القيم الجمالية تحرّرنا أيضاً

*محمد الأسعد

نلمس في كل جوانب الحياة المادية آثار الثورات العلمية، ومع أن آثارها في الجوانب الروحية والفكرية تتأخر أحياناً، أو تكاد تكون معدومة في المجتمعات المتشبثة بتقليديتها، إلا أنها تتمدد شيئاً فشيئاً وتنتصر في نهاية الأمر على أكثر البؤر عتمة. السؤال هو: ماذا عن الثورات الأدبية والفنية، وهل يمكن القول إنها تماثل الثورات العلمية؟ أي هل تؤثر في العقول والأفهام والمخيلة الإنسانية أيضاً؟ أم أنها تظل بما تمثله من اكتشافات وابتكارات جمالية جديدة، عاجزة عن تحريرنا من سطوة الجماليات التقليدية؟ عاجزة عن ترجمة نفسها إلى إعادة نظر في القيم إجمالاً، وفي نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى العالم؟ أي عن المساهمة في إنقاذ العالم كما يرى الروائي الروسي «ديستوفسكي» في عبارته الشهيرة المتداولة «الجمال سينقذ العالم»؟

في أبسط تمييز بين الجماليات الحداثية والجماليات التقليدية، نرى هذه الأخيرة تقدم صورة للعالم جاهزة في شتى الفعاليات الأدبية والفنية، في الرواية كما في الموسيقى والشعر والفن التشكيلي والمعماري، نابعة من قوالب معرفية ثابتة موروثة، لا تتساءل، ولا تمنح المتلقي أو المشاهد فرصة لتشكيل فكرة ذاتية عن الشخصيات الروائية أو القطعة الموسيقية أو ما يسمع من شعر أو يشاهد من لوحات؛ الجماليات التقليدية مغلقة، يمكن أن نوجزها في المنظور التقليدي، المسمى منظور عصر النهضة حيث بلغ ذروته، في الرسم والتصوير، الرؤية من ثقب في جدار ينظر منه المشاهد إلى غرفة مغلقة بثلاثة أبعاد. على النقيض من ذلك تسعى الجماليات الحداثية إلى تغيير القوالب المعرفية، باستجابتها لتأثير الثورات العلمية الحديثة في الفيزياء، كما تمثلها فيزياء الكوانتم وما تبعها من اشتقاقات، والثورات الأخرى في علوم النفس واللغة والفلسفة والبصريات.. وما إلى ذلك من ثورات فتحت المجال واسعاً للتساؤل، واستبدلت الاحتمال باليقين، والواحدية بالتعددية، وسمحت بظهور جماليات يمكن أن تدعى الآن جماليات التنافر والتشظية بدل جماليات الانتظام والوحدة والانسجام، أي أنها خلقت مفاهيم جديدة كل الجدة تختلف اختلافاً بيناً عن مفاهيم التقاليد الموروثة.
وأيضاً يمكن أن نوجز هذه التغيرات الجمالية في المنظور غير التقليدي في الرسم والتصوير الذي ابتكره فنانو الانطباعية والتكعيبية والتعبيرية التجريدية.. وبقية مدارس الفن التشكيلي المتنوعة تنوعاً مدهشاً. وهو منظور أساسه عدم يقين الفنان بما يراه، كما عبر ذات يوم الفنان الفرنسي سيزان الذي شهد أمام ناظريه كيف تبدّل تنقلات الضوء المرئيات، فكان لابد أن يرى الجبل على الصورة التي رأيناها في لوحته؛ هو جبل ولكنه ليس جبلاً في الوقت عينه.
* * *

هذا التغير لم يحدث في الغرب فقط، كما قد يفهم من إشاراتنا، بل كان تغيراً شاملاً لم يترك بلداً في مأمن من تأثيره. لم تبقَ زاوية في الكرة الأرضية لم تمسها الثورات العلمية، وأقرب مثال الشرق الذي يجاورنا الذي مسته وغيرته. وكذلك الأمر مع الثورات الجمالية. ويتضح من قراءة صفحات القرن العشرين الصاخب، أن الوطن العربي شهد آثار كل هذا في الجانبين، جانب العلوم سواء كانت علوماً صرفة أو علوماً إنسانية، وجانب الآداب والفنون. ولكن الملاحظ أن علاقة الإنسان العربي تغيرت بالعالم من حوله عملياً، أي أنه تعرض لتأثير التقانة العلمية وما جلبته من مخترعات على أرض الواقع، إلا أن هذه العلاقة على الصعيد الفكري لم تكن واسعة، واقتصرت على فئات قليلة. مما عطل إحداث تأثير يشمل النظرة إلى العالم ومكان الإنسان فيه، وتفعيل القدرات الأدبية والفنية لتتجاوز القيم التقليدية على مستوى جماهيري واسع. من هنا ظل للتقليد سطوته وقدرته على فرض رؤيته وقيمه على الأجيال جيلاً بعد جيل. ولعل تقييماً علمياً وواقعياً لحصيلة الحراك الفكري والاجتماعي العربي خلال قرن مضى على الأقل يمكن أن يظهر فقر حصيلتنا من الحداثة التي قلبت العالم من حولنا، والغرابة التي تميزنا؛ أن نكون في العالم وألا نكون فيه في وقت واحد معاً.
وفي انتظار أن تجرى تقييمات من هذا النوع، نود طرح هذه الفكرة البسيطة؛ إن ما جعل لثورات العلوم والآداب والفنون هذا التأثير الشامل في الغرب وبقية أرجاء العالم، وجعلنا محرومين منه، هو أن هذه الثورات عملت عمل المنارات التي تسلط أضواءها في اتجاه الماضي والمستقبل. معنى هذا الفعل الذي لم يأتِ مجاناً ومن دون دفع أثمان باهظة، هو أن أولى مهمات الثورات الحديثة كانت إعادة النظر في الماضي كله، تصورات وقيماً ومفاهيم، وفي ضوء هذا تم تنظيم سياقات الفكر والسلوك، أو إعادة تنظيمها بالأحرى بلا تردد. الكل كافح في العالم على صعيد العلوم لاستبدال التجريب والتحقيق واستخدام العقل بالعقلية الخرافية، والكل كافح في العالم على صعيد الآداب والفنون من منطلق نظرة جادة؛ للجماليات الجديدة أثر بالغ في تغيير أساليب العيش والحكم على الأشياء، وقبل كل شيء في تحرير المخيلة والفكر والجسد من سطوة الجماليات التقليدية أياً كان النوع الأدبي أو الفني الذي يجسدها.
لا أحد ينكر أن للماضي منارته أيضاً، والتي تواصل بث أضوائها، ولكن أضواء الماضي في الحقيقة تصلنا كما تصل لمحات من أضواء نجوم منطفئة ظلت تسري إلى أن وصلتنا بعد كل هذه السنوات. نحن من يضيء الماضي وليس العكس، حتى وإن تكاثرت أعداد وسطوة من يحملون الفكرة المعاكسة. وما شهده وطننا العربي من صراعات ومنازلات فكرية يمكن النظر إليها على أنها صراع بين هذين الاتجاهين؛ اتجاه يعتقد أن اللمحات الضوئية يمكن أن تضيء زوايا عالمنا الراهن، ومن يعتقد أن أضواء الحاضر، الذي توفر له ما لم يتوفر لعصر تلك الأضواء المتلامحة، هي التي تضيء عالمنا الراهن، بل وعالم الماضي الذي افتقر إلى المستوى المعرفي الذي نعيش في ظلاله، وعالم المستقبل أيضاً.
* * *
تعبير «الجمال سينقذ العالم»، يتداوله الكثيرون ناقصاً، وربما هذا هو سبب شعور بعضهم بغموضه، وترك المجال واسعاً لشتى التفسيرات. في الأصل، وكما أتذكر ورد هذا في سياق قول «ديستوفسكي» أنه إذا اجتثت شجرة الحقيقة وشجرة العلم، فستنهض شجرة الجمال بوظيفة الأشجار المجتثة. لا أتذكر أين وردت هذه العبارة، ولكنها لم تغادر مخيلتي. ووقفت هذه العبارة وراء نظرتي إلى أهمية القيم الجمالية كقيم محررة، ليست التقليدية بالطبع التي هي أشبه بأقفال على بوابات الفكر والشعور، بل القيم التي تولد من حاجة الإنسان إلى رؤية عالمه رؤية متحررة من الأوهام والإكراهات والمنافع الشخصية الضيقة، أو حاجته إلى أن يكون إنساناً سيداً لمصيره.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *