* عبدالله مكسور
تقدم الكاتبة الأميركية كارسن ماكالرز في روايتها “أنشودة المقهى الحزين” التي ترجمها إلى العربية، السعودي علي المجنوني، جملة من العلاقات القائمة على فكرة الحُب الظاهر، لكنها خاضعة لمنطق القوة هي الغالبة وهي التي تصنع الحق وتحميه أو تقضي به، لهذا ما إن تسنح الفرصة لأحد الضحايا المهمشين بالانقضاض على ضحية أخرى حتى يفعل ذلك، لكنه مضطر في الأوقات الطبيعية إلى بناء علاقات تحت عنوان فكرة الحب الطارئ كأنشودة للمقهى الحزين دائما.
تدور أحداث رواية “أنشودة المقهى الحزين” للكاتبة الأميركية كارسن ماكالرز في مقهى منسي بجغرافيا تبدو مصطنعة لكنها حقيقية، أبطالها مهمشون منبوذون يمارسون حياتهم بالاعتياد ضمن منطق الحصول على الكفاف فقط، الأحلام ممنوعة الحدوث لعدم منطقيَّتِها، وكأن القارئ أمام كاميرا سينمائية تنقل مشاهد مهزوزة غير ثابتة باستمرار، لأحداث بُنيَت لتوافق مزاج الشخصيات التي تفرض إيقاعا يبدو متناسبا إلى حد كبير مع صيرورة الحكاية.
وتكتب الكاتبة الأميركية “البلدة في حد ذاتها كئيبة، إذ ليس فيها كثير مما يُرى سوى مصنع القطن، والمنازل ثنائية الغرف التي يقطن فيها العمال، وبضع أشجار دراق، وكنيسة بنافذتين مبرقشتين، وشارع رئيس بائس لا يتعدى طوله مائة ياردة”.
الكاتبة الأميركية كارسن ماكالرز في روايتها “أنشودة المقهى الحزين” الصادرة عن دار مسكلياني في تونس- بترجمة السعودي علي المجنوني، الذي كان موفقا بالغوص في الحكاية ليس فقط على مستوى النقل اللغوي بتراكيب مبنية بطريقة إبداعية بالعربية، وإنما على مستوى الولوج النفسي في تحوّلات الشخصيات الأساسية والهامشية في السرد- تضعنا في مكان بعيد عن كل شيء إلاّ تلك الأشياء التي تتعلق بأبطال الحكاية، فالقرية هي مزرعة كئيبة حزينة ومعزولة، تشبه مكانا قصيا يخلو من حيوية الأفعال، عدا يوم السبت، حيث يزورها سكان المناطق المجاورة للتبضع، الشتاءات فيها قصيرة وشديدة البرودة، والصيف أبيض متوهّج حارق، هذا المكان تحوّل فيما يشبِهُ المزحة إلى مقهى بدأ الناس بالتوافد عليه، لكن ما لبث الوقتُ إلاّ أن نقلَ ملكية المقهى من الأب المتوفّى إلى ابنته الآنسة “أميليا” التي تمثل الشخصية الرئيسية الأولى في الحكاية.
وفي توصيف أميليا، تقول ماكالرز “هي امرأة داكنة وطويلة بعظام وعضلات أشبه بالرجال، تبدو في بداية العقد الثالث وتملك إلى جانب المتجر معصرة شراب وتدير أراضي زراعية، منشغلة بما عندها من أملاك ولا تقيم علاقات مع أحد من الزبائن مطلقا”.
وأمام هذه الشخصية في حكاية تدور في مكان منعزل عن العالم، كان لا بد من اختراق السرد بشخصية “مارفن ميسي” الشاب الوسيم صاحب العينين البنيَّتَين الذي وقع في حب أميليا وتزوجها لعشرة أيام، أنهتها الزوجة بلكمة قوية على وجه الزوج بعد أن ضبطته بحالة سُكر شديد، هذه الحادثة كانت كفيلة بتحويل الشاب إلى دائرة الإجرام، فسرق ثلاث محطات وقود وأشياء أخرى قبل أن ينتهي به المطاف في سجن أتلانتا.
مارفن ميسي السجين في أتلانتا، والزوج الأول لعشرة أيام، يغيب عن الحكاية، لتعود دورة الأحداث في وصف عميق استمر على طول الرواية التي امتدت لسبع وتسعين صفحة، هنا تظهر شخصية الأحدب، وهو من أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بخاصية تميّزه عن البشر العاديين الآخرين، لدى هذا النوع غريزة لا توجد عادة إلاّ عند الأطفال الصغار، إنها غريزة إقامة تواصل مباشر وحيوي بين نفسه وكل الأشياء في العالم.
وتستوقفنا في الرواية الشخصيات الهامشية الأخرى المنتشرة فيها، ومنها شخصية الناسج الذي يدعى “ميرلي راين”، وهو رجل ليس له رصيد من الشهرة، شاحب ومتثاقل ولا يملك في جمجمته سنا واحدة، “كان مصابا بمرض الملاريا الثلاثية، ما يعني أن الحمى تعاوده كل ثالث يوم، التفت فجأة وقال: أعرف ماذا فعلت الآنسة أميليا، قتلت الرجل من أجل شيء ما في تلك الحقيبة”.
وهذه العبارة كانت كفيلة بدبّ الحياة في ألسنة أهل المكان الذين طفقوا يبثون في الإشاعة حتى صدّقوها، إنها جريمة مكتملة الأركان، شابة في الثلاثين من عمرها تقتل أحدبَ اقتحم أملاكها مدّعيا أنه ابن خالتها من الزوج الثالث الذي لم تسمع الفتاة به أبدا، موثِّقا هذه الرواية بصورة يبدو فيها وجها طفلتين كلُطخَة بيضاء في صورة، قال إنها تعود إلى أمه وأختها التي هي بالضرورة والدة الآنسة صاحبة المقهى.