موسيقى تعزفها دروبُ السّفَر

خاص- ثقافات

*أدونيس

ربّما يَغلُب الصّدقُ في ما يقوله مونتاني Montaigne:

«دائماً يحضُّنا المكانُ الآخر على التّفكير».

«المكانُ الآخر» عبارةٌ تتضمّن القوْلَ: الفكرُ سفَرٌ، والسّفَرُ فكرٌ.

وهو ما يذكّرنا بقول أبي تمّام: «اغترِبْ، تتجدَّد»، حيث يُشير الشّاعر إلى أنّ السّفرَ لا يبعثُ فقط على التفكير، وإنّما هو أيضاً شرطٌ للتجدُّد. كأنّ «الثّبات» في مكان الولادة ليس إلاّ نوعاً آخر من «الجهْل»، ونوعاً آخر من الموت.

نعم، لن تتجدّدَ إلاّ إذا اغتربْتَ».

هكذا يعلّمك السّفرُ كيف تغيّر رؤيتك، مغيِّراً المكان الذي يتحرّك فيه جسمُك. تخرج ممّا أنتَ فيه، وتتفتَّح للتّنوُّع داخِلَ نفسِكَ، وفيه، مستسلِماً لذكاء جسدكَ. تُسافر مع جسمك، وتسافِرُ عنه: عملان مُتلازِمان، لكي تبقى أنتَ أنتَ في حركتكَ وسكونكَ. تُهاجِرُ وتعود، تعودُ وتهاجر. لا بالزّاوية ترتبط، بل بالأفق. بعيداً عن راحة العادة، وعن عادة الرّاحة. هكذا تنبش أسئلتك التي يطمسها الخوف، وتطرحُها على شجاعة العمل:

ضدَّ ذلك العقل الذي لا يعرف أيَّ هاجسٍ للتحرُّك في اتّجاه الحقيقة. إيماناً من صاحبه أنّ الحقيقة أمس والآن وغداً، قائمةٌ فيه، هو وحده.

ضدَّ هذه العَماوة التي هي ضدّ الإنسان نفسه، ونقيضٌ كامِلٌ للحياة.

نعم، أن تحيا هو أن تسافر:

ضدَّ «اللغات» التي تُفسِد الحياة، ويتعفَّن فيها الفكر.

ضدَّ ما يفصل ويَعزل، وضدّ الحدود كلّها.

نعم، إن كان لحيويّة الإنسان وطنٌ، فهذا الوطن هو هذا الترحُّل.

*

دائماً، كنت أحمل الليلَ على كتفيَّ طول النّهار.

دائماً، كنتُ أضعُ رأسَ النّهار على وسادتي، طولَ الليل.

كانتِ الطّرُقُ التي تُصادفها خطواتي أصغرَ وأقصرَ من تلك

التي تتخيّلُها، أو تبحث عنها.

وكنتُ لا أرى على ضفاف هذه الطّرق إلاّ أطفالاً يرسمُ

كلٌّ منهم وردةً في كتاب الهواء.

وكنتُ لا أعرف كيف أميِّز بين هذه الوردة،

وتلك الجميلة البائسة المشرَّدة التي تُسَمّى الحياة.

*

ثمّةَ طرقٌ عَبَرَتْها ملايينُ الخطواتِ التي لم تتركْ أثراً، ولم

يكُنْ لها ظلٌّ تحت أشجار الشّمس،

تعبرُها، اليوم، خطواتٌ أخرى، بالوقْع نفسه وفي الأفق نفسه.

ما أغربَ هذا الكائن الذي يُسمّى الإنسان:

رغبتُه الطّاغية في حياته وفكره،

هي أن يهين الطّينةَ التي جُبِل منها.

*

اليدُ التي تَرفعُ، في السّفر، دلْوَ الماء من البئرِ التي تسقي

العابرين،

تُلامِس الحجرَ بحنانٍ،

وتُربِّت على كتِفَي الحَبْل الذي يُعانق الدّلْو، في هبوطه

نحو الماء وصعوده نحو العطش.

في الماء الذي يحتضنه هذا الدّلْوُ جذرٌ عاشقٌ اسمه

الذّاكرة.

لليدِ، هي أيضاً،

تاريخٌ لم يُكتَبْ بعد.

*

تلك العادة التي تأخذ غالباً في السّفر اسماً آخر هو اللانهاية، ليست غالباً

إلاّ مفتاحاً للبيوت التي تنسجها العناكب.

بيوتٌ لها منطقُ الرّيح،

ولها مخَيّلةُ الغبار.

ماذا تقول أذناك، يا فضاء السّفَر، عندما تُصغيان إلى موسيقى هذه

اللانهاية؟

هل تعرفان، حقّاً، سرّ ذلك الجسر العائمِ الدّائمِ

بين خيط الشّمس وخيط العنكبوت؟

*

في السّفر، من بيروت وإليها – يبدو العالَم كثيراً – واحداً.

ما يتبقّى من السّفَر في الطّائرة؛ بدءاً من نيويورك، أو شنــغهاي، على الأخصّ، مشاعرُ تحتدم في أنحاءِ الجسم، وتمتزج بعَجَبٍ يدعوك إلى أن تصرخَ بينك وبين نفسك:

ما أغربَ هذا اللقاءَ العابر، الحميم، الخفيّ، الكونيّ،

بين أمعاء العالم في مرحاضٍ طائر.

ما أغربَ تلك الوحدة بين النّفايات الأرضيّة الطّائرة في صحراء السّماوات.

*

تُرى، لا يعودُ الرّأسُ، في السّفر، قادراً على أن يقرع أجراسَ الرّغبة؟

كأنّه يصيرُ مجرّدَ مَرساةٍ تُربَطُ بها حبالُ المراكب المحطَّمَة.

أو كأنّه لا يعود يعرف كيف يميِّز بين الهَباء والبَهاء!

نعم، أيُّها الرّأس،

يُمكِن الورقُ الأسود أن يتحوّل في السّفَر إلى كتابٍ أبيض

في مدُنٍ لم تعُدْ شوارعُها قادرةً على استقبال أيّة شجرةٍ حتّى لو

كانت آتيَةً في سفينةٍ سماويّة.

ربّما لهذا، أيّها الرّأس،

تبدو بيروت، خصوصاً في عينَيْ من يحبّ السّفر،

أنّها تحبّ النّومَ على سريرٍ بلا وسادةٍ، لكي تحرّره من معناه الشّائع.

يكون أحياناً كرسيّاً في أوج الشّيخوخة. أو مُقعَداً يعيش في حديقة ذكرياته. أو حصيراً يقلِّد سجّادةً للصّلاة.

سريرٌ يوقِظ في جسمي، شخصيّاً، ذاكرتَه الأولى حيث أمضى سنةً كاملةً ينامُ على طاولةٍ توهمُه بأنّها سريرٌ عالٍ يُطِلّ على الشّاطئ الذي تنام جزيرةُ أرواد في سريره الأزرق، على ذراع مدينتها – طرطوس.

*

لكن، لماذا في السّفَر، يزداد شكّيَ في آفاق التّرجمة بين لُغات

«المادّة» ولُغات «الرّوح» – خصوصاً في المدنِ التي تتكلّم لغاتٍ عديدة، كمثل بيروت؟ خصوصاً أنّ الكلمات، في هذه المدن، تبدو كأنّها تتنقّلُ على حبْلٍ ممدودٍ بلا نهاية بين برزخين: الماء والصّحراء.

*

«نبحث عن اللانهاية ولا نعثر إلاّ على الأشياء» يقول الشاعر الألمانيّ نوفاليس.

في الموسيقى يتجسّد هذا البحثُ ونعثر فيه على ما يتخطّى الأشياء. لا الموسيقى وحدها، منظوراً إليها بمعناها التّقنيّ الحَصريّ، بآلاتها الوتـــريّة وغير الوتريّة – وإنّما يتجسّد كذلك في موسيقى الكلمات. في الشّعر على نحْوٍ خاصّ. الموسيقى هي أيضاً، سفَرٌ في اللانهاية.

عادةً، هذا ما يخطرُ لي أوّلاً فيما أغادِر مطارَ بيروت إلى أرضٍ أخرى. الموسيقى الممزوجة بهدير الطّائرة. الموسيقى التي تتبطَّنُ أجنحةَ الطّائرة. الموسيقى التي تُنزِل اللغةَ عن عرشها الكلاميّ، وتُحِلُّ محلّها في نفسي، وفي جسدي كلّه، إيقاعاتٍ ابتدَعها الفراهيديّ وجسّدها الشّعراءُ العرب، واستعادَتْها في أشكالٍ وتراكيبَ جديدةٍ مجلّةُ «شعر»:

الموسيقى لابسةً قميصَ الفضاء، لابساً قميصَ السّفَر، لابساً قميصَ الشّعر.

حيث تتداخَل وتتآلف أصواتُ العناصر، وأصواتُ الكائنات، إنشاداً وغناءً، نغَماً ووَزناً. كأنّما تنقلِب الطّبيعةُ في الشعر وتتحوّل إلى طَبْع.

القصيدةُ أرضٌ طائرة:

موسيقى تُحرِّر الكلمات من ثقلها المادّيّ – الحروفيّ، وتشحنها

بأصواتٍ وأنغامٍ وأبعادٍ تخلق في الإنسان الشّعورَ بوحدته الكاملة مع الوجود، كما لو أنّه يُقيم معه سويَّةً في سنفونيّةٍ واحدة.

*

في الجوّ، في طريق توجّهي أمس نحو بيروت، قبيل الدّخول في أجواء قبرص حيث اصطادَ زينونُ الرّواقيّ الأوّل، شبكةَ الأزمنة، بدأت أشعر كأنّ الطّائرة مُطَوَّقة بالمحاربين الذين يهبطون من كواكبَ خاصّةٍ لصيد الأطفال.

تخيّلْتُ البحرَ اللبنانيّ يسبح في عيونهم، فيما يقبّل رملُ الشّواطئ خطواتهم. وكان موْتى كثيرون يسبحون في الهواء. وخُيِّل إليّ أنّني أسمع كلماتٍ عربيّة تتطاير كالفراشات وتحترق هابطةً في قبورٍ ليست إلاّ أكياساً لقمامةٍ آتيةٍ من جميع الجهات.

هي ذي امرأةٌ تنفجر في رجالٍ كثيرين،

هوذا مراهقٌ يتأبّط تاريخ السّيف منذ أن أنجز ضربته الأولى.

ورأيت من بعيد، من نافذة الطّائرة، جبران خليل جبران، يتناقش بصوتٍ عالٍ مع صديقه ميخائيل نعيمة، ثمّ يبتعد فجأةً ويمشي شبه ضائع مع غيمةٍ رماديّة تُغازِل البرقَ الخُلّب.

بيروت ـ

انظري، إذاً، إلى السّفر بعينيْ جبران واسأليه:

لماذا يحاول السّفر أن يغسلَ حتّى أجنحة العصافير؟

ولماذا يُحبّ السّفَرُ من بيروت وإليها أن يحملَ معه دائماً مغارةَ أفلاطون؟

«ليست الحقيقةُ إلاّ ظِلاًّ على جدران مغارةٍ (بيروت مطوَّقةٌ بالمغاور، اليوم)، يقول أفلاطون. وهذا الذي يقوله، لا يزال قائماً، وتشهد عليه بيروتُ نفسُها. غير أنّ المَغاوِرَ اليوم أكثر ضخامةً:

الباحثون عنها والمُقيمون فيها أكثر عدداً،

ومالكوها وحرّاسُها وقوّادُها أكثرُ عِدّةً.

أليس تاريخ العرب اليوم هو في معظم صفحاته تاريخٌ تكتبه هذه المَغاور؟

وهو تاريخٌ يُسهِم في تَراكُم

الحُجُب على الحقيقة:

ماضِياً، كان الكونُ حركةً في اتّجاهِ الكَشْف،

حاضِراً، يتحوّل الكون إلى حركةٍ في اتّجاهِ الحَجْب.

*

بيروت – الضّوءُ، مقيماً مسافراً، مسافراً مقيماً، هو وحده الخفير الذي

يحرس شواطئك،

ولا يُغلَبُ الضّوء.

هكذا، فوق جبالك حملَت السماء بابنها الأول،

ومنذ ولادته رفض أن يرضع إلاّ ثديَ الأرض.

هكذا قلتِ للشعر أن ينسجَ له ثيابه الأولى.

هكذا نسخت الموسيقى آذاننا

وأنزلَت لنا آذاناً أخرى.

*

الكلمةُ في السّفَر من بيروت وإليها، هي نفسُها رحيلٌ.

الكلمةُ، بوصفها تاءً مربوطةً لها هيئةُ السُّرّة. وما أبدعَ الحروف!

الألفُ بدءُ الرّحيل،

اللاّم طريقٌ تتمدَّدُ أعضاءُ الجسمِ المُسافر على جوانبها.

الجيم كأسٌ لها شكلُ الشّفَتَيْن،

النّونُ حوضٌ لا ينفدُ عسَلُه.

واحْتَضِنْ ما شِئتَ من الحروف الأخرى – حيث يمكنكَ أن تصنعَ

وسائدَ خاصّةً تتّكِئ عليها الكواكب.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *