فصول من كتاب الحياة السّعيدة: البحث عن الاكتفاء في العالم الحديث للكاتب ديفيد معلوف (4)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدّليمي

 

      أقدّم أدناه  ( وفي أقسام لاحقة ستنشر تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره ( ديفيد معلوف ) في مجلة ( Quarterly Essay  ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011 ، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّة .

                                                               المترجمة

                        السّعي وراء السّعادة

   في يوم صيفي قائظ من أيام شهر حزيران 1776 ، وفي غرفةٍ كائنة في الطابق الثاني من منزل بثلاثة طوابق يقع في زاوية السوق وفي الجادة السابعة في ضواحي فيلادلفيا ، جلس ( توماس جيفرسون Thomas Jefferson ) ذو الثلاثة والثلاثين ربيعاً إلى منضدته وقد نذر نفسه لإتمام مهمة كتابة إعلان الإستقلال الذي سيصرّح – بقوة – بضرورة إنفصال بلده ( الذي سيغدو الولايات المتحدة الامريكية فيما بعدُ ) عن بريطانيا العظمى .

   كانت لدى جيفرسون فكرة جيدة بشأن أهمية ماهو مُزمِعٌ على فعله ، وكانت اللغة التي إعتمدها في الوثيقة فخمة بمثل فخامة المناسبة التي نذر نفسه لها ، وكانت رؤيته أن تلك لحظة مفصلية ذات زخم لايمكن التشكيك بعظمته ، وقد أريد لها أن تمتلك فعلاً مؤثراً في مخيالنا البشري شبيهاً بما فعلته حوادث مثل الثورات المسوّغة وحركات التحرّر في مملكة التأريخ الشاسعة . يكتب جيفرسون في إعلانه هذا  ( عندما يغدو ضرورياً في سياق الحوادث البشرية لشعبٍ ما أن يفكّ الروابط السياسية التي لطالما قيّدته مع شعبٍ آخر ، ولكي يرى في ذاته القدرة ليكون محسوباً بين القوى الفاعلة على الأرض ، ولكي يحوز المكانة المساوية وغير المقيدة بالآخرين – تلك المكانة التي وهبتها قوانين الطبيعة وإله الطبيعة لذلك الشعب حتى صارت عنواناً مميزاً له ……………… ) .

   لم يكن حتى جيفرسون ذاته يخمّن ( وهو يدبّج بقلمه تلك الكلمات الأثيرة على الورقة ) أن الكلمات التي ستعقبها ربما ستغدو العبارات الأكثر تأثيراً في القرن القادم ( أي القرن التاسع عشر ، المترجمة ) ، وأن نصف دزينةٍ من تلك العبارات ستكون العبارات الأكثر شهرة والأكثر إقتباساً في كلّ تأريخ اللغة الإنكليزية  ( نحن نعتقد إعتقاداً راسخاً أنّ هذه الحقائق مقدّسة ولاسبيل لنكرانها : أن كل الناس خُلِقوا متساوين ، وأنهم وُهِبوا من خالقهم حقوقاً محددة غير قابلة للتصرّف ، وأن بين هذه الحقوق الحياة والحرية والسّعي وراء السّعادة . )*

   بعد خمسين سنة من ذلك التأريخ ، وعندما أنجِز كل شيء وتوطدت دعائم الجمهورية ( الأمريكية ) وحازت وثيقة الإستقلال شهرتها المتعاظمة بكونها ” مساهمة جيفرسون في لحظة مدوّية من التأريخ ” فإن جيفرسون قصد عامداً التقليل من شأن أصالة ماكتب من قبلُ ، وهنا يؤكّد قائلاً : ( لم أكن لأبتغي أصالة المبدأ أو العاطفة ، ولم أسعَ لإستنساخ أي نص مكتوب من قبلُ ، بقدر ماسعيتُ نحو مناغمة العواطف الشائعة في تلك الأيام سواء كان معبّراً عنها في رسائل أو مقالات مطبوعة أو في الكتب الأساسية التي تتناول الحقوق العامة مثل كتب أفلاطون أو شيشرون أو لوك ،،، الخ )**.

   لم يكن جيفرسون يتقمّص ثوب التواضع هنا ؛ إذ لم يُعرَف عن الرجل أنه كان متواضعاً قطُّ ؛ ولكنه كان يدافع عن نفسه في وجه أي إتهام له بأنه منتحل لأعمال أدبية منسوبة لسواه .

   قبل بضعة أيام وحسب من جلوس جيفرسون لطاولة الكتابة وتدبيج وثيقة الإستقلال كان قد تسلّم نسخة من مقدّمة صديقه جورج ماسون*** George Mason للدستور الفرجيني**** ، وفي تلك الوثيقة قرأ بالتأكيد العبارات التالية ( كل البشر خُلِقوا أحراراً متساوين ومستقلين ، لهم حقوق طبيعية محددة ومتأصلة في ذواتهم … من بينها الإستمتاع بالحياة والحرية من خلال إكتساب وحيازة الملكية ، والسعي نحو بلوغ السعادة والأمان . ) ، ومن الواضح أن ليس ثمة شيء في هذه العبارات يمكن أن يقلّل من شأن إنجاز جيفرسون ؛ بل الحقّ أنه يعزّزه .

   لكن بعيداً عن النغمة المميزة والمختلفة لإيقاع كتابة جيفرسون في وثيقة الإعلان ( والتي لها القدح المعلّى فيما يقال ، فإن ضربة ” المعلّم ” الخبير لجيفرسون تتحقق عندما يختزل عبارة ماسون المطوّلة التالية ( الإستمتاع بالحياة والحرية من خلال إكتساب وحيازة الملكية ، والسعي نحو بلوغ السعادة والأمان  ) إلى محض سبع كلمات فحسب .

   نلمح في الديباجة الجيفرسونية غياب الإشارة اللوكية ( نسبة إلى لوك Locke ، المترجمة ) إلى الملكية وربط ماسون للسعادة بالأمان ، وبعد أن يفك وثاق قيد الملكية منها فأن السعادة كما يستحضرها جيفرسون تغادر حدود ذلك الإحساس الضيق بكونها أمراً محكوماً باعتبارات مادية ، وتنطلق صوب ذلك الإحساس الأكثر استرخاءً وعمومية عندما  تُعتبَرُ أمراً مرتبطاً بالرفاهية العاطفية ورقيّ المشاعر ، وتتصدّر السعادة في وثيقة جيفرسون أهمية لانلمحها في المقدمة التمهيدية لماسون لأن السعادة ( وفقاً للإعتبارات الجيفرسونية ) تتوّج قمة قائمة من المزايا : ” الحياة ، الحرية ، والسعي وراء السعادة ” .

   في الصياغة الجيفرسونية ( وربما لم يكن جيفرسون ذاته مدركاً لما سنقول ) ثمة أمر جديد يُقال : السعي وراء السعادة بات يُمنَحُ الآن المكانة ذاتها – كحقّ طبيعي – التي تحوزها الحياة والحرية ، وربما كان هذا أمراً غريباً لأن هذه الحقوق الثلاثة تبدو وكأنها منتمية لمراتب منفصلة من التجربة البشرية : الحياة تنتمي للطبيعة ، والحرية تنتمي لمَلَكَة الفعل الإجتماعي ، أما السعادة – أو على الأقل الحق في السعي وراءها – فهي تنتمي للوجود الشخصي والذاتي للفرد ، وطبقاً للصياغة الجيفرسونية فقد جاءت بمفهوم عالمي جديد وغير مُختَبَر حتى ذلك الحين – تعبير عن روح التفاؤلية الأمريكية وللتأثير الأمريكي في مستقبل عالمي يتعذّر تخيّله بعدُ ، وهذا المستقبل وإن كان غير متخيّلٍ بعدُ لكنما خطوطه العامة تبدو مسطورة في ثنايا الإعلان الأمريكي . ثمة أمر آخر : لانسمع أي شيء بالتأكيد عن المستقبل عندما تخلق الثورة الفرنسية ( بعد عشر سنوات من إعلان وثيقة الإستقلال الأمريكي ) ثلاثيتها الشهيرة المماثلة لشهرة الوثيقة الأمريكية بشأن حقوق الإنسان : حرية ، مساواة ، أخوة ؛ إذ تنتمي هذه المفردات الثلاث لنطاق الإهتمامات الإجتماعية لكونها تمثّل مفردات إجتماعية بالكامل .

   إذن ، ماالذي تفعله السعادة في وثيقة الإستقلال الجيفرسونية ، وماالذي يعنيه جيفرسون بمفردة السعادة ؟

   السعادة مفردة غريبة في اللغة الإنكليزية ، وقد بلغ بها ذيوع إستخدامها مبلغاً بحيث بتنا قلّما نسأل أنفسنا عن الكيفية التي صيغت بها هذه المفردة والكيفية التي صارت بها هذه المفردة حاملة لذلك الطيف الواسع من المشاعر التي نقرِنُها في العادة مع تلك المفردة – مشاعر مثل : طيب العيش ، الإكتفاء والرضا ، السرور ، القناعة ، الغِبطة ،،، الخ من كل تلك الحالات التي تنتمي إلى عالم المشاعر الجوّانية ( الباطنية ) ، والسعادة في نهاية المطاف حالة يمكن مساكنتها وجعلها حالة ممتدة ؛ ولكنها في الوقت ذاته يمكن أن تكون مبعث دهشة إذا مافكّرنا فيها على أنها موضوعة ” بهجةٍ ” وحسب ، والحقّ أن هذه المفردات المقرونة بالسعادة إن هي إلّا معانٍ موسّعة خُلِعت على السعادة على إمتداد الزمن ؛ ولكن في الأصل فإنّ السعادة عنت شيئاً مادياً وموضوعياً بالكامل وليس مفهوماً يدور في فلك المشاعر والأحاسيس بأي شكل من الأشكال .

   ثمة العديد من المفردات ذات الجذر اللغوي المتماثل مع السعادة والتي تعني في مجملها حالة البقاء بوضع طيّب في عالم تسوده الرزايا ، كما تعني تلك المفردات أيضاً أن يكون الفرد محظوظاً خصّته الآلهة بحظوتها ورعايتها وجعلته راضياً بما جادت به الأيام عليه ، ومن اللافت للنظر الإشارة إلى أن المفهوم المبكّر للسعادة والذي ينطوي على حسّ الوجود الطيب والمتناغم ( والشائع على مستويَي المجتمع والعالم معاً ) يبدو المفهوم الطاغي في أعمال الفلاسفة الإجتماعيين .

   الشكلان اللذان نختبر بهما السعادة ( وأعني بهما الحظ الطيّب والمتعة التي نجتنيها من السعادة ) كانا سبباً في ذيوع صيت معنييْن مختلفين ومتباعديْن للغاية بشأن تلك المفردة ، ومثلما يمكن أن يتمثل المعنى المعاكس للحظ الطيب في الحظّ السيء بكلّ أشكاله الممكنة : العَوَز ، إعتلال الصحة ، الفشل والخيبة ،،، الخ ، كذلك يمكن أن يوجد العديد من الحالات السلبية التي يوصف بها الوجود السايكولوجي : عدم الإكتفاء ، عدم الرضا ، القلق ، فقدان السكينة ، الضغط ( العصبي والنفسي والذهني ) ، الكآبة السوداوية ( الميلانخوليا ) ، الإكتئاب المرضيّ ،،، الخ .

      السعادة منطقة رجراجة زلقة ، وهي مفردة صعبة التعريف – على خلاف الحياة أو الحرية – لأن من الصعب تثبيتها على أرض الواقع من غير أن تتملّص سالكة طريق الهروب ، وسيكون أمراً مستحيلاً أن نركن لأي تعريف للسعادة من غير الإستعانة بتلك المفردات المادية الضيقة النطاق التي قسر الفلاسفة الإجتماعيون للقرن السابع عشر وبواكير القرن الثامن عشر مفهوم السعادة في إطارها .

الهوامش

—————-

 

*  هذه هي صياغة جيفرسون الأصلية ، وبعدما عُرِضت المسوّدة على ( جون آدامز ) و ( بنجامين فرانكلين ) إقترحا إستبدال عبارة ” مقدسة ولايمكن نكرانها ” بعبارة ” بديهية وبيّنة بذاتها ” .

** جيفرسون ، في رسالة له إلى ريتشارد هنري لي ، 8 أيار 1825 .

Jefferson, in a letter to Richard Henry Lee, 8 May 1825.

*** جورج ماسون ( 1725 – 1792 ) : مزارع وسياسي فرجيني له دور عظيم في الفكر السياسي الأمريكي الحديث ، رفض التوقيع على وثيقة الدستور الأمريكي كما لعب دوراً مؤثراً في صياغة إعلان فرجينيا للحقوق عام 1776 . ( المترجمة )

 ****  تمّ إعتماد مقدمة ماسون من قبل إتفاقية فيرجينيا المعقودة في وليامزبيرغ في 12 حزيران ( 1776 ) ونُشِرت في صحيفة بنسلفانيا في اليوم ذاته .
__________
*المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *