عنصرا إضافيا تزينيا إلى عنصر بنائي يوازي العنصر الإيقاعي ويشارك في عملية السحر الشعري ” (2) .

     تقول كارولين سبرجون في معرض حديثها عن الصور لدى شكسبير في كتابها

 The Aim and Mothod explained in Shakespeare,s Imagery and what it tell us

أعتقد أن الاكتشاف الحقيقي لشخصية كاتب ما وطبعه وصفاته العقلية تبرز من خلال عمله سواء أكان كاتبا مسرحيا أو روائيا أو كان ينقل أفكار شخص آخر أو يدون أفكاره الشخصية مباشرة “(3) .

ثم تضيف ” أما الشاعر فإنه يفضح نفسه خاصة من خلال صوره بطريقة لا شعورية ” (4) .

    ولا خلاف أو جدال في ذلك ، بيد أن الشاعر يفضح نفسه بطريقة لاشعورية أيضا عبر العتبات التي تسبق النص ، بقطع النظر عن مكوناته وابرز هذه المكونات أي الصورة .

    وقد رأيت في ديوان ” إيقاعات الغرفة ” ثلاث عتبات لا يمكن تجاهلها ، تستدعي الوقوف عندها قبل الولوج إلى الصورة وهذه العتبات على الترتيب : العنوان ـ الإهداء ـ مفتتح .

1 ـ ” إيقاعات الغرفة ” عنوان يستدعي على الفور موسيقى الغرفة أو الحجرة في علم الموسيقى ، ولما كانت موسيقى الحجرة أو الصالون كما تسمى أيضا تكتب للعزف في صالونات الأمراء ، فهي توحي بالخصوصية والتميز ، وإذا عدنا للعنوان وجدنا التركيب الإضافي ” إيقاعات الغرفة ” حيث إضافة المفرد إلى الجمع يشي في الظاهر بتنوع الإيقاعات أو تعددها ، والحقيقة أن هذه الإيقاعات في تعددها وتنوعها معا تلتبس بالغرفة بما تشي هذه اللفظة من وحدة وسكون واغتراب أيضا ، وكلها دلالات تتجلى في عناوين القصائد ومضامينها داخل الديوان ، مثل : حصار ومطاردات ، وسيرة ذاتية لعابر سبيل وكهولة وغيرها ، واللافت للنظر في هذا العنوان ” إيقاعات الغرفة ” أنه ليس عنوان إحدى قصائد الديوان ، وكأن المؤلف أراد أن يجعل هذا العنوان عنوانا شاملا يصلح أن يوضع لكل قصيدة من قصائد الديوان ، فهو يمثل بذرة جنينية قادرة على النمو والإثمار عير سياقات شعرية متعددة في بنية الديوان .

2ـ الإهداء :

   في الإهداء نقرأ العبارة التالية :

     “إلى الذين يموتون

                  لكي يكونوا أكثر حياة منا “

    إن توجيه الخطاب أو قل تقديم هذه الإيقاعات إلى الذين يموتون دون الأحياء يشي بالغربة أيضا ، فالشاعر لا يوجه خطابه إلى الأحياء ولكن إلى غائبين عن الحياة ، ولنلاحظ الفعل المضارع في جملة ” يموتون ” حيث يموتون بإرادتهم ، فهم غرباء ومغتربين مثل الشاعر ، فالشاعر رافض للتواصل مع الأحياء الأموات مؤثرا التواصل مع الأموات الأحياء فهم ” أكثر حياة منا ” على حد قول الشاعر .

3 ـ نصل إلى المفتتح فنجد الشاعر يضع له عنوانا آخر بين قوسين هو : أو هكذا قالوا ، و “أو” هذه تفيد عدم اليقين فقد يكون هذا مفتتح أو قد يكون غير ذلك ، ولكن عند تأمل مفرداته سنلحظ بعد تدقيق أنه مكمل للعتبتين السابقتين في التوكيد على الرؤية الشعرية للديوان من ناحية ، ومجاز فسيح يدخلنا بسهولة إلى غرف الشاعر الموقعة على آلام الاغتراب ؛ فثمة أنا مغتربة تصارع واقعا قاسيا من البدء حتى المنتهى يقول فؤاد مغنم :

     “مصيبتي

    أني انتظرت آخر الصف

    وأنني احتميت بالشعر مجردا

    وليس لي هراوة تهش أو وجها طقوسيا

    وأنني تحاشيت الجراد والحرباء

                                 والأفعى

    تحاشيت الصراخ وابتسامة القرد

    تحاشيت الولوج من بوابة الفئران

    مصيبتي ـ يا سيدي ـ أنيً

          ارتميت في شوارع

                      الإنسان ”      ص 7 .

     فالأنا المغتربة هنا ليست ضد الإنسانية ، بل إن أحد أهم أسباب اغترابها هو الاحتماء بالإنسانية ” ارتميت في شوارع الإنسان ” ولكن تبقى عوامل الاغتراب في هذا المفتتح مباشرة وظاهرة وهي : الانتظار في آخر الصف والاحتماء بالشعر والابتعاد عن السلطة والصراحة والوضوح والصدق والإباء ، ثم تكون الخلاصة أو حاصل المجموع هو الإنسانية .

     إن هذا المفتتح ـ وإن بدا مباشرا ـ يلخص في رأيي رؤية الشاعر فهو بمثابة الرحم الذي يخرج منه أجنة الديوان ، أقصد قصائد الديوان ، حيث تلعب الصورة الشعرية دورا بارزا في استجلاء هذه الرؤية .

      على أننا في تصورنا للصورة لا نتوقف عند الأشكال البلاغية المعروفة التي تنتظم في عقد الصور الفنية مثل التشبيه والكتابة والمجاز والمرسل والاستعارة ، بل تتجاوز إلى الوصف المباشر للأشياء ، وهي أي الصورة على أية شكل صارت لا يمكن أن تستغني بحال عن عناصر أخرى تساندها وتعينها على إبراز وظيفتها كالموسيقى والإيقاع وطاقة اللغة وإمكاناتها ، يقول الدكتور عبد القادر القط في تحديد الصورة : ” الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة ، مستخدما طاقات اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني “(5) .

      والصورة بهذا المفهوم تصبح هي القصيدة كاملة من ألفها إلى يائها ، وهذا نلاحظه في معظم قصائد الديوان ، فالقصيدة عند مغنم تشكل في مجموعها صورة كلية ، بيد أن هذه القصائد تتنوع بين الطول والقصر وإن كان يغلب على الديوان القصائد القصيرة ، ويكفى أن نتوقف عند نموذجين أحدهما للقصائد القصيرة والثاني للقصائد الطويلة .

     أولا : الاغتراب وصورة الحصار  (النص كاملا) ص 9 ، 10

     قصيدة ” حصار ” أولى قصائد الديوان وضعها فؤاد سليمان مغنم في صدر الديوان ، وكأنه يقول لنا أن أول عوامل الاغتراب هو الحصار ، يبدأ النص بصورة تبدو فيها الأنا منقسمة بين طرفين متباعدين أو قل متناقضين هما الأرض ( الحصى) والسماء ( الغيمة اللعوب) ولكن أية أرض وأية سماء ؟ إنها أرض قاسية جارحة كما يوحي لفظي الحصى ،  وسماء مراوغة لا تؤتمن كما يوحي لفظي غيمة ولعوب .

     وهذا التوزع أو الانقسام بين ألمَين حسي “الحصى” ومعنوي ” الغيمة اللعوب ” تترتب عليه غربة عميقة :

       ” موزع

       بين الحصى والغيمة اللعوب

       وطاعن في غربتي”     ص9 .

     ” فطاعن ” هنا اسم فاعل ، ولكن بمعنى المفعولية لا الفاعلية فهو مطعون بالغربة أكثر ما هو طاعن لها ، يؤكد هذا استغراق الأنا بحرف “في” في قوله “في غربتي” وإضافة ياء المتكلم إلى كلمة غربة ، تعميق للاغتراب .

     ولكن الطعن في الغربة ليس نهاية الحصار ، إذ تتوالى الصور الدالة على الغربة والحصار ، فتاتي جملة :

      ” ومترف حد احتباس الكون في حقيبتي “

      احتباس الكون في حقيبة الأنا المغتربة يوحي بالسيطرة والانفلات من الغربة في الظاهر ، لكن عند الرجوع إلى لفظ “مترف” اسم المفعول نجده مفارقة ساخرة ، تتقصد المعنى المضاد وهو الحصار ، فالأنا هنا بمثابة السجين والسجان ، كلاهما مسجون ومحاصر خلف الجدران .

      وإلى هنا ينتهي المقطع الأول من النص لينتقل الشاعر إلى المقطع الثاني محاولا كسر هذه الجدران عبر السيدة / الوطن التي تحاول أن تمد له حصارها وتصطفيه جملة :

     ” تمد لي سيدة حصارها وتصطفيني جملة

       لعلني أذوب في النساء

       وأختفي ملتبسا بفرحتي

       مقنعا كدمية بحكمة السكون ”    ص9 .

     ولكن السيدة لا تخرجه من غربته ، فهي إذ تمد حصارها المراوغ حوله تتملكه كلية ، ولا تعطيه شيئا لذاته فيتلاشى ويتحول إلى قناع ودمية ساكنة .

     ولا تتوقف الأنا عن المحاولة ، فتلجأ إلى التفاعل مع الحياة والجسارة على الموجودات :

      “تعوزني مصيبة

      استبق النور واكتفي بظله

      تعوزني ـ لعلني أحتمل السلام ـ جرأة “

    لكن لا المصيبة ولا الجرأة تخرجانه من هذه الغربة ، ومن ثم تكون العودة إلى السيدة مرة أخرى ، بيد انه لا يستطيع لأنه محاصر بين الضحى والليل ، بين ذاته والواقع المحيط به وهو واقع كئيب ، ويعمق هذه الغربة ويحولها إلى طرق مسدودة ، هذه الصور المتتابعة : شارع تكومت ثقوبه ـ مسارب القلب استشاطت ـ النساء حامضة :

    ” لكنني محاصر بين الضحى والليل

             بين سدرتي

     وشارع تكومت ثقوبه في أضلعي

     وهذه مسارب القلب استشاطت حلكة

     فليست السماء عندها السماء

                    والخطى خطى

     وليست النساء إلا ليلة

     وبعدها كل النساء حامضة ”     ص 10

     وتصل الأنا المغتربة إلى مشارف الموت فتحتاج السماء ، ولكنها إذ تنجو من الموت تحاصر بالليل ، يقول الشاعر :

      ينتابني الموت فأحتاج السماء ثم يختفي

      فأكتفي بهذه الأزقة التي تلبست دوائري

     وأكتفي من ليلتي بوجهها الليلي ” ص10 .

     ونصل إلى ختام القصيدة ، فتعيدنا السطور الثلاثة الأخيرة إلى البداية القائمة على التوزع والعوز ، بما يؤكد البنية الدائرية للصورة الشعرية والقصيدة معا ، فثمة توحد بين الصورة والقصيدة :

    “تعوزني مطية البلاغة

    فهل تململ السكون تحت قبضتي

         و انهدم الجدار ”        ص10 .

    فالأنا ـ هنا ـ تعوزها البلاغة كمخرج أخير ، ولكنها وهي متلبسة بحال الحصار تتشكك في الخروج من الحصار عبر مطية البلاغة على أن صورة الحصار بوصفه أحد ثوابت الاغتراب تتكرر في قصائد أخرى .

ـ الاغتراب وصورة الليل

     في قصيدة ” سيرة ذاتية لعابر سبيل ” قد همنا صورة الليل وقد تلبس الشاعر / الأنا وجرى في عروقه مجرى الدم :

      ” كاد ينزف من فمه الليل

       كفاه لا تهجعان إذا خاض حرب الكلام

       ويفزعه الجرس المدرسيً

       قلبه مستفز وعيناه

       يبتاع أغنية كي يجود بها

       ثم يضغط أوقاته كي تسيل الندوب

       أثمة في الليل إلا ارتجاف المسام ”    ص 17 .

والليل إذا ينزف من الفم قانيا لا يكون ثمة بعد إلا ارتجاف المسام .

    وتتكرر صورة الليل في قصائد ” بورتريه النشوة والنارجيلة و وتريات ليلية وتململ والغربان والفوانيس ” فيفوح الليل “وفاح ليلها” ويصير قدحا ” أم أنت بلا وتر تسقط في قدح الليل ” وغير ذلك ، لكن تبقى صورة الليل في قصائد النارجيلة أبرز الصور الدالة على اغتراب الذات ، يقول الشاعر :

       سوف يمارسك الليل عضوا فعضوا

       وتجثو محاطا بحلفاء نفسك

       تمخر أغنية حدً أسوارها

       تتحشرج فيك النجيمات

                  حد انسكاب المباهج

       تشتم نافذة

       أو ينسرب الخوف شيئا فشيئا بعشب المقاعد

       تندس دون ارتباك بمعطف أغنية

       والدخان الذي أنت تحمله في الحقيبة

                              محتدم بالضجيج

       هل تفشًت برأسك ريح

       ترنح ليل بكامله .. فاستربت

                    وأزمعت ثرثرة ”        ص 39 .

    إن الليل هنا يمارس سطوته على الذات ، يحاصرها فتجثو محتمية بنفسها تردد أغنية وتتعلق بالنجوم ، وعندما يشتد حصار الليل يتحول الغناء إلى ثرثرة ، كل هذا يعيدنا إلى بداية النص من ناحية وأولى قصائد الديوان ” حصار” التي سبق أن أشرنا إليها من ناحية أخرى ، حيث تهيمن صورة الحصار .. يقول الشاعر في مطلع ” النارجيلة “:

       أو تعني النارجيلة أن حصارا

       سوف يحط على رجليك /

                 دوائر سوف تحط برمتها ”      ص 37 .

     وسيكون من الإطالة الوقوف عند جميع صور الديوان التي تشكل في مجموعها رؤية الشاعر ، ولكن هناك صورة لا يمكن تجاهلها ، وهي صورة الغرفة ، لعله يحسن بنا أن نختم بها هذه القراءة للديوان .

     سبق أن أشرنا في البدء إلى العنوان ” إيقاعات الغرفة ” ولذلك آن أن نفتش عن هذه الصورة داخل متن الديوان ، ولقد أحصيت مفردة الغرفة داخل الديوان فوجدت أنها وردت إحدى عشر مرة ؛

1 ـ ” لوجهك الذي تمددت شروخه في غرفتي ”      ص 10 .

2 ـ ” عصافير تودع غرفتي

3 ـ بغرفتي غيم الأنوثة

4 ـ يندلع النهار بغرفتي عبثا ”     ص 21 .

5 ـ ” وتقبع في غرفتي ”     ص 34 .

6 ـ ” هل تمارسني غرفتي ”     ص34 .

7 ـ وعواصم تفلت من صدأ الغرفة ” ص 42 .

7 ـ ” سأكلم الأشياء قاطبة وأصطحب الخلاء بغرفتي ” ص 87 .

9 ـ وكانت النجوم ترتعي في غرفتي ” ص 108

10 ـ تسلحت بالنوم وارتبت في غرف البيت ”    ص 117

11 ـ كأن المذياع يصب فتوحات للحشرات

                          بأرجاء الغرفة ”    ص 128

       جاء لفظ الغرفة مضافا إلى ياء المتكلم ثماني مرات ، ومضاف إلى اسم ظاهر مرة واحدة ” غرف البيت ” وهو المرة الوحيدة التي جاء فيها جمعا أيضا ، ثم جاء مسبوقا بمضاف مرتين : أصداء الغرفة ـ بأرجاء الغرفة ، وإضافة الغرفة إلى ياء المتكلم يؤكد خصوصية هذا المكان ، فالغرفة عالم الشاعر / الذات ، إنها المكان الذي يحاصر الذات ويلتبس به ، بل قد تكون هي الذات نفسها ، ولعل خير مثال نتوقف عنده لبيان هذه الصورة ، قصيدة ” كهولة: حيث يتكرر لفظ الغرفة ثلاث مرات ، يقول فؤاد مغنم :

      “عصافير تودع غرفتي

       أم تلك بعض أهلة تحت الجفون تململت

       أم هذه ريح تدغدغ وردة في الروح أتبعها

       فينقشع الجحيم

       بغرفتي غيم الأنوثة

       واحتدام ساخط

       هل جاءت الأنثى وعبأت الطوالع جملة

       وتسربت ”       ص 21

     إن الغرفة هنا هي الذات / عالم الشاعر الخاص ، تودعها أو تغادرها العصافير / الانطلاق والحرية أو قل الحياة .

     وإذا كانت العصافير قد ودعت ، والوداع لا يكون إلا بعد المقام والألفة ، فإن الأنثى أيضا أقامت ثم تسربت ، ولنلاحظ المزاوجة بين العصافير والأنثى ، لكن ماذا يبقى  بعد وداع العصافير وتسرب الأنثى غير الكهولة ؟ !

      يقول الشاعر في ختام قصيدته :

     ” أخمشها ، فيندلع النهار بغرفتي عبثا

       أراودها

       أدق قضاءها

       فتسيل صحراء بأوردتي

       وينكمش الغناء

                 بداخلي ”           ص 22

     إن اندلاع النهار هنا اندلاع كاذب ، لذلك ينكمش الغناء بداخله أو بغرفته ، ولكن تبقى الحقيقة الكامنة في النص والذات المغتربة أيضا ألا وهي الكهولة ، ذلك العنوان الذي وفق الشاعر في اختياره ، فليس انكماش الغناء إلا معادل للكهولة .

  الهوامش :

ـ صدر ديوان “إيقاعات الغرفة” للشاعر فؤاد سليمان مغنم عن سلسلة خيول أدبية الصادر عن محافظة الشرقية وهيئة الثقافة الجماهيرية هذا العام 2006 .

1 ـمحمد غنيمي هلال ، دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده ، دار نهضة مصر ، د.ت ، ص 60 .

2 ـ ساسين عساف ، الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع , بيروت 1982 , ص 97 .

3 ـ نقلا عن دليل الدراسات الأسلوبية لـ جوزيف ميشال شريم ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع , بيروت 1984 , ص 63 .

4 ـ المرجع نفسه ، ص 64 .

5- عبدالقادر القط ،الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية ، بيروت د. ت ،ص 391.

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *