ذئب السهوب .. شيزوفرينيا البطل

خاص- ثقافات

*خلود البدري

منذ الصفحات الأولى تحاول أن تتعمق فيما أراد الكاتب أن يقول ,في روايته التي تتحدث عن حالة من الاضطراب النفسي تصيب البطل فيشعر بالانفصام بين الواقع الذي يعيش فيه ورحه المعذبة التي تؤرقه فيتصور نفسه ذئب سهوب .وقد أكد الكاتب أكثر من مرة إصابة ذئب السهوب بهذا الداء .البطل أسمه هاري في الخمسين من العمر يستأجر غرفة عند عمة الراوي فتربطهما علاقة بسيطة بعد فترة من الزمن ,يترك له تلك المخطوطة التي كتبها ,عن ذئب السهوب .
المثقف الكاتب الذي يعرف كل شيء عن الموسيقى ,من شوبرت إلى موتسارت فغوته وكتاباته ,يتحدث عنهم وعن أعمالهم .يتعرف على امرأة في حانة أسمها “هرمينه “فتنشأ بينهما علاقة صداقة تتطور إلى توطيد علاقة هاري بكل أصدقائها والذى جعل هاري ينجرف معهم بعلاقات وأفعال غير سوية .وهنا يظهر التناقض وتبرز الشيزوفرينيا أكثر وهاهو يعرف عن نفسه قائلا :
“في يوم من الأيام كان هنالك رجل يدعى هاري ,ويكنّى بذئب السهوب .كان يسير على قدمين ,ويرتدي الملابس ,وكان كائنا بشريا .إلا أنه في واقع الأمر كان كذئب يجوب السهوب .تعلّم الكثير جدا حاذقا .إلا أن ما لم يتعلمه كان أنه يعلم طوال الوقت ,في قرارة قلبه (أو ظن أنه يعلم )أنه في الواقع ليس إنسانا,وإنما ذئب سهوب”
هرمان هسه “الحائز على جائزة نوبل الذي أُدخل مصحة الأمراض العقلية أكثر من مرة ,هل مر بحالة الانفصام فتحدث عنها ؟!.
نعم ,فالرواية من روايات السير الذاتية .
وأذن ,لماذا ذئب سهوب ؟,وهل يصيب الذئب الانفصام ؟
الذئب أبن الطبيعة دائما يعيش حرا, يخلص لأنثى واحدة ,وتعيش الذئاب ضمن جماعات .فهل أسم الذئب هنا ينطبق على بطلنا ,الجواب :ربما يكون حرا لكنه تخلى عن عائلته بسبب بعض القيود الدينية وطلق زوجته وتعددت علاقاته العاطفية ونزواته الكثيرة .
فأخذ يتلاطم في داخله التناقض .. أسئلة كثيرة … ,ربما هو يشبه الذئب في ترحاله وفي حزنه , على أي حال , يعوي الذئب بحزن شديد على أنثاه عندما تموت .ولا أجد وجه شبه بينه وبين هاري .الذي يعيش وحيدا بعيدا عن أهله ومجتمعه .
أهي صفة التوحش والقتل لكن هاري بدى غير ذلك كان فقط يفكر بالانتحار بالموسى عدة مرات ولكنه لا يفعل .
يقول الكاتب :”وقد يقول قائل أنه لم يشاهد قط عن قرب ذئبا حقيقيا .ولو أنه قد فعل فلربما أدرك أنه حتى الحيوانات لا تخلو روحها من انفصام حتى معها يُخفي جمال الجسد المتناسق كيانا يتسم بتعدد الأحوال والصراعات .”

موتسارت معجزة الخلود .

ذئب السهوب واسع الإطلاع ,يمجد موتسارت. الذي رحل عن الحياة مبكرا ولم يتجاوز من العمر 35 عاما .وعند موته لم يحضر جنازته ألا القليل ترك وراءه أرثا موسيقيا لازال يحمل تلك العبقرية التي لن تتكرر “أنه ينظر ربما دائما إلى موتسارت وعلى المدى الطويل بعين البرجوازي وهو يميل إلى أن يفسر كيان موتسارت المنجز ,على طريقة أستاذ المدرسة بوصفه هبة سامية وليس كنتيجة لقدراته الهائلة على الاستسلام والمعاناة ”
نعم موتسارات التلميذ النبيه ,الذي أتقن العزف على يدي والده ,وكتب مقطواته الموسيقية عند عمر مبكر . وهنا أستذكر هرمان “الناي السحري ” لموسارت ,وهي أوبرا انتصار الخير على الشر والتي أبدع مؤلفها في تأليفها , فهل تغلبت روح الخير على روح الشرعند هاري ؟

غوته واللوحة .

التقى هاري بصديقه أستاذ الجامعة والأخير قدم له دعوة للعشاء في بيته .هناك يشاهد لوحة لغوته .رسم غير جميل ينم عن سوء اختيار.
قبل هذا اليكم رأي هاري بمضيفه الذي أنعكس طبعا على عدم مقدرة هاري تجاوز هذا الأمر وإلى عدم الصمت عن تردي الذوق في رسم هذه اللوحة ورفض القبول بلوحة مشوهة لرمز الإبداع الألماني .”على كل حال قبل ذاك اللقاء لم أكن قد قابلت البرفيسور .وقد كان ,ككل أساتذة الجامعة تقريبا ,وخلال الحرب قام بواجبه على شكل خداع الناس ,وطبعا بكل النوايا الحسنة .”
وها هو يوضح سبب ضجره من اللوحة التي شاهدها ببيت الأستاذ ؟
“أنها جعلتني أرثي لحال غوته ,الذي أحبه حبا جما ,ثم إنني قلت في نفسي _الأفضل أن أعبر عن رأيي فيه ,وإني أتصوره كما يتصورونه,وإذا بتلك اللوحة السقيمة ,الزائفة ,العديمة الذوق تقف هناك وهم يعتقدون أنها جميلة وليست لديهم أدنى فكرة
عن أن روح تلك اللوحة وروح غوته يقفان على طرفي نقيض ”
سيدورا فتاة الحانة في ملحمة كلكامش وهرمينة فتاة الحانة في ذئب السهوب .أي شبه بينهما .؟
يشعر هاري بالإحباط واليأس من الحياة رغم بحثه عن الخلود وإعجابه بالخالدين لكنه دائم التفكير بالانتحار والتخلص من هذه الحياة الكئيبة والمضجرة عندما يلتقي بهرمينه تتغير حياته تماما تغريه بحياة اللهو والمتعة ,تعرفه على عازف الحانه وصديقة لها , يعيشوا حياة ألصخب ,المتعة ألجسدية ,الرقص ,المخدرات .تقنعه هرمينة بهذه الحياة كسيدورا التي حاولت أقناع كلكامش بالمرح واللهو لأن الحياة قصيرة .
تحدثه هرمينه فتقول : “إن الوضع نفسه عندما يحزن الإنسان لدى تفكيره في أنه سيموت لا محالة ذات يوم ,على رغم كل الجهود التي يبذلها لمنع ذلك .إن الحرب على الموت ,يا عزيزي هاري ,دائما شيء جميل ,ونبيل ورائع وعظيم ,وكذا ,تاليا ,الحرب على الحرب ,إلا أنها أيضا ودائما حرب يائسة ودنكيخوتيه ”
روحان ,واحسرتاه ,تسكنان صدري !” فاوست .
رحلة ذئب السهوب شاقة وشيقة ,بين جوانحها الكثير من الألم والمعاناة ,وبحث دائم عن روح مستقرة .

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *