كانت مسرورة من البحيرة ، ماؤها الهادىء ساعد على تلطيف الجو وتهدئة نفسها ، لقد أخذتها البحيرة بعيدا عن الضوضاء وعالم عروض الأزياء الصاخب، فاستطاعت أن تنام بلا اضطرابات ، كانت تنصت فقط لصوت ارتطام الموجات الرقيق .
شعرت بالسلام والوحدة والانعتاق والحرية، ليس الحرية فى ألا تفعل شيئا، لكن الحرية فى أن تشاهد وتسمع وتحلم .
لندن ، باريس ، نيويورك ، أسماء ، مجرد أسماء ، تعنى الإثارة ثم التشاؤم ثم الإحباط ثم العبودية، أسماء جعلتها على حافة الشعوربالشك فى كمال صحتها النفسية .
لكن هنا كل شىء كان هادئا : البحيرة ، الأشجار ، الكوخ، وكانت هى نفسها واحدا منها ، هنا تستطيع أن تمضى بقية حياتها ، هنا يمكن لها تسعد حتى الموت .
تتسلل الشمس عبر السحب السوداء المسرعة مثل مقدمة حرس جيش كبير، بل أكثر خطورة من الجيش، تطارد الموجات من قبل الرياح العذبة، لتندفع فى طريقها بالكاد من الجانب البعيد من البحيرة حتى ترتد تقريبا عند قدميها، فوق رأسها نعق غراب متنسك وهو فى طريقه إلى البيت– بصوت مضطرب وحيد، وفى الشرق كان هناك صوت الرعد
جمعت متعلقاتها وأشياءها على عجل وأعادتها إلى الكوخ، كانت مياه المطرقد زادت خلفها، وطقطقت الأوراق بمجرد أن وصلت تحت الأشجار،مبتلة ومبهورة النفاس جرت نحو باب الكوخ، وبمجرد أن فتحته هبت العاصفة .
وهناك عند الموقد وقف الرجل هزيلا و بغيضا :
– مرحبا .
كانت طريقة غريبة لتحية شخص غريب تماما كان قد اقتحم بيتها ، لكن ذلك كان كل ما فكرت فى قوله ، تحية عادية لشخص يبدو أنه كان يتوقع حضورها، ومن ثم ينتظرها ، ربما كانت تلك الطريقة هى التى فرضت نفسها هنا . سألت :
– أعتقد أنه كان لديك ملاذ من العاصفة أيضا ؟
لم يقل الرجل شيئا .
كانت مضطرة لأن تغضب من هذه الطريقة الوقحة فى التسلل إلى مملكتها ، لكن على نحو ما لم يعد الغضب مجديا ، كان الأمر كما لو كان الكوخ ملكا له ، ومرصودا له . أما هى فمجرد قادمة من الخارج هربا من العاصفة باحثة عن ملاذ عند بابه .
راقبته فى حذر منتظرة تفسيرا منه، لم يقل شيئا، ولم ينطق حتى بكلمة واحدة ، قالت :
– هل أصبت بالبلبل ؟
وقف محتشدا بجانب النار المشتعلة،يحدق فى الجمرات الميتة .
” مشت إليه .. …….
لكنه لم يتحرك بعد .”
بشكل غير متوقع اشتعلت النار واشتعل الحزن فى عينيه السوداويين .
” وركع وأصدر صريرا حزينا
” اشتعل وامتلأ الكوخ كله بالدفء “
الكلمات الصادرة منه فى هدوء و فى صوت خافت أدهشتها .قالت :
– عفوا ؟
لكن يبدو أنه لم يسمع ، فقط رجفة الأشجار وسط الريح وصوت المطرعلى قش السقف كسرا ذلك الصمت الغريب.
حاولت مرة اخرى :
– تبدو كما لو انها قد بدأت فى المساء ، هل تحب أن تجلس لفترة من الوقت ؟
تبعتها عيناه وهى تتحرك ، تخلع معطفها وتمشط شعرها .
” ……. ومن هيئتها
سحبت العباءة الساقطة وشالا
ووضعت قفازيها المتسخين بجوراها،وخلعت
قبعتها وتركت شعرها المبتل يسقط “
شعر، كان يقتبس شعرا .
بدا غامضا مثل شاعر ، محبطا مع مرارة حادة فى عينيه ويأس فى هيئته . كان صوته عميقا ومتخاذلا مثل وسط البحيرة حيث يجرى الماء أكثر قتامة .
ومع ذلك لم تكن هذه السطور سطوره ، لم تكن هذه الكلمات من تاليفه ، لقد بدت لها مالوفة على نحو ما . نصف متذكرة ، من المؤكد انها سمعت ذلك من قبل . سالت وهى تجبر نفسها على غجراء حوار :
– هل كتبت ذلك ؟
ابتسم ابتسامة مرة ، لكنه لم يجب .
انتباها شعور وهى تراقبه بانه قد سمح لنفسه بالدخول الى كوخها وهو يعلم أنها يمكن أن تعود ، لقد كان ينتظرها ، متوقعا قدومها . كانت متاكدة من ذلك ، ولأول مرة صارت خائفة.
حولت نظرها نحو النافذة ، لم يكن هناك احد بالخارج ، فقط المطر يضرب النافذة بلا توقف .
عرفت أنها لن تلجا أبدا الى القرية ، ولن يسمعها احد إذا صرخت . كانت وحيدة ، معزولة تماما مع هذا الغريب الصامت المخيف .
فجأة ، صوت تمزق فى الخارج جعلها تقفز . انشقاق خشب متبوع بصوت تكسير على الأرض .
” مزق قمة شجرة الدردار على الرغم من ذلك
وفعل الأسوأ بشجرة الفيكس على البحيرة “
تلك القصيدة مرة أخرى . نفس القصيدة . يا لها من قصيدة ؟ لماذا تناسب المشهد تماما ؟ ولم لم تستطع أن تتذكرها ؟
– يا لها من ريح مرعبة ؟
قالت جملتها بلا اكتراث بقدر ما تستطيع ، ثم أضافت :
– ربما ينبغى أن أتاكد من أن ….
كانت فى طريقها نحو الباب عندما التفت وهز رأسه فى بطء.
توقفت ، كما لو كانت شبه نائمة،غير قادرة على أن تأخذ خطوة أخرى بعيدا عنه .
قدر، قالت فى نفسها.هذا قدرى، لهذا خلقت .
لندن . باريس . نيويورك ، لا يهم أينما ذهبت، كان عليك أن تعودى إلى هنا، إلى هذا الكوخ، إلى هذا الرجل .
فى هدوء ، مشى نحوها ، خلفها ، ونحو الباب البلوطى الثقيل. أدارالمفتاح فى القفل ، أغلق المصراعان فى صمت خيم فوق النوافذ .
فى لطف ، فى لطف شديد ، امسك بذراعها وقادها نحوالموقد والنارالمشتعلة،كانا وحدهما، أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع .
” وفى الأخير جلست بجوارى
ونادتنى ….. ………….”
تلك القصيدة، تلك القصيدة اللعينة! كيف حدث هذا ؟ رجاء يا إلهى ! كيف حدث هذا ؟ رجاء رجاء دعها تتذكر .
: “…..عندما لم يرد أي صوت
لفت ذراعي حول خصرها
وكشفت عن كتفها الأبيض الأملس … “
لف ذراعه الأيسر حول جسدها بإحكام، اتغرست أصابعه النحيلة فى لحمها، بينما تربت يده اليمنى بعفوية على شعرها الجميل .
” ولكن العاطفة في بعض الأحيان تسود
كما لا يمكن كبح جماح وليمة ليلة مبهجة
وفجأة يشحب تفكير المرء تماما
من أجل حبها ….. …… “
حب ؟ لم يكن هذا حبا ! لقد كان هذا جنونا .خبل ، كان مخبولا . لقد أخذ شيئا من الجمال وجدله بالواقع الجنائزى .
” تأكدت وأنا أنظر أن عينيها “
لمعت عيناه بوهج مجنون .
” مبتهجتين ومفعمتين بالحيوية،علمت أخيرا
أن بورفيريا تعبدنى …… “
عاشق بورفيريا! قصيدة براوننج! عرفت ذلك! يا إلهي، لا! لا! لا!
” فى تلك اللحظة صارت لى، جميلة لى
كاملة الطهر وطيبة . . ………. “
أرادت أن تصرخ، حاولت أن تصرخ، لكنها لم تستطع. كانت أصابعه حول عنقها ولم يخرج أي صوت. قاتلت من أجل الهواء لكنها لم تستطع سوى أن تشعر بجسدها يسقط ، يسقط. حاول عقلها الهروب من الظلام ولكن كل ما سمعته كان صوتا، صوتا بعيدا يتلاشى، و نشوة .
” ….. ….. كل شعرها
فى ضفيرة واحدة ذهبية طويلة،
لففتها ثلاث مرات حول عنقها الرقيق
وخنقتها ………………………”
( النهاية )
المؤلف :
جيمس وود : كاتب أمريكى عمل فى مجال الإعلانات لأكثر من ثمان سنوات ، ثم تقاعد ليتفرغ للكتابة ، كتب اكثر من مائتى قصيرة نشرها فى معظم انحاء العالم فى أمريكا وانجلتر واستراليا.
المترجم : د.محمد عبدالحليم غنيم ، مترجم و كاتب قصة وناقد أدبى من مصر