شجرة حمــراء… لبلاب أخضر

*وفاء خرما

 

     كان أحدهما يعشقها، وكان الآخر يكرهها، وفي أكثر من مناسبة رأيتُ تقاطيع أخي الأصغر، تتقلص نفوراً حين تقع عيناه عليها.

     وحين جاءنا من المغترب في إحدى زياراته، صُدم وهو يراها تطل عليه من نافذة غرفته تكاد تنحني نحو سريره. فقال لأخي الأكبر في حزم : اقطعها… لن تنموَ غرستي في ظلِّها.

     ابتسم أخي الأكبر هازئاً وأكدَّ أنّه لن يفعل لأنها أجمل مافي الحديقة. اتقدَّت عينا أخي الأصغر بالغضب وأقسم أنه سيحرق تلك اللبلابة إن عاد يوما ولم يجد غرسته نامية.

      وحين ودّعنا مغادراً إلى بلاد الاغتراب، أشاح بوجهه عن أخي الأكبر مهملاً توديعه.

      كلماتهما المهدّدة والمتوعدة ظلَّت في ذاكرتي تحرك في صدري الألم والخوف…

×     ×     ×     ×     ×    ×     ×

     غرسة صغيرة حملها من تلك البلاد ليزرعها في حديقة بيتنا، فلم يكن لها مكان في مساحة الحديقة سوى هذا الذي صادف وجودُه بجانب اللبلابة. تاق أخي الأصغر إلى رؤية الغرسة شجرة حمراء كتلك التي أطلعني عليها من خلال شاشة جهاز الكومبيوتر إذْ بدت وهي تنتصب أمام بيته الجديد هناك… ممتدة الأطراف، سامقة تنكفىء بذوابات أغصانها على قرميد السطح… أليست رائعة ؟ قال لي مزهواً ومفاخراً …. لكن بتلك اللبلابة الممتدة الخضراء كان أخي الأكبر أشدّ زهواً وفخراً !

×     ×     ×     ×     ×    ×     ×

     نزلتُ درجات الحديقة كل يوم، أسقيها، وأتقصّى على سيقانها الغضة انبثاقَ براعم جديدة، أو حتى انتفاخاً يسيراً يشي بولادة واحد من تلك البراعم، علَّ البرعم يصير وريقة، ثم ورقة… والأوراق تكثر وتكثر الأغصان وتتكوَّن شجرة… شجرة حمراء كبيرة ووارفة كشجرة أخي التي زيَّنتْ واجهة منزله الجميل في مكانه البعيد، والتي أحبَّ أن يراها نامية في حديقة بيتنا، ساطعة بلونها المتفرّد في قلب اللون الأخضر لمزروعاتنا .

     لكن.. ما كان في الغرسة ما ينبىء بنبض جديد يعتلج في أحشائها، وحده الخوف عاد ينبثق في داخلي، وأنا أرى اللبلابة تمتدُّ يوماً بعد يوم، في اخضرار يانع، بأغصان غزيرة التفرع، سريعة النماء، وهي تقطع مسافات متزايدة على الجدار الحجري مثل قطار سريع، مُسدلةً ستائر أوراقها على فراغات المساحات المتبقية في ذلك الجدار.

     وفي إحدى المساءات طالعتني الغرسة بإحدى وريقاتها وقد انكفأت على نفسها كأنها تتأوَّه متوجعة ! . لاحظتُ الذبول يقلِّص أطرافها الغضّة وقد غدت داكنة. نهضتُ عنها، لأواجه اللبلابة وقد راحت تتقدم بجنون. هاهي قد التهمت خصائص نافذة غرفة أخي الأصغر، بعد أن كانت بعض فروعها قد اندفعتْ تلتفُّ على الجدار المجاور لتبدأ رحلة افتراسه .

     خفتُ، بغضبي وحزني معاً ، أن أنقاد لانفعالي، فأهجمَ عليها، أقطُّعها، وأنتزعُها من تشبثها المتكالب بالحجر والنافذة، قاطعةً على براثنها الوحشية الطريق إلى الباب !

     تمنيتُ ألا يتصل بنا أخي، كي لايسألني عن غرسته، فأجيبُه بأنها تموت، وكي لايُتبع سؤاله بسؤال آخر عن اللبلابة فاضطر للاعتراف بأنها تقتحم الحديقة بشراسة.

     لكنّه اتصل … جاءني صوته غريباً خائراً متعثرا، يحاول عبثاً بين توقف وآخر أن يعيد إليه تماسكه.

     طعنت ذبذبات الصوت قلبي.

     واجهتني، فتجمدّتُ ازءها ذاهلة! أهي الذاكرة الخربة ؟ أم هي حقيقة السحر ؟ كيث وُجدتْ هذه الغرسة الحمراء أمام باب منزلنا في حفرة ترابية اصُطنعت باقتلاع بعض بلاطات الرصيف؟ ومن أحاطها، كمهد، بذلك الشبك المعدني ليحميها من عبث أطفال أو لطمات ريح ؟ من ؟ وصاحبها مازال عالقاً بهمّه وغمِّه في مكانه البعيد ؟ ! !

     نفض عن كفيّه تراباً عالقاً وهو يقول : مكانها هنا أفضل، تحتاج إلى الشمس… ورددتُ ومازال ذهولي عالقاً : الشمس ؟ ! عاد أخي الأكبر يقول بنفس الاقتضاب والجفاف: حديقتنا محاطة بالجدران … شمسها غير كافية .

×     ×     ×    

     حين عاد، لم يحتفِ بالشجرة الحمراء كما توقعت، كانت قد كبرت وامتدت أغصانها، وورفعت مضفية على واجهة منزلنا في انتصابها على الرصيف جمالاً وبهجة.

     واشتدَّ استغرابي وأنا أراه، بعد أيام من إقامته بيننا، ينزل كل يوم درجات الحديقة، فيلتقط أطراف أغصان اللبلابة، ويمدُّها بعناية على قضبان خشبية، ثبَّتها على الحائط، ثم راح، يوماً بعد يوم ينشغل بملءْ فراغات تلك القضبان بأفرع وأوراق كانت، وماتزال تندفع بنموّها العجيب. وحين اطمأنَّ إلى تكوِّن الخيمة الخضراء، ابتنى تحتها بركة صغيرة من حجارة زرقاء، ووزَّع حولها كراسي خشبية، جعلتنا كلّما جلسنا عليها بعد ذلك، نطلق صرخات إجفال مرحة، ونحن نترطّبُ ببلل القش الذي أحدثتْه نافورة الماء برذاذها المتناثر !

____
*نشرت في مجلة السلام (السويد)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *