يعتبر البحث في الجسد ودراسته بحثاً قديماً ومتجدّداً، ففي الثقافات الكلاسيكية التي تأسّست على رؤية اثنينية للإنسان (على أنه مكوّن من جسد وروح) اعتبر الجسد موطن الخطيئة، ونظر إليه على أنه الضدّ للروح ذات المصدر العلوي والمقدّس. غير أن تطوّر العلوم وانفتاح المعرفة في كل المجالات العلمية والاجتماعية في العصر الحديث اعتبرا الجسد ركناً أساسياً تقوم عليه هوية الإنسان، وتكتمل به ذاته.
الباحثة التونسية هدى بحروني في كتابها «شعرية الجسد من خلال نشيد الأناشيد، وإنجيل لوقا» الصادر عن دار «مؤمنون بلا حدود» تطرح من جديد مشكلة التعرّف الى الجسد في جميع أحواله، وذلك بالعودة الى الأشعار والأناشيد والتراتيل ونصوص الأديان وبوجه خاص النصوص التي تحكي عن الجسد في «نشيد الأناشيد» و «إنجيل لوقا».
إن تعريف الجسد ليس بالأمر الهين، فكل شيء في الكون يشير اليه، وهو يشير الى كل شيء في الكون، فجسدنا هو في الآن ذاته أداة كل أعمالنا وموضوعها، وكذلك أفكارنا. هكذا آثر المفكر الفرنسي أن يعرّف الجسد من خلال وصف قيمته في تحديد موقعنا في الكون وفي ضبط مسار انخراطنا في الحياة، وتواصلنا مع ذواتنا. ومن هذا المنظور بات الجسد مقولة أساسية في سجلّات شتّى القطاعات المعرفية والثقافية. فالجسد الذي تحكي عنه المؤسسة الإعلامية غير جسد التشريحيين المسجّى على طاولة التشريح، وجسد المؤسسة السياسية غير جسد المؤسسة الدينية أو الفنية أو الرياضية أو غيرها مما أنتجه الإنسان من مؤسسات.
لا يقلّ تعريف النص صعوبة عن تعريف الجسد. ذلك أن النص يشي برغبة اللغة في تثبيت وجودها وحماية كيانها من التلاشي. فالكلام حين يقتحم بياض الورق، ويجتاحه يضحي جسداً، بل يضحي من أجمل الأجساد التي يتاح لنا أن نفتتن بها وننجذب اليها. وما الزينة التي يطلبها النص بلاغياً ويتفنّن فيها إلا ضرب من ضروب اختراق الزمن، وانفتاح على الخلود. فالنص الخالد هو النص الجميل الفاتن. وقد نتج من الوشائج التي تجمع بين الجسد والنص أشكال عديدة من الغواية والإغراء، والحضّ على ترسّم اللذة، وهذا ما حدث لآدم وحواء اللذين لم يكتشفا فتنة جسديهما إلا باختراق الممنوع والاجتراء على المحظور، وكذا النص المبدع، لا يكون كذلك إلا بنسف المستقرّ من العلاقات بين الدوال والمدلولات، وبالجرأة على خرق القانون. إن خرق القانون من الجسد والنص يشهد على وجود تاريخ القمع الإنساني من خلال شتّى صنوف المراقبة والمعاقبة. فكثيراً ما تمّت معاقبة الكتاب المارقين عن نواميس السلطة قتلاً وحرقاً وصلباً.
ذكر «الجسد» في «العهد القديم» بكثافة وقد ورد ذكره في سياقات مختلفة، ففي سفر «اللاويين» بخاصة تعرض مختلف الحالات التي يعتبر فيها الجسد نجساً. وهذه النجاسة يترتب عليها تعطّل صلته بفضاء المقدس. فالجسد المصاب بالبرص يعرض على الكاهن لا على الطبيب، وثبوت المرض يؤدي الى الحكم بنجاسة المريض وإقصائه وعزله عن المجموعة، وكذلك المرأة الحائض، والمرأة إذا وضعت تظلّ نجسة ويقع تجنّبها الى أن تطهر من الدم.
يتكثّف حضور لفظة الجسد في العهد الجديد خلافاً للعهد القديم، إذ قلّ أن يوجد نص من نصوصه يخلو من ذكره، ومن الملاحظ أن هذا الحضور المكثّف لا يكشف عن احتفاء بالجسد وتبجيل لأعضائه، وإنما محاصرته وشجب غرائزه، وكسر نزعته الشهوانية، واتهامه بجلب الخطيئة الأصلية، ولذلك كان بمثابة الوثن الذي يجب أن يرجم ويقمع ويخضع للتقشف، تكفيراً عن وقوعه في الخطيئة الأصلية.
إن حضور الجسد لفظاً في القرآن الكريم هو حضور محدود. ولكنه مع ذلك كان حاضراً بكثافة. فكل شيء يحيل اليه. إنه الآلية الأساس لأداء العبادات وممارستها، والشرط الفيزيقي لإقامة الشعائر. وقد رأى البعض أن قيمة الجسد في الإسلام ليست متأتية منه في ذاته لأنه طاقة شهوانية في نظر الدين، وإنما يكتسب قيمته من مدى تحوّله عن تلك الشهوانية نحو فضاء المقدّس، وقدرته على الاندماج في أداء الوظائف الدينية، والنجاح في الصوم عن غرائزه وتهذيبها وإخضاعها للفعل الإيماني. وقد ورد «الجسد» أو ما قام مقامه من مرادفات كالبدن والجسم في سياق حجاجي لإثبات الإعجاز الإلهي.
لئن ظلّ المقدّس يحاصر الجسد ويسعى الى التحكّم به، وإخضاعه لنواميس لا تنتهي، وقوانين لا تعرف هوادة، فإن الجسد لم يعلن خضوعه النهائي لهذه المحاصرة، بل ظلّ يطلب اللذة ويتدبّرها بشتّى السبل، ويترسّم أثرها في كل مكان، ولعله من المفارقات العجيبة أن النصوص الدينية التي تدين الجسد وتلزمه بالاقتصاد في شهواته، هي نصوص عاش فيها الجسد مغامرات مترعة، بعضها دنيوي موجود، وبعضها مقدّس موعود، غير أن هذه النصوص ظلت تحضّ المؤمن على ترك اللذة الحسية، وطلب اللذة الروحية الدائمة التي هي سبيل الخلاص.
يلتقي النصان في العهد القديم والعهد الجديد على جعل الرأس مسرحاً فسيحاً للذة بنوعيها الحسي والفكري، وقد اختير من الرأس بعض الأعضاء كالعين والأنف والأذن والفم. فالعين مثلاً التي هي بؤرة الافتتان والسحر والسلب، وهي في الوقت نفسه سلاح العاشق ليخترق الحواجز الثقافية التي تمنعه من تحقيق لذاته. وقد تقاسمت لذة البصر في «النشيد» عيون هي عين المحبوبة، وعين المحبّ، وعيون بنات أوروشليم. أما مواضيع الرؤية فهي جسد المحبوبة، وجسد المحبّ. وجسد الطبيعة. وتنصرف عين المحبوبة من جسدها الى جسد المحبّ تصوّر شتّى أعضائه وتترصده في مختلف أحواله وأعماله، وهي تترسّم خطاه وتقفو أثره أنّى ذهب، وتصفه مستيقظاً ونائماً، وترسم تفاصيله وتقطعه تقطيعاً يخبر عن عشق متأجج في امتلاكه لأنه جسد فائض السحر والوسامة. تقول العاشقة في «نشيد الأناشيد»: «اجعلني كخاتم على قلبك، كوشم على ذراعيك فإن المحبة قوية كالموت، والغيرة قاسية كالهاوية».
إذا كانت العين في «النشيد» موضوعاً للوصف، فإنها في «إنجيل لوقا» مصباح للجسد بمعنى أنه مثلما يكون المصباح مصدر النور المبدّد للظلمة، تكون العين أداة لإنارة سبيل الخلاص، أو النجاة للمؤمن المسؤول عن مصير جسده الذي لا يحيد عن مآلي الخلاص والهلاك، ففي سلامة العين نجاة الجسد، وفي عطبها هلاكه وتلفه.
يبدو الأنف في العهدين القديم والجديد مسرحاً شاسعاً يستقطب شتّى الروائح، وهو أكثر حضوراً في النشيد مما هو عليه في «إنجيل لوقا» وقد كانت لغة العطور لغة أنثوية بالأساس، يصدرها الجسد الأنثوي أو يتقبلها، ويفتتن بها كما فعلت مريم المجدلية في لقائها بالمسيح. وللفم في الكتابين نصيب وافر من اللذة فهو من بين أعضاء الرأس الأكثر طلباً للذة وأكثرها انغماساً في عالمها. أما الأذن في النشيد والإنجيل فلها تجليّات شتّى، ففي النشيد متعة الأذن تتأتى من صوت الحبيب المباشر أو من وقع أقدامه، أما في الإنجيل فإن اللذة التي تحصّلها الأذن وإن كانت عبر الجسد ليست لذة الحس، وإنما لذّة الروح.
كتاب هدى بحروني عن الجسد كتاب ممتع وثري بالمعارف، يضعنا أمام مقاربة جمالية تروم الوقوف على الأسرار الفنية التي توخّتها النصوص المقدسة في تشكيل صورة الجسد، وفي فهم الدلالات التي ينفتح عليها النصان موضوع التحليل.
_______