ضباب العائلة..الميراث والاغتراب فـي رواية دييغو زونيغا

*ترجمة: عادل العامل

كامانشَاكا، ضباب ساحلي يغطي صحراء أتاكانا الناشفة في شمال تشيلي. وهذا الكامانشَاكا الذي تنطوي عليه رواية دييغو زونيغا الصادرة حديثاً بهذا الإسم حاضر في المنظر الطبيعي والقصة معاً: فهو في هذا التقرير المتشظي عن رحلة في الصحراء، ينتشر فوق الطريق العام ويغشى عقل بطل الرواية ، حاجباً بعتمته صور رحلة الطريق وذكريات الماضي، كما تقول شارلوت هويتل في مقالها هذا، المنشور في مجلة BOMB.


والشاب الذي يحكي رواية زونيغا هذه، بطريقةٍ مصقولة، في العشرين من عمره، فائق الوزن، ولديه مشاكل جدية في الأسنان. وكونه مراهقاً شاباً ما يزال تحت قرارات والديه، تجده يتحسس عبر ذكريات طفولته في العاصمة سانتياغو، ومدينة آيكويك الشمالية، في حين  يسوق والده السيارة عبر الصحراء. ويعزل هو نفسه عن أبيه بوضعه سماعتين على أذنيه، بينما تعزلهما السيارة كليهما عن المشهد الطبيعي الموحش والأشكال المنفردة التي تظهر عرَضياً فيه، شهوداً مكشوفة ولكن غامضة على العزلة والتشوّش.
والعائلة تعني هنا الاغتراب والعلاقات المحطمة: زوجة أب و أخ لا يمكن أن يُشار إليهما هكذا، أب مذنب بجريمة تسيء لسمعة العائلة، أُمٌّ مجروحة وعالة على غيرها، وجدٌّ منعزل يتحول إلى إيمانه كواحد من شهود يهوه ليتعزّى بذلك. ويروح البطل، كبوليس سري غير متدرب، بمحاولة الكشف عن غوامض ماضي عائلته: هل قتل أبوه فعلاً عمه نينو؟ ولماذا انفصل والداه؟ ولماذا هجرته أمه لدى قريب في سانتياغو، ثم ظهرت ثانيةً بيدٍ مضمَّدة ومعها حقيبة مليئة بالنقود، وهي تُقسم على أنها لن تعود إلى آيكويك أبداً؟
ولغة زونيغا هنا مجردة من الزخرفة. وهو يقوم، كصحافي قادم، بإجراء مقابلاتٍ مع أمه، محاولاً الوصول إلى حقائق العائلة. فتُظهر نتف من المعلومات خليطاً غير تام من تاريخ العائلة. إذ تجيب أمه على أسئلته بـ ” ترك نهايات طليقة، وحالات صمتٍ، ذلك النوع من الأشياء الذي يبدو جزءاً من حياتها “. وتختزل جملةٌ هنا مجلدات من الكلام : ” وفي إحدى مقابلاتها أخبرتني أن الأفضل ألّا أتذكر أي شيء “!
إن التاريخ العائلي للعنف، في عالم هذه الرواية، ليس استثناءً بل قاعدة. فبطل زونيغا هنا يتحرك، مرتبكاً، عبر نثار مصيبة حددت مسبقاً وعيه، مثل شخصية ثانوية في فيلم لم يفهمه. فنجد حكايات العنف تبعثر خلفية قصة البطل، وهي تقاوم التفسير؛ وتزيد هيمنتها في حالة الحيرة. فتمر السيارة، في الطريق عبر الصحراء، بشاكابيوكو، وهو موقع مركز تعذيب سيّئ السمعة خلال سنوات حكم الدكتاتور بينوشيت. لكن هناك أيضاً إشارات إلى فترات عنف حتى في أوقات أقرب من تاريخ تشيلي الحديث.
ويلاحظ أن الأجسام دبقة ومتعَبة في هذه الرواية ــ مواضع للمرض والأذى، للألم والتعفن، وهي أحياناً هكذا أكثر وضوحاً من اللغة. فالراوي يخدّر نفسه بالوجبات السريعة والصودا؛ وهو غير مرتاح داخل جلده، وبنطلونه مشدود عليه كثيراً. وسمنته والألم في فمه سمتان مشتركتان بينه وبين أمه. وفي صباح أحد الأيام بعد لحظة إلفة خرقاء، يجد نفسه أمام ظهرها العاري، وقد بدا ” أحمر متعرقاً “. وتذكّره ذكرى جثة جدته وقد سال خيط من الدم من شفتها، بأسنانه الدامية التالفة. فيظهر الدم من فم بطل الرواية بدلاً من الكلمات.
ويُيدي قارئ من قراء (كامانشَاكا) ، استناداً إلى موقع  Goodreads، إعجابه بالكتاب، قائلاً: لقد انتهيت منه وأعدتُ قراءته على الفور. إنه كتاب حالم وأخّاذ ومحبب للنفس مثل ضباب كامانشاكا الذي سُمِّي الكتاب به ومثل صحراء أتاكاما التي تمثّل شخصيةً رئيسة في القصة. وهي، في مظهرها، قصة شاب بلا إسم يلتحق بأبيه الغائب في رحلة طريق من تشيلي إلى بيرو. لكن المسألة أكثر من هذا بكثير، فتنظيم الكتاب يخلط الأمور ما بين طفولته مع أمه ورحلة الطريق حتى يتلاقيا في إيحاءٍ صادم يوضح بقدر ما يعتّم الأمر.
ودييغو زونيغا، المولود عام 1987، مؤلف وصحافي تشيلي، يعيش في العاصمة سانتياغو، وله روايتان حتى الآن. وقد نُشرت روايته هذه، (كامانشَاكا) ، باللغة الأسبانية، وهو في سن 22 من عمره، وصدرت مترجمةً إلى الانكليزية حديثاً، في آذار 2017.
_________
*المدى/ عن  BOMB

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *