مُدركات البلاغة الوجدانية في رواية “حب دافئ تحت الشمس”

خاص- ثقافات

*كريم ناصر

 

     الوظيفة في البناء السردي:

 

ليست هناك بنية روائية لا ترمي إلى إثارة المعاني الدلالية، ولا تضع في الحسبان موضوع التأويل، انطلاقاً من هذا تتناول رواية الكاتب مصطفى الحمدواي موضوعاً شائعاً نستطيع أن نشبّهه بالمقامة الرومانسية الساحرة التي يكون أحد موضوعاتها البحث عن البلاغة الوجدانية بغية اكتشاف أسرارها وسبر أغوارها الانسانية..

ربما لا يشير المحتوى الرومانسي بالضرورة إلى الوقائع الموسومة، ولكنه يتوسّع في ابتكار موضوع تخيّلها، وعليه فإنَّ مجمل الأحداث تخضع لآلية أدبية وتراكيب وجدانية تتضمّن طابعاً مختلفاً في طبيعته..

وهكذا يظلّ السارد ـ البطل ـ في حالة تضادٍّ مع نفسه، ويظلّ كذلك في حالة هيام توحي أنّها منتمية إلى الواقع كقيمة تفرض نفسها على رجل يروم وصل حسناء افتراضية.

 

تبدأ الرواية من السطر الأول بمحادثة افتراضية تحمل دلالات قوية، وتنتهي بمونولوج يبحث فيه ـ البطل ـ عن حل لمعضلة صار لزاماً عليه أن يطوي صفحتها من خياله..

يحمل هذا الاستهلال في طياته صورةً أدبيةً داخل سياق ما يسمّى بالتيه الالكتروني ـ الإفتراضي ـ إنّها الإنطلاقة إلى فضاء حكاية تدور أحداثها عن لقاء قصير بفتاة فرنسية يخذلها ـ البطل ـ بسلوكيته الجافية، حماقة جعلته يندم عليها، لذلك لا يزال يجد نفسه حاملاً روح الشرق في ثقافته، وإنَّ أحداث الماضي ظلّت تلاحقه.. والمفارقة هنا تتعلّق فقط باختلاط المفاهيم  والاستحضار الذهني لصور ريم التي غدت صيغةً طبيعية، والإنتقائية الحرفية التي تعيق نمو جملته، ودلالة تقويمنا هنا تبجّحه قدام زميله باتريك وتباهيه ببعض الصور التي لا شك في أنّها ستجلب كما يجتهد الكثير من الحسد والغيرة.

 

بهذه العبارات يعمل السارد ـ البطل ـ على تحشيد ألفاظ كمحاولة منه لتحطيم كبرياء ندّه الفرنسي باتريك، يمكن أن تفي التعابير بالغرض كلياً إذا تحقّقت وظيفتها الدلالية في التراكيب اللغوية، أو بجزء منه إذا انعدمت الرؤية، ستكون الأفكار أكثر تألقاً حين تتحقّق الوظيفة في البناء السردي، هذه البنية التركيبية تعبّر بداهة عن تجليّات لغوية يراد بواسطتها تقديم توازن منطقي بغية زحزحة كبرياء الفرنسي، في حين يستطرد صاحبنا ـ عمر ـ السارد نفسه ليثبت بالبرهان لندّه الفرنسي سليل نابليون بونابرت كما يصفه: إنّ جمال ريم يفوق جمال كارلا بروني والملكة الغابرة انطوانيت، والممثلة برجيت باردو، وكلّ أميرات الدنيا وملكات جمالها.

 

كان يلتمس من هذا التفاخر كسر هيبة صورة المتعجرف الذي وجد نفسه مدعواً لضبط إيقاعه، ويبقى بعد هذا، الإستعارة تنظم آلية الأسلوب وتسمح بإدراج الأسماء ليس إلّا لإغاظة المومأ إليه الذي يشعر السارد بتأثيره السالب..

وعليه فإنّ البطلة المغربية ـ كريمة ـ في الرواية تبدو وكأنّها المتنفّس الذي يؤوّلها عمر بهذا المعنى التأمّلي: فالحبّ عنده إذاً استلطاف نفسي وحميمية تلقائية، وربما يؤلّف رابطة شمولية مشتركة..

ستكون العلاقة الجسدية مع ـ كريمة ـ خلاصة لرومانسية جنسية:

حين تتلاقى القلوب وتتناثر الضحكاتُ الساحرة في الأرجاء كوقع رخيم..

يحمل السردُ خصوصيةً جوهرية ربما يستلزم التعبير عنفوان جسد يغدو بليغاً بتمفصلاته الباطنية، أي من دون إطالة أو تكرار ممل..

لا جرم أنَّ الدلالة تتمثّل في الصيغة التي تناقض الصورة الواقعية في حياة معطّلة لم يتمكن منها، نفهم من ذلك أن السيد عمر يعترف سلفاً بولعه بصورة ما في لحظة مباغة تفرض نفسها عليه كانرياح نفسي..

فالمعادلة هنا تتكون من تناقض يمثّل الاتجاه الذي يقوم عليه الحدث ليبقى المدلول قابلاً للتأويل:

“إنّها تحبّ الحرية والمساحات المفتوحة على الحبور والانشراح، بينما كنت أنا المثقل في الداخل في ذلك اليوم بصورة ريم” ص26.

 

لم نلاحظ أثراً للحشو ولو ظاهرياً، ثمّة وصفٌ رصينٌ يبرز جلياً في أثناء استقباله كريمة في الحديقة ـ الغابة ـ وعليه فإنّ هذا المفصل الغرامي لا يني يخلق الدهشة ـ المتعة ـ لتغدو مغزى غريزياً لا يكون أكثر ألقاً إلّا بالرجوع الدائم إلى أحلام الطفولة وطقوسها، أو إلى كيمياء الحبّ كونه لا يزال سجين تلك الصور التي اخترقت مخيلته، فلا غرابة أن يكون الوصف جزءاً من السرد نفسه، وتلك خاصية الرواية، لأنّها تمثّل الفقرة الأساسية في التعبير البنيوي ليعوّض عن نقص اللغة في بعض التفاصيل.

 

خصوصية المرأة ونزوعها النفسي:

 

تبدأ المواجهة وبالتحديد من هذا المفصل فيقول البطل:

“كنا نملك فعلاً انتقاء لحظاتنا التي نعيشها بكل وهج الدهشة والمتعة التي تزرعها داخلنا الحرية التي بنيناها بإصرار كريمة أولاً وحتمية مواجهة إكراهات واقع مرّ لا سلاح لنا فيه غير المواجهة والإنتصار” ص29.

 

تمثّل خاصية المواجهة المزعومة الفعل الأساسي للحدث الذي تسعى إليها الرواية لتكتسب قيمتها الفكرية، فلم يجد العاشق ـ الولهان ـ في كريمة مآله الشخصي، وإن كانت محوطة بأريج اللذّة، ولكي يكون للصيغة معيار فيحتفظ السرد بمستويين حيث ينتفي المستوى الأول بطبيعته في مساحة تقود إلى وله أعمى، ويتحقّق المستوى الثاني في ضبابيته المزعومة حيث يرى عمر نفسه غارقاً في عشق وهمي لفتاةٍ تشبه برج إيفل في معناه بالنسبة إلى الكاتب الفرنسي (دوموباسان) الذي كان يقول أن أكثر شيء يمقته في باريس هو برج إيفل.

لا شيء يدلّ على تغيّر ما في الواقع إلّا أنَّ ذلك لا يمنع السيد ـ عمر ـ من أن يبحث بداهة عن ثغرة بلسمية ليشفي آلام الغربة والوله وخيبة فصول الواقع المرّ على حدّ تعبيره..

في وسعنا أن نكتشف تطوّراً أُسلوبياً خالصاً يجسّد حالة الهيام الجسدي، كما يؤكّد لنا مستوى السياق هنا:

“كنّا نمارس جنوناً لذيذاً لا ينغصه وجع الحب وآهاته القاسية، وكانت الحياة تمضي هادئة وئيدة مثل قارب فيتنامي يسير على صفحة نهر هادئ” ص57.

 

يظلّ هذا الإحساس المتغلغل في الروح ملازماً الجسد ليس إلّا لتأطيره بلغة تحقّق الرغبة مهما انفرطت السعادة، فما أن تقتحم الذكرى حياته حتى تحرّك مشاعره أُنثى ما بموجب علاقة صعبة، وهذا ما يعطي الانطباع بتسليمه لإبعاده عن الفوضى، فالتوغّل إلى عالم السرد والسعي إلى كشف أسراره وتشذيبه من الحشو ومن التكرار يظلّ مرهوناً بالخيال السحري في البنية التركيبية.

 

وفي تحليل علمي يطهّر حالة المرأة وتركيبتها النفسية نقرأ مفصلاً ينزع إلى تشريح سايكولوجيتها، فلا عجب أن يكون لاختلاف رؤيتها خاصة وجود خصائص نفسية وعضوية وبيولوجية مختلفة يصعب غالباً فهمها، كما يؤكد ذلك الكاتب في مقاربة متفردة..

كلّ تعبير ينبع من أحساس نبيل يزيد الارتباط بفضائه الرومانسي، فها هو يعتقد أنَّ ثمّة لعنة ساقت كارولين إليه في صباح يحمل أريج عطرها الأنثوي الساحر عطر Hot Couture  أو عطر  Baby Doll

“إلى أي مصير ستقودنا مغامرة اللوفر هذه؟”

سيكون الحديث رائقاً، وموضوع كارولين يظلّ نقطة انطلاق لتحليل شخصية السارد ـ نفسه ـ فيصفها بأبشع الأوصاف التي تنطلق من صلبه، ويكرّر هذه الديباجة نفسها تقريباً لكريمة أو لغيرها، ويشرح ذلك منطلقاً من حالة هيام يعترف أنّه لم يشعر بالنشوة حين يكون سجين ذكرى كريمة بسبب [هموم صور ريم وعشقه لها وغربته الداخلية التي تحرق انفعالاته]  كما يجتهد.

 

وفي هذا التحليل العلمي إشارة إلى خصوصية المرأة ونزوعها النفسي، فالمرأة تبدو وكأنّها ترمي إلى لغز معين: ولا تطلب سوى الاهتمام بها والميل إليها أو مغازلتها، وكون هذه النظم تمثّل الضرورات القصوى عندها، فعلى الرجل إذاً ألّا يغفلها ولا يتجاهل بما تحسّ به وتسعى إلى إشباع غرائزها النفسية والروحية منها، وتعزيزاً لتطعيم الفكرة يأتي السرد بأمثلة لتجسيد بهاء المرأة، وقوة إثارتها، أمّا الرجل فضعيف إزاء جسدها الذي لا يني يقهره في نهاية المطاف،

نستل هذه الاشارة من أجواء هذا الـmonologue  النفسي الخاص:

 

“تجيد المرأة عملية الإنتقام حتى لو كانت تهيم بك هياماً لا مثيل له، بل تستلذ بذلك” ص82.

 

ونستذكر من أجواء السهرة (+كريمة) معاني الحب الدلالية: ما إن طلبت كريمة تفسيراً دقيقاً عن الحبّ، حتى أرشدها إلى قراءة كتاب طوق الحمامة لإبن حازم الأندلسي، كتاب العشق والحبّ والهوى والعلامات والإشارات، وربما لا ندرك جمال التعبير إلّا بعد أن نحسّ بنتاغم قوّته التعبيرية، قوّة الجُمل البلاغية التي تأخذ مساحة غير قليلة، وبتناوله لأزمة كريمة الفتاة المنطلقة الذربة اللسان والمتحولة بتأثير ما، نصل إلى ذروة تأويلنا..

وقد نرى في فقرة أخرى أرفع مثال للغز الذي تمتلكه المرأة المتمثّلة في القوة والضعف، فالمرأة في حقيقتها تمتلك مفتايح سحريّة لا يمتلكها الرجل، فلكلّ عبارة دلالة ـ تقدّم جواباً شافياً إلى المتلقّي الذي لا يمتلك أرضية لغوية ـ مثلما لكلّ فكرة قيمة رفيعة على رغم من إقرار الرواية بتناسق البديهيات.

 

ولن نبالغ إذا قلنا إنَّ الرواية قد تركت صدىً جميلاً في نفوسنا، ويرجع ذلك إلى استعمال الجُمل الأُسلوبية التي تجعل اللغة تبوح بأسرارها لتزوّدنا بموضوعات نادرة، ولمعرفة ما يدور في خاطر البطلة الفرنسية ـ كارولين ـ نستنتج هذه الاستعارة الوجدانية من طريقة تعبيرها إنّها تصوغ عباراتها لتعبّر عن نزوعها القوي، وتقول إنّه معيار المبادئ السامية، فهي لا ترى في رجال الأعمال غير ثلّة متورّطة في صفقات غالباً ما تكون مشبوهة، تقول لعمر:

 

 “نحن أفضل منهم لأنّنا نمتلك مبادئ سامية في الحياة” ص102.

 

ولا يكتفي القاص بالبحث عن مكمن الفرق بين الجنسين، بل يذهب إلى تشريح البواطن وكشف الخبايا التي يمكن أن ترمز إلى لغز دلالي، وفي عتبة مقهى النجمة الحمراء يخاطب كارولين في مونولوج عميق الدلالة: ليعترف أنّ المرأة في النهاية:

 

“تظلّ دائماً سجينة وهم يحوم حول حجم جمالها الحقيقي” فقط.

 

والواقع أنَّ الجُمل البلبغة قد ترفع من قيمة البنية العميقة لتتساوى مع العناصر المشاركة في بناء الرواية، ونحن ندرك أنَّ البلاغة جزءٌ من المنظومة اللغوية، وهذه خلاصة عن رؤية البطلة الفرنسية كارولين: فهي تطلق العبارة عارية ومجرّدة إلّا من الحقيقة، وفضلاً عن ذلك فهناك استعمال ذكي لحالة الشبق، ويقابله إحساس بالذنب يسبغه البطل المغربي على نفسه، ومن المفارقات أن تصبح المرأة لغزاً إلّا إذا كانت منتمية إلى عالم له معايير، وهكذا تنطبق هذه الصفة على المرأة المميّزة التي نحن بصددها.

 

عندما يتعلّق الأمر بتحليل المستوى الدلالي:

 

تتحقّق لغة الرومانسية بدالتها الوحيدة، فيمكننا أن نكتشف في السرد خيوطاً تمثّل الإتجاه السيكولوجي الدلالي، وقد يكثّف السارد الصور الدلالية لتندرج في إطار يرمز إلى كلّ أنثى بسياق ينطلق من إحساس جمالي، فكلّ جملة ــ تحتلّ حيزاً ماتعاً ــ تصبح ذات معنى، ففي حالة الفراق تزداد لهفة الشوق كما يؤوّلها السارد في شريط الحكاية، ولا بدَّ من أن يضمن كريمة لإعادة معادلة التوازن إلى علاقة حيوية حيث يتطلّبها الشوق نفسه. 

ومهما كانت طبيعة الجُمل الطارئة، فيظلّ البناء محافظاً على تناغم قوّته، وقد يعطي مفهوم التمرّد على التقاليد البالية التي تذلّ الإنسان انطباعاً بأهليّة قيمة المحتوى، فما يحدث على جبل الناظور مثال صارخ للأعراف المعمول بها في ضريح سيدي مفتاح الذي يؤمّه زوار من أماكن مختلفة، ولا شيء يفنّد زيف الادّعاء القائم على البركات المزيفة إلّا برفض القيم القديمة والنيل منها وكسر قاعدتها ولو افتراضاً بصفتها تصورات نابعة من ترسبات المعتقدات الشعبية البائدة والإيمان بالجن والأرواح الشريرة كما يعدها السارد، ويتّسع حينئذ التأويل بإدخال عنصر الخرافة والتصورات عن وجود أشباح لتشويق القارئ وإمساكه لمتابعة القراءة، وما قاله مقدّم الضريح يعدّ وصفاً سحرياً بالمعنى السالب تماماً، فيمكن أن يقصَّ لنا الحكايات عن [غرفة تطلّ على البحر، وعن أرواح البحارة، وأشباح القراصنة والقتلة وعصابات النهب والسرقة، وعن جثث جريحة مقطوعة الرؤوس أو الأطراف تجول في كبد الليل، وعن أشخاص بألبسةٍ عجيبة يشربون الخمر ويتحدّثون لغة لا عهد لهم بسماعها]..

والحق أنَّ السرد متقن، فكلّ جملة نلاحظها تحمل أثراً أُسلوبياً في مجال الاستعارة أثراً يكشف بجلاء براعة في صوغ الدلالة عن بعض التصورات التي تغذّي الخاصيات السردية.. 

فالسرد عموماً يعمل على تقوية المحتوى، ويؤلّف حِكَماً بليغة لتوريد أمثلة، أو ينسج جملاً بلاغية ترقى إلى مقام البلاغة التعبيرية، فضلاً عن أمثلة من التشبيهات البلاغية، ولهذا الغرض يختار شخص ـ زوباي ـ كمثال لتصويره بالجرو الهزيل الجائع، أو الرجل المعتوه غير المتحكم في تصرفاته، ويرسم جسد المرأة ليدلقها كمثال لتصويره بعصفور تبلّله الأمطار، ويعرض أمثلة من البنى السردية التصويرية المحكمة مثل:

 

“أخذت يد الغجرية الشقية التي تعيش خارج ذاتها” ص172

أو

“بدت السماء رمادية وهو اللون الذي انكشف على البحر وأفرغه من حلته الزرقاء التركوازية البهيجة” ص192

 

أمّا حلم الصياد الكبير بالهجرة، فهو ما يميّز السرد ويضبط إيقاعه ويقدّمه كلوحة بمزية جمالية، مع أنَّ نهايته ــ أي الصياد ــ كانت بكلّيتها مأساوية بكل تفاصيلها، فضفّة الصياد الحالم تعدّ إضافة خالصة لتقوية بنية الرواية.

نحن إذاً بصدد دراما فـهكذا [يختزل الصياد قويدر عنف أزمة متشابهة، ويختزل السارد ورطة حب يتوزّع بين صور ريم ومأساة كريمة الواقعة في حب لا خلاص لها منه]

 

قد يكاد يكون المونولوج الداخلي تسويغاً لخط الرواية، والغاية منه تشذيب السرد من الانزياح المفرط بغية تكثيفه في الخلاصة، وهذا الفارق لا يأتي اعتباطاً، إنَّ تحطّم حلم الصياد ـ قويدر ـ كان خلاصة لوضع إنساني معين:

“ولكن قد يكون عزاؤه الوحيد أنه مات في أحضان البحر”.

 

وقد يزيد من تقوية السرد عمق التراكيب البلاغية التي تضيف إلى الرواية إبداعاً جديداً:

 

“بدأ الرجل وكأنه إعرابي من سكان الصحراء الذين لم تقع أعينهم قط على فتاة شقراء ترتدي لباساً يبدي الكثير من مفاتن جسدها التي كانت قمينة بإيقاظ كلّ ثعابين صحرائه المسالمة” ص163

 

سيكون لسيرة الفتاة الغجرية شأن يصوّره السارد تصويراً فذّاً يسمح بالتعبير عن الخيال الجامح وعن الواقع نفسه، وما يخصّ الرجل ـ الطوارقي ـ وبغيته والمعتوه ـ زوباي ـ وبغيته أشبه بشذرات سريالية تدفع السرد إلى الذروة، سلسلة من الجمل المفيدة ما فتئت تقوّي البنى السردية لتظهرها خالصة:

 

“غالباً ما أعتبر حزن المرأة الجميلة جمالاً في حد ذاته أيضاً” ص169

 

فلن يكون الـ monologue نقطة انطلاق السرد الوحيدة إذا ما أطلق العنان للخيال الذي يتنامى في بعض تجلّياته، والحقيقة أنَّ الخيال ينمو باطّراد في أثناء صيرورته في أكثر  سياقات الرواية، فالسرد ليس منهجاً ولا مقوّماً أساسياً في بناء الرواية، إذا ما أدرجنا عناصر البناء المكوّنة له كالمونولوج والخيال والبلاغة..

وبهذا يمكن أن تكون مُدركات البلاغة الوجدانية غالبة لأنّها تصوغ مفارقة رومانسية فيعطي السارد لكل واحدة دوراً ضمن مستوين يحمل الأول مفهوماً إيروتيكاً، ويغلّف الثاني بمفهوم ميتافيزيقي ما يقودانه إلى الإزدواجية حفاظاً على توازنه النفسي بين كريمة المرئية وريم الافتراضية، وكون السارد لا يخفي قطعاً التجليات الوجدانية، فيقوم تارة بتأطير داخله المحترق بتعابير جمالية وتارة بخيالات يجعلها فاصلة للنحيب على كريمة في مفرق حب يستوطن جزيرة نائية..

 

ستكون الإشارة إلى الأغلاط اللغوية عابرة لا يلزم تدوينها، لأنّها لا تعدو مرجعاً، إذا ما نظرنا إلى الوحدات السردية التي تمنح الرواية عمقاً جمالياً ماتعاً، وربما نستطيع من حيث المبدأ تشخيص السياقات التي تفتقر إلى التكنيك اللغوي، في حين أنَّ هذا الموضوع لم يكن من صلب دراستنا..

وإذا ما توسّعنا بالتفسير نجد أنَّ علاقة السارد بالبطلة ـ كارولين ـ تنتج وعياً جمالياً خلّاقاً تنسجه عبارات مقتضبة يبقى علينا تفكيكها، لأنَّ كلّ فقرة تتضمّن دلالة موحية تبحث عن كينونتها، ولو تذكّرنا الاستهلال في مطعم المنصورية لوصلنا إلى تأويل السارد نفسه بما يفيد “أنّ ثقافة الفرنسيين تقتضي الإقتصاد في الغزل، والتعبير بكلمات قليلة”.

ففي المونولوج الداخلي يستحيل السرد أداة ذات أسبقية رومانسية، وإذا ما افترضنا المونولوج ثمرة السرد وأداته الجمالية، فإنَّ ذلك يأتي بالتدقيق لتمتين بنيته وترشيقها، نحن لا نريد أن نخوض في الكليشيهات التي جاءت على لسان عمر على نهر السين، علينا أن نشير بالدلالة إلى المعاني التي حُظيت بها الحسناء (الافتراضية) فماذا نعرف عنها وهل حقاً هي من تقوض لحظات يأسه القاتل وتجعله غاضاً الطرف عن غيرها؟

 

في حضرة كارولين:

 

كانت كارولين في انتظار المدعو عمر لكي يبوح إليها بكلام يكون له معنى:

مع أنّه بالتحديد لم يرغب في اظهار تلك الحيوية الرومانسية، فتستطرد:

“مع ذلك انتظرت أن تقول تلك الكلمة خصوصاً أمس بمطعم المنصورية بطابعه وطقوسه الموحية بالدلالات العميقة الموحية بالتقاء الشرق والغرب، كانت تلك الكلمة كفيلة بتجسيد نوع من التوحد الذي ينبغي أن يسبغ الحياة في باريس” ص246

 

حين تتضارب المشاعر بين عمر وكارولين:

 

يقول عمر:

“كيف ألزم نفسي بشيء لا أؤمن به ولا وجود له في ذاتي أصلاً” ص247

ويستدرك أيضاً في أثناء الحوار معها:

“لماذا نسجن حريات أحاسيسنا في قمقم سحري؟

لماذا لا نترك لأنفسنا العنان للمتعة التي هي أساس وجودنا” ص248

فترد:

“أشعر كأنك تحاول مخادعتي” ص 249

ثم تستطرد لتصوغ أقوالاً غير عقلانية تخرج عن سياق الموضوعية.

 

يمكن التعبير عن حالة الوصل بسلسلة من الخيالات يفترضها السارد لتتبدّى كارولين كطيف نوراني ساحر، ولو كان ذلك من صناعة الوهم، ويمكن التعبير عن الأشياء بدعوى التأويل، سيكون الوصف بليغاً حين يتراكم عليه الثلج ويحوّله إلى عمود كهربائي أو إلى شجرة يابسة،

 

قلّما يدوّن كاتب ذاته ويحمّل فعل الضمير قيمة لا تنفصل عن مضمونها، ولتحقيق صورة مثلى للفرد ـ للسارد بعينه ـ فيجب أن يأتي ببدائل للبرهان على حسن نية من باب تأنيب الضمير كنوع من جلد الذات لانعدام عنصر التوازن الذي يتحوّل إلى نقص مطّرد في دلالته السالبة في مونولوج داخلي يخص البطلة الفرنسية كارولين معياره اعتراف بالتعبير عن حزن دفين مماثل، وعن لعنة تصيب الصميم:

“أية لعنة أصابتنا لنفترق؟”

وبهذا نخرج بانطباع عن بلاغة تتخطّى وظيفتها حدود المعيار، باختصار إنّها بلاغة وجدانية خالصة تسمح بالانزياح قليلاً لتحقّق دلالتها في مجالها كظاهرة عاطفية..

من الملاحظ أنَّ السياقات التعبيرية المتوالية بما تحمل من مكونات دلالية قد تستعيد وعيها العاطفي من قيمتها، بمعنى أنّها تمثّل القيمة المطلقة بكلّيتها، ويسوق السارد وصلةً رومانسية في سياق يظهر فيه قوّة المرأة في رقتها، وليس بقهرها للرجل بأيّ شيء آخر..

 

هكذا يعمل المونولوج الداخلي على اختزال الفكرة، ويسعى إلى تقنينها لتكون الدلالة أوسع من قيمتها دون الإبتعاد عن الجوهر ذاته، وكأنَّ الهواجس تتحوّل إلى مفارقات عاطفية، حيث يكشف المونولوج في سياقه عن أسبابها التي تتجلّى في طريقة استحسان البطلة المغربية ـ كريمة ـ وفي الإغاظة من استفزازات بيرنارد في حين نرى أن تركيب الكلام الوارد حسب التسلسل السردي يخصّ كارولين..

 

لا يمكننا في الواقع تجاهل الوحدات التعبيرية ما دامت تحتفظ بمعانيها، وهذا يكفينا أن نقتنع بدلالة الأشياء، إنّنا نجد ضالتنا في المعاني التي تكشف عنها الصيَغ التركيبية البلاغية بوصفها عناصر من مكوّنات السرد، ولا يقل أثرها في أيّة واقعةٍ أدبية حين تبلغ مداها العميم كما توحي بذلك الفقرة (الفقرات) العاطفية التي يدوّنها عن فرح كريمة وحبورها..

 

لا تنمو اللغة إلّا بعد تقوية أداتها، وما عدا ذلك تصبح إمكانية تطوّر تراكيبها مستحيلة، ومن أجل إعادة السرد إلى المعيار فلا بدّ من العمل إنطلاقاً من هذه الخاصية، فهناك إذاً تقنيات يلجأ إليها الكاتب لتنظيم عناصر السرد، وللإنتقال منها بعد ذلك إلى إزاحة ما ليس سرداً خالصاً لا يلامس روح العمل الأدبي، هذا ومن منظور آخر حيث يسعى الكاتب إلى خلق بنية قويّة لا تنفصل عن بنائها اللغوي، ولا تتناقض صيرورتها بكيفية تسمح للبلاغة أن تساهم في ضبط إيقاع العبارات..

هكذا نحسّ أنّنا نكتشف تناغماً فردوسياً يحمل أريج الزهور، ويستعير من الشعر خاصيته، وألقه الجمالي ليصبح قطباً لموضوعٍ وجداني خالص عذب الواقع واللحن.

وما فبركة حكاية بيرنارد إلّا لإثارة عواطف السيد عمر، ولا تنكر كريمة أنّها استعملت الأول كورقة لتخرج بها من أعماق الثاني بذرة الحبّ التي كانت تحتاج إلى قطرة ماء لتنمو كشجرة حبّ وارفة الظلال..

 

هكذا نرى أنَّ بنية الرواية غير قابلة للتجزئة، ما دامت تجسّد القيمة الصادقة بالنسبة إلى الوقائع، وهذا اعتراف ضمني لا يمكن انكار موضوعه الدلالي، وخلاف ذلك يصعب التأويل، بل يمكن أن تنشأ ثغرة في التحليل قد تعرقل مرونة عملية البحث، فالسيد عمر يدرك أنَّ حياته التي رسمها مع من تدعى كريمة  “ليست قصة قصيرة تنتهي في النهاية بنقطة نهاية” كما يقول.

 

لا بدّ من حسم المعضلة التي يرى في نموّها عنصراً يزيد غالباً من قلقه النفسي، وهذا حقّ طبيعي، وليس من المفارقة أن يمحو أُسطورة ريم نهائياً من ذاكرته، ويخمد حرائقها المشتعلة، هذا ويمكن أن يعبّر عن ذلك احترازاً باختياره الطريقة المناسبة لطي صفحتها الافتراضية من خياله، وللتحرر من اللذّة والعذاب والوهم..

وبالنظر إلى كلّ تلك الجماليات يسبغ الخاتمة طابعٌ آليّ صرف لا تندرج قيمته في سياق السرد الخالص، أمّا عملية احتراق البيت بصيغتها المعهودة، فلم تضف شيئاً جديداً، كان من الممكن أن يتفنّن الكاتب في اختيار حدث خارج عن سياق البديهيات كما عليه الحال في الخاتمة التي جعلت من الفعل الدراماتيكي هدفاً مناقضاً لعنصر الإمتاع، إذا ما ربطنا روايته بالخط المتسامي الذي يميّز أُسلوبها الرومانطيقي المتماسك.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *