منذ عدة سنوات تنامى عدد المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تهتم بالتسامح والتعايش وقبول الآخر والحوار بين الأديان، وهي ظاهرة صحية في فضاء تتفاقم فيه أزمات التدين، واحتلال الجماعات المتوحشة صدارة الصورة في الاعلام، غير اننا قلما نسمتع إلى حديث واقعي في مثل هذه الملتقيات، فمعظم من يتحدثون يكررون عبارات أضحت أقرب للافتات المجاملات في العلاقات العامة، عبارات لا تخلو من تمجيد وثناء.كل العبارات تشترك في القول أن الأديان منزهة من كل هذا العنف المتوحش المتفشي اليوم، وكل متحدث ينزع لتبرئة ديانته ومذهبه من كل ما يمكن أن يسئ للانسان المختلف، رغم أن الممارسات المتشددة تصدر عن أفراد متدينين ينتمون لجماعات دينية معروفة.
لم تعد تبرئة الدين مفيدة اليوم، المفيد هو قدرتنا على الاعتراف الصريح الذي لا يتجاهل الحضور الإعلامي المكثّف لنمط تدين متشدّد يستقي منابعَه من التراث الديني، وتغذيه المؤسسات ووسائل الاتصال والماكنة الاعلامية، التي تنتخب التراث المتشدّد المغلق، لتوظّفه في التربية والتعليم والتثقيف والإعلام.
الواقع الذي نعيشه يفرض علينا الاهتمام بدراسة الدين في سياق مكاسب العقل والعلم والمعرفة والخبرة البشرية، ودراسة كيفية نشأته وأنماط حضوره وصيروته عبر التاريخ، والانتقال في الدراسات الدينية من الرؤية التقليدية التي كانت ترى الدينَ ونصوصَه مرجعيةً نهائية في تفسير وفهم كل شئ، إلى رؤية تُخضِع تعبيرات الدين وتجلياته في الحياة للفهم والتفسير، بوصفها تمثلات بشرية، وكل ما هو بشري يقع في مدارات عقل وعلوم ومعارف وخبرات الانسان.
وهذا يعني أن ليس هناك ديانة أو نص ديني خارج طرائق عيش الانسان وطبائع العمران، فالانسان يخضع لمشروطيات تفرض عليه نمطَ حياته، وتؤثر في سلوكه، وهي: الجسد، العقل، اللغة، المشاعر، الغرائز، التربية، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السلطة، التاريخ. ولا يتجسد الدين في حياة الانسان إلّا تبعا لهذه المشروطيات، أي إن فهمَ الدين يتنوع بتنوع أشكال حياة الناس وطرائق عيشهم.
يمكن تطبيق المناهج العلمية في دراسة كل الأديان وفرقها ومذاهبها، فهي دائماً تولد نواتها الجنينية في عصر مؤسسيها، لكنها تظل تتخلق وتتضخم، في صيرورة لا تتصرم عبر الزمان والمكان، في سياق شبكات العلاقة العضوية بين السلطة والمعرفة، فكل سلطة تنتج معرفةً من جنسها، وهكذا كل معرفة تنتج سلطةً من جنسها. السلطة الروحية تنتج معرفتَها، وهذه المعرفة تنتج سلطتَها، وهكذا هو نسيج العلاقة بين المعرفة والسلطة السياسية.
الدين كائن حي ينمو ويتطور ويمرض، وربما يصاب بسرطان مميت. فربّ ديانة منفتحة انغلقت، وربّ ديانة مغلقة انفتحت. من هنا تأتي الحاجة لتتابع النبوات، والضرورات الأبدية لإصلاح الأديان وتجديدها. فليس هناك ديانة تحتكر المحبة والحريات والحقوق واحترام كرامة الكائن البشري، وليس هناك تاريخ ديانة منزّه من التعصب والعنف وانتهاك كرامة الانسان. في ميراث الأديان الابراهيمية مثلاً لا يصح نسيان مظالم الفتوحات الاسلامية، مثلما لا يصح نسيان مآسي الحروب الصليبة.
وكما تؤثر الأديان في المجتمعات، تؤثر المجتمعات في الأديان، فما فعلته روما بالمسيحية لا يقلّ عن فعل المسيحية بروما. وما فعله الأندلس بالاسلام لا يقل عن فعل الاسلام بالأندلس. لذلك لا يكفي الحكم على أخلاقية وانسانية الديانة بما تشتمل عليه مدونتها، وليس بشهادات أتباعها عنها، مهما ادعوا من انحصار الأخلاق والانسانية فيها، وانما يتم ذلك بمقارنتها بالديانات الأخرى، مضافاً إلى اكتشاف مقدار تجلي القيم الانسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوك معتنقيها أفراداً وجماعات في الماضي والحاضر.
الموقف الأخلاقي يفرض على أتباع كل دين الكشفَ عن أرشيفات الماضي، وإعلان كلّ ما يختبئ فيها. وفضح منابع التعصب والكراهية في تراثه مثلما يفضحها لدى غيره، والاعتراف بأخطائه كما يتحدث عن أخطاء غيره.
إن مقارنةَ الأديان هي المعيار الحقيقي لاختبار وعود الأديان وادعاءات أتباعها. ولا يتحقق ذلك إلّا بالعودة إلى نصوصها المقدسة، ومدوناتها الخاصة الحافة بهذه النصوص، فدراسة اليهودية تصحّ بالعودة إلى التوراة والتلمود، ودراسة المسيحية تصحّ بالعودة إلى الكتاب المقدس “العهدين القديم والجديد” ومقرّرات المجامع المسكونية، ودراسة الإسلام تصحّ بالعودة إلى القرآن وما هو ثابت من الحديث.
مالم يتسع حقلُ مقارنة الأديان لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويب سوء الفهم والأحكام المسبقة، وحذف الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى. تتوالد من سوءِ الفهم والأحكام المسبقة دائماً أحكامٌ إقصائية حيال الآخر المختلف.
تتكفل الدراسةُ المقارنة للأديان بيان مكانة كل دين، والأثر والتأثير المتبادل بينه وبين الأديان الأخرى المنتمية للجغرافيا الروحية ذاتها، واكتشاف ديناميكية حضوره في حياة الشعوب المنتمية اليه. وأخيراً يمكننا عبر مقارنة كل دين بالأديان الأخرى أن نتعرف على ذلك الدين من جديد. وبذلك يصح أن نقول: “من يعرف ديناً واحداً لا يعرف أي دين”. كما قال الشاعر غوته من قبل: “من يعرف لغة واحدة لا يعرف أي لغة”.