في الثقافة القراقوشية وقراقوش المثقف

خاص- ثقافات

*كفاح جرار

وإن الثقافة سئلت بأي ذنب قتلت

لست أعلم بالضبط كنه العلاقة بين السياسي والثقافي في بلادنا، وأحتار أحيانا في محاولة توصيف الحالة الثقافية بعيدا عن الخريطة السياسية والمشهد الشعبي العام برمته.

لو أن الحاكم بأمره سيء الذكر تاريخيا الأمير قراقوش عاد إلى الحياة، نافضا عن نفسه غبار الكتب القديمة، مرتبا أوراقها ومنطلقا نحو الفعل من جديد، ماذا كان سيصنع هذا المخيف؟.

التاريخ أولا يحدثنا عن “قراقوشين” عاصرا وعايشا الملك الأيوبي الناصر صلاح الدين، وكان أحدهما صالحا محبوبا شجاعا كريما والثاني كما تعلمون.

هو مرعب لما عرفناه عنه نظريا، لكن الشك يساورني حول ما وصلنا عنه، مقارنة بما نعيشه حاليا، إلا إذا صرفنا النظر وتغاضينا عن اتهام أبي رغال لمسيلمة بأنه أفضل منه، وأن يعير مسيلمة عمر بن هشام المكنى نبويا بأبي جهل بأنه أحسن منه، فأين الحسن هنا؟.

قد يكون مقبولا أن يعير الشريف الوضيع والكريم البخيل، رغم أن المفاخرة ليست من صفات الشرف والكرامة، فمثل هؤلاء ينأون بأنفسهم الوقوع في زلة الصغار، أما أن يعير الوضيع الشريف وأن يستل أحد بخلاء الجاحظ لسانه طاعنا وغامزا ولامزا بحاتم طي فهذا لا يحق ولا يجوز ولا يمكن السكوت عنه.

فهل يمكن بعد ذلك أن نقارن قراقوش بفاعلينا الثقافيين الأفاضل؟.

هل يعد التاريخي مرعبا بحق أمام رعونة الآني وفوضويته وجهويته وعصبيته بل وهتلريته؟.

ماذا كان سيصنع قراقوش لو أنه بعث حيا وخير بإدارة الثقافة بأي من بلدان العرب.؟.

الأكيد سلفا أن الرجل كان سيختار العودة إلى بطون الكتب، والاختفاء وراء أي سطر هامشي على أن يكون من هؤلاء، الذين لن يجدوا من يجاريهم في جريمتهم إلا الامبراطور الفاسق كاليغولا، وقد وضع الأسعد بن مماتي كتاب “الفاشوش في أحكام قراقوش” الذي كان له الفضل في خلود اسم الرجل وتشويهه في آن واحد، وحاله هنا كحال كافور صاحب المتنبي، فقد خلد شاعر العرب حاكم مصر دون أن يقصد.

المنصفون أو بالأحرى المحايدون يقولون في وصفه، كان رجلاً مسعودًا، حسن المقاصد، جميل النية، وصاحب همة عالية، فآثاره تدل على ذلك، فهو الذى بنى السور المحيط بالقاهرة، ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وبنى قناطر الجيزة، وعمّر ببيت المقدس رباطا، وعلى باب الفتوح بظاهر القاهرة خان سبيل، وله وقف كثير لايعرف مصرفه.

ولما أخذ صلاح الدين مدينة عكا من الفرنج سلمها إليه، ثم لما عادوا واستولوا عليها وقع أسيرًا في أيديهم، وافتك نفسه منهم بعشرة آلاف دينار، أي للرجل أياد بيضاء على المسلمين وغيرهم.

دخل قراقوش مصر التي يعرف وكان الناس قد اجتمعوا وتجمهروا واكتظوا في ميدان رابعة في 14 أوت فلما سأل عن شأوهم أخبروه، فهز رأسه عجبا، وقال أعطوا هؤلاء حقهم أو سلطوا عليهم السفهاء وحملة السياط فليجلدوهم حتى يعيدوهم إلى ديارهم.

لم يبلغ مخيال الجريمة في رأس هذا التاريخي أن يهجم السفهاء وحملة السياط بالسيوف والرماح والسهام، فيفضوا جمعا كما تفض عذرية بكر مراهقة، على يد مهووس جنسي مثل كاليغولا، والرجل يعلم أنهم أصحاب حق وخرجوا حفاظا على حق يسمونه ثورة أو انتفاضة وتمردا أو حراك شعبي، المهم خرج أهل الحق صارخين منددين بانتهاك الحق على يد الذين كانوا من جند السلطان ورجاله.

غفر قراقوش كل شيء إلا الخيانة، فهذه لم يتمكن من بلعها، وقد علم أن سيدهم السيسي كان وزيرا عند زعيم هؤلاء المتجمهرين في الميدان، حيث تم تغييبه واختطافه وربما التنكيل به، فكيف يغفر تطاول المرؤوس على رئيسه وهو على ما فيه من قسوة وبطش وجبروت يرفض الخيانة والغدر ويعتبرهما نقيصة لا ينبغي أن تكونا في رجل، فأن تكون حجاجا لا يعني أبدا تلبسك ثوب الوضاعة والحقارة، فالرجولة القاسية تحافظ على شرف رجولتها، والرجولة العادلة اللينة تحافظ أيضا على شرف وقيم رجولتها، وليس في قاموس أولئك ولا هؤلاء أي مكان لمفردات مثل نكث العهد ونقض القسم والغدر، ولا يقبل بصفات مثل هذه إلا من “رددناه أسفل سافلين”.

وقد تختلط الرؤيا أكثر عندما نكتشف أن القرار السياسي هو المحرض على الفعل الثقافي، رغم أن هذا الأخير يرتهن للمثقف وبالمثقف فهو منه وإليه، فأضحى الفاعل مفعولا تابعا، مع اتفاق الجميع على أن المثقف هو رجل فعل في المقام الأول، هذا إن سلمنا بأن الثقافة ليست عملا أدبيا إبداعيا ولا حالة فنية تشكيلية، أو مجرد إنتاج كومة من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وهنا يصح التعميم بحق الثقافة حيث تتموضع في السياسة والمجتمع والأخلاق والدين والتعليم، وإن اقتنعنا بهذا المفهوم الذي أراه صحيحا يكون السؤال المشروع حول البنية الثقافية للأحزاب الوطنية، وتخليها عن الفعل الثقافي والاستثمار به، بعد افتقادها لمنظٌر فكري، فأضحت أحزابا ذات صبغة اجتماعية مطالبية، أكثر منها أحزابا ذات برامج سياسية، للثقافة فيها حصة الأسد.

فهل انتبه الحزبيون لهذا الغياب المتعمد والمقصود لفعلهم الثقافي، وهو كذلك لأن تغييب الثقافة بعدم الانتباه لها، يعني أنها لا تحتل أولوية في برامجهم، وبالتالي لم يكن هذا الأمر عفويا أو خطأ غير مقصود، وقد يكون مفهوما تخوف أصحاب المال من وضع أموالهم في المشاريع الثقافية الإبداعية، لأنهم في النهاية أهل تجارة يؤمنون بالربح المضمون وأحيانا السريع، لذلك يفكر أحدهم ألف مرة قبل الاستثمار في طباعة كتاب أو الدعوة لمهرجان أدبي، وحتى الانغماس في الصناعة السينمائية، رغم ما تحققه هذه من أرباح طائلة، وهنا يكون السؤال حول درجة التحصيل العلمي لصاحب رأس المال ومدى اقتناعه بجدوى ذلك.

ولكن أي مبرر للأحزاب في استنكافها عن الإنتاج الثقافي أو على الأقل دعم الثقافة وتبنيها إلى جانب الدولة، طالما يقولون إنهم يعملون من أجل تطوير المجتمع وتوعيته وتنميته، هنا يمكن حشر الأحزاب في الزاوية، ومساءلتها عن صدقية ما تطرحه من برامج، ولعل هؤلاء لم يسألوا أنفسهم: وهل يمكن تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي بعيدا عن الفعل الثقافي العام؟.

من المؤكد أن أهم ركائز التنمية يتمحور حول المفهوم الشامل للثقافة، أما الاكتفاء باحتفاليات يسمونها ثقافية ومهرجانات غنائية بغض النظر عن مستواها وقيمتها، فليس فقط لن تتحقق النتائج المرجوة، وإنما هي مساهمة لتقزيم الثقافة وتهميشها ثم وأدها، بحيث يؤدي الفعل الإيجابي إلى نتائج عكسية، حين ينفر المجموع الشعبي من المشاركة في الاحتفاليات الثقافية، وهذا ما نلحظه دوما، حتى ارتبطت هذه عند العامة بالغناء والرقص.

المراقب المحلل للإقبال الشعبي على معرض الكتاب الدولي مثلا، يتأكد له أن الخلل يكمن في العاملين بالقطاع الثقافي وليس في الجمهور المتلقي، حيث يجد الناس فيما يقدم من كتب ضالتهم التي فقدوها في الكتاب المحلي، حتى لو تذرع البعض في الإقبال على الكتاب الديني والعلمي التقني، فذلك يعني أن الجمهور يرغب في المعرفة ويسعى إليها، فلماذا يتقاعس أصحاب الأموال عن الاستثمار في الكتاب، ولم استنكفت الأحزاب عن ذلك أيضا، وقد علموا إنه من المشاريع المربحة والمفيدة على السواء، هي الصدقية العملية المشكوك بها إذن.

وبالتالي فإن الطبيعة التي ترفض الفراغ، تعكس نفسها على الكتاب على سبيل المثال، وهو أحد جواهر الثقافة والناقل الأمين لها، لأن الذين ينظرون للاستثمار من زاوية ضيقة، ويرغبون في طعام سريع هو كالبيض المسلوق عوض وجبة طعام منزلية فاخرة، لن يستثمروا إلا في التفاهة الاستهلاكية التي تطلب دوما ولا تقدم ما يسمن أو يغني من جوع.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *