بشرى الفاضل وجائزة كاين

*أمير تاج السر

منتصف الأسبوع الماضي، حصل القاص السوداني بشرى الفاضل، على جائزة كاين للكتابة الإفريقية، المختصة بالقصة القصيرة، التي انطلقت منذ سبعة عشر عاما في لندن، بهدف جلب الكتابة الإفريقية إلى الأضواء، وحصد قراء لها.
وكانت الكاتبة السودانية ليلى أبو العلا، صاحبة رواية «المترجمة» الشهيرة، هي أول من حصل على تلك الجائزة، في دورتها الأولى عام 2000. وتلاها بعد ذلك، كثير من الكتاب الأفارقة الموهوبين، الذين انطلقوا بإبداعهم بعيدا، وحصلوا بالفعل على قراء جيدين ومختلفين.
بشرى الفاضل في الحقيقة، كاتب مهم، ومؤثر، وقصته «حكاية البنت التي طارت عصـــــافيرها»، التي حصلت على الجائزة، من أكثر القصص السودانية تأثيرا، وأذكر أننا في بداية تعلقنا بالكتابة، كنا نحفظها كامــــلة، ونرددها في أي مكان بمناسبة وغير مناســــبة، كانت أشبه بالنشيد الجمالي، الذي يفرض نفسه على التذوق، وأيضا يفرض ظلاله على خطوات الكتــــابة المبتدئة، وحتى الذين لم يكن لهم غرض بالكتابة، كانوا يحكون حكاية البنت التي طارت عصافيرها، ويرددون الجملة الشهـــــيرة داخلها: «خــــرجت مرة من عندها، ممتلئا بها، حتى غازلني الناس في الشوارع».
وأذكر حين كنت طالبا في مصر، أننا كوّنا ملتقى صغيرا، للتذوق الأدبي، حمل عنوان تلك القصة بحماس كبير. أيضا كانت توجد قصة أخرى في منتهى العذوبة لبشرى الفاضل، هي «حملة عبد القيوم الانتقامية»، وفيها صياغة جديدة للفوضى الاجتماعية، وزخم كثيف من إبداع اللغة والمواقف والشخصيات، التي كتبت بمهارة.
القصة، التي ترجمها، ماكس شموكلر بعد كل تلك السنوات، وصدرت في كتاب الخرطوم الخاص بالقصة القصيرة السودانية، حصلت على فرصتها التي كان يجب أن تحصل عليها منذ سنوات، أي أن تتوج قصة للموسم، ومواسم أخرى تلت، لكن الأدب السوداني بكل ما فيه من تنوع وابتكار وتأثير قد يكون كبيرا وعميقا، قابع للأسف في أذهان المحلية السودانية، ومعظم الكتاب السودانيين من جيل بشرى والجيل الذي سبقه، أو أتى بعده بسنوات، ما زالوا يؤمنون بمحليتهم الصرفة، وأنهم كتاب سودانيون، يتوجهون لقارئ سوداني، أي يتوجهون للذي يسكن البيت، ونادرا ما يطلون بآدابهم على الجيران، وتوجد تجربة إبراهيم اسحق التي لو ترجمت للغات أخرى، لأبهرت الكثيرين، وفيها من الغرائبية والسحرية، ما يجعلها تجربة قابلة لأن تصبح بهارا كبيرا للتذوق العام، وأذكر حن قرأت كتابه «حدث في قرية»، وأنا في بداية الدرب، أنني ظللت أحكيه لكل من عرفته، وأتمنى لو كان داخل مكتبات بعيدة، أو على الأقل، مكتبات عربية، في بلاد، لها اللغة نفسها، ليصبح السحر عاما.
كانت مطبعة جامعة الخرطوم، أو دار النشر في جامعة الخرطوم، قديما، هي من يقدم الأدب السوداني للسودانيين، وعلى قلة إمكانياتها وطباعتها التي تعتبر شعبية للغاية، استطاعت أن تصمد كثيرا، وتقدم كتّابا مبدعين من أمثال الراحل علي الملك، أصبحوا في ما بعد هم كتاب السودان المهمين، لكن بمرور الوقت، وباندثار دور تلك المطبعة، وظهور دور نشر أخرى، وناشرين بعضهم عمل في دار جامعة الخرطوم لسنوات، ابتعد تقديم الأدب بغرض الثقافة والمعرفة، وبرز دور تجاري، وحتى ذلك لم يحسن كثيرا من طرق النشر والتوزيع، وبدا دورا محليا صرفا، حتى سنوات قليلة، حين انطلق الأدب السوداني، إلى آفاق آرحب، بظهور أجيال تعرف أين تضع أقدامها، وظهور دور نشر عربية، تهتم بما يكتبه السودانيون بوصفهم يكتبون أدبا عربيا، يمكن أن يقرأ في أي مكان.
بشرى نشر مجموعته التي تحمل عنوان قصته الفائزة، داخل السودان إذن، ونشر مجموعات أخرى، حملت أسلوبه الجميل وأفكاره الجديدة، أيضا، وحصل مرة على جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، وأذكر أنني كنت موجودا معه على المنصة نفسها، نحكي تجاربنا للناس، وذكر بأن تقدمه للجائزة، كان مغامرة منه، وكان من الممكن أن لا يفوز، ويحس بالإحباط في سن يجب أن لا يحبط فيها كاتب. وكان ذلك صحيحا، فالكاتب الناجح، يظل ناجحا بقرائه، والجوائز لا تزيده نجاحا كثيرا، قد تسلط الضوء على عمله الحاصل على الجائزة، بحيث تتسع رقعة توزيعه، لكن قد يصاب بإحباط، إن مر العمل على لجان تحكيم، لم تقدره أو لم تتذوقه.
إذن «حكاية البنت التي طارت عصافيرها»، حكاية ناجحة منذ سنوات طويلة، ناجحة على المستوى التذوقي للقراء، داخل السودان، وأيضا خارجه لمن اهتم بها وبالأدب السوداني عامة، وقرأها، وكان الروائي الراحل جمال الغيطاني، من الكتاب الذين يهتمون بتجارب الشعوب، وحدثني مرة عن قصة بشرى، واصفا إياها بالقصة العظيمة، وأيضا عن رواية «الخريف» يأتي مع صفاء، للكاتب السوداني أحمد الملك، وقد وصفها بالرواية المربكة، وكانت فعلا رواية مربكة، لكاتب جميل ومبتكر.
شيء مهم، وهو أن الكتابة العربية عموما، سواء كانت سودانية أو غير سودانية، لا تزال، بعيدة عن القارئ الغربي، أو القارئ الذي يقرأ بلغات أخرى، على الرغم من عراقة الكتابة العربية، ذلك ببساطة أن قليلين فقط من اهتموا بالأدب العربي، ودرسوه من الغربيين، وقليلين من آمنوا به أكثر وترجموا بعضه للغاتهم الأخرى، ومعظم الذي ترجم، لم ينجح كثيرا. ولا أريد التحدث عن ذلك، فقد ذكرته من قبل، لكنني أتمنى لو تغير شيء، وحصل الأدب العربي على موقع جيد وسط الآداب الأخرى، حتى لا نقول إن الكتابة بالعربية، تدس الأعمال المبدعة، وتبعدها عن الأضواء، وإن قصة مكتوبة منذ سنوات طويلة، لا تبزغ إلا حين تترجم للغة أخرى، هي جديدة عليها، وكان ينبغي لها أن تحصل على موقعها المميز، منذ زمن ليس بسيطا.
لنحتفي بالموهوب بشرى الفاضل، ولنقرأ ما كتب قديما وحديثا، ونستمتع، ولنحتفي دائما بإبراهيم أسحق الذي ستظهر تجربته الكبيرة، على مستوى أوسع ذات يوم، ونحتفي أيضا ببركة ساكن، وبثينة خضر، وأحمد الملك، ومنصور الصويم، وكل الأقلام التي تنبع من السودان، حاملة دهشتها، وطموحات مجتمعها.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *