في الشعر الأفغاني المعاصر

خاص- ثقافات

*عثمان بوطسان

يعتبر الشعر الأفغاني اليوم من أهم الحقول الشعرية المتداولة في باكستان وإيران، ليس فقط لأن كثيراً من الشعراء الأفغان أقاموا في إيران وباكستان لأسباب سياسية واجتماعية، أو لأنهم أقاموا لفترات طويلة أو قصيرة، بل لأنهم شعراء واكبوا تطور القصيدة الفارسية الحديثة من داخل إيران. فالشعراء الأفغان يُعَدون جزءا من التراث الحضاري واللغوي الفارسي، حيث إنهم يبدعون في الفارسية أكثر من أية لغة أخرى. كما ترجمت أعمالهم إلى العديد من اللغات، خاصة الفرنسية والإنجليزية.
وحسب الباحث رضا أكبر، فالشعر الأفغاني المعاصر يتأثر كثيراً بما يُكتب في إيران من قبل أهم شعرائها، إلا أن القارئ والمتتبع للشعر الأفغاني يدرك بين طيات ما يخطّه الشعراء الأفغان ببساطة وصفاء ونقاوة شبيهة بما يمكن أن يلاحظه أي شخص في الأفغان عامة. فالأزمات التي مرّت منها أفغانستان من احتلال وحروب أهلية وتأزم الوضع الاجتماعي والسياسي، والمعاناة التي يعرفها الشعب الأفغاني منذ عقود تؤثر كثيرا على الشعراء، وسنجد أن كل ذلك ينعكس على شعر الأفغانيين بطريقة مباشرة عبر الإفصاح وكشف قناع الحقيقة، أو عبر المراوغة التخيلية تحت غطاء الاستعارات الشعرية. لهذا، سنجد سيطرة بعض الاستعارات كالليل، والعتمة، والقيد، والسجن، والقفص على أغلب القصائد، سواء تعلق الأمر بشعر الرجال او شعر النساء (البشتونيات). وغالبية الشعراء الأفغان اختاروا الهجرة والغربة بحثا عن حياة جديدة تضمن لهم حرية العيش والتعبير. ويرى الشاعر والكاتب الأفغاني عزيز الله نهفتة أن الهجرة تركت من دون شك تأثيرا إيجابيا على الأدب في أفغانستان. وساهمت الأعمال الأدبية للكتاب سواء من هاجروا إلى الدول الغربية أو الذين توجهوا إلى إيران في تطور الأدب الأفغاني.

هكذا تقول الشاعرة شکرية عرفاني في إحدى قصائدها :

’’ أصبح هذا الجسدُ
سجناً مظلماً مجنوناً
بين جدرانه
يشنق نفسه ألف مرّة في كل يوم
ولا يموت.’’

إن السجن علامة القمع وعدم التحرر والعنف والظلم. وإن الشاعرة في حالة سيكولوجية مضطربة تُعبر عنها بتكرار مصطلح السجن. فالمعاناة والألم من الأسباب التي جعلت الشاعرة تحس وكأنها سجينة جسدها. ولو حللنا الصورة الشعرية في هذا المقطع لوجدناها تتجلى في الربط بين فكرتين من طبيعة مختلفة: ’’ السجن’’ و ’’ الحياة’’. فرغم المعاناة والسجن، إلا أن الشاعرة متمسكة بالحياة، وقد يظهر عكس ذلك للقارئ العادي المتشبث بالمعنى السطحي للصورة الشعرية. ومعنى ’’ يشنق نفسه ألف مرّة في كل يوم ولا يموت’’، أن الشاعرة رغم كل محاولات اليأس المستمرة، إلا أن جسدها صلبٌ متمسكٌ بالحياة تَمَسُّكَ الصخر بالأرض.
ولهذا فإن الجسد هو القصيدة، لأن القصيدة الخالدة شبيهة بالجسد المقاوم في معاناته وصبره، وفي تقلب أحواله والأماكن التي تحيط به. فالسجن في حقيقة الأمر ليس الجسد، وإنما القيود التي تعاني منها المرأة الأفغانية بسبب جسدها. إذ إن جسد المرأة من الطابوهات المحرمة في أفغانستان، وليس غريبا أن تشبهه الشاعرة بالسجن المظلم. فعدم القدرة على التحرر، شبيه بالقيود والسلاسل، أو شبيه بعدم الحركة وسط أربعة جدران مظلمة. ولذلك فإن الشاعرة تلوم جسدها لأنه السبب في عدم تحررها.
وإلى جانب امتياز الشعر الأفغاني المعاصر بالصور الكثيرة التي عادة ما تتخذ من الواقع المعاش منطلقا وغاية لها، نراه يمتاز بالوضوح والاضطراب. الوضوح عندما يتعلق الأمر بكشف المشاعر أو الوقائع المعاشة بشكل مباشر عبر لغة سهلة ممتنعة تصف الواقع كما هو دون أدنى زيادات من الناحية التخيلية او الشعرية. والاضطراب عندما يتعلق الأمر بوصف الحالة النفسية للذات المتقلبة جراء المعاناة والألم والغربة والإحساس بالظلم والحنين المستمر إلى أرض الوطن. فقصائد الشاعرة شکرية عرفاني تميل إلى الاضطراب رغم الوضوح الذي تقدمه، لأن جل القصائد تتمركز حول الحالة النفسية للذات وما تحس به، أي أن الشاعرة تتحول إلى مرآة لمعاناتها ومعاناة كل النساء الأفغانيات سجينات التقاليد والأعراف والتعصب الديني والانغلاق الثقافي.
كما أن قصائد شكرية عرفاني، قصائد تعبر عن الحب في أسمى تجلياته. فالشاعرة تظهر في قصائدها مثل العاشقة المجنونة بحبها، لذا فهي تتحرر من كل القيود وخاصة اللغوية لتُعبر عن شغفها. وهكذا تقول في إحدى القصائد:

“بحثتُ في كلَ صحف العالم
في كلّ القبور المجهولة
وفي أحضان المومسات
في كلّ الحوانيت البعيدة
كي أعثر عليك
أنت الذي
لم تسمح أن يكون وطنُك
ذراعيّ العاريتين.”

هذه اللغة المتحررة التي يظهر من خلالها تحرر الجسد من كل القيود والطابوهات، وخاصة اللغوية من السمات القوية للشعر البشتوني المتمرد. وكما قلنا في مقالات سابقة على أن شاعرات البشتون متيمات، جَعلنَ من الحب حياة بديلة للحياة القاسية التي فرضها عَليهن المجتمع الذكوري. لذلك فالمرأة تستطيع البوح بأسرارها العاطفية، عكس الرجل الذي لا يمكنه التعبير ولا الإفصاح عن حبه. ومن ثمة فإن الشاعرة تعرض صورة من صور الشعر الأفغاني النسائي المعروف عنه بخاصية التغني بالحبيب (الرجل الغائب). فيكون المعروض والعارض شيئا واحدا: أي أن الشاعرة تتغنى بحبيبها عبر عرض أحوالها وعواطفها وانفعالاتها، وهنا يكون جوهر الشعر ’’ الذاتية’’. ويتضح من صياغة هذه القصيدة، أن الشاعرة تعتمد أسلوبا فريدا، بحيث أن كل كلمة مختارة بعناية. فالكلمات تتلاحق دون أن تتداخل معانيها التي تظهر بوضوح، فيما الوصف يميل إلى الصراحة في التعبير وكأن الشاعرة في حالة من الاعتراف. لذا، فهذا المقطع دليل على رمزية الجسد في الكتابة الشعرية النسائية الأفغانية. فالجسد هو أساس كل قصيدة، ولا يمكن إلا نادرا أن نجد قصيدة نسائية لا تتم

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …