اليوميَّات… دلالاتُ الذاتِ الكاتبة

*جوان تتر

تشكّل اليوميات مرجعاً أساسياً للوقوف على حالة الشاعر أو الروائي أو القاصّ أو الفنان التشكيلي، أو ربمّا هي وثيقة تنجح العمل في فهم ما كُتِب أو سيُكتب في ما بعد في شتّى مجالات الفنون الإبداعيَّة.

اليوميّات على أخطائها المطبعيَّة أو توترها وارتباكها وغموضها، توفّر مادة تساعد في كلّ الأوقات على فهم ما كان يجري مع المشتغل في الفنون ضمن أوقات معيَّنة من حياته، ولعلّ اليوميات وفق ما يبدو هي نهاية حياة أي كاتب أو أيضاً يصحّ القول بداية حياة جديدة، والنماذج في ذلك متعدّدة، فالإيطالي تشيزاري بافيزي ينهي (مهنة العيش)، الكتاب الذي حوى يومياتٍ مرتبكة، وأُخرى تستعصي على الفهم، وبعدها ببضعة أيّام فقط ينهي حياته بتناول جرعة زائدة من حبوب منوّمة في غرفة فندق بتورينو! ولعلّ تلك اليوميات اضطلعت بدور الضاغط النفسي، أو ربمّا العلاقة المضطربة بين الكتابة والحياة، تدفع الإنسان الحقيقي إلى اعتماد مبدأ الانتحار كنوع من الخلاص من تاريخ طويل من الاضطراب والقلق والشكّ، والكتابة أيضاً! كما أنّ الإيطالي بريمو ليفي من أعظم الأمثلة على الانتحار بعد الإفراغ من كتابة المذكّرات واليوميّات، وكأنّ الانتحار هو إثبات عدم المقدرة على تخطّي بشاعة وتسطّح الحقيقة بعد تدوين اليوميَّات، عناء الذاكرة وعدم تحمّل العبء الجماعي هو الذي يدفع إلى الموت.

السرد اليومي البسيط، الملاحظات المدوّنة على عجل، التهكّم والسخرية وغيرها من العناصر المتوافرة ضمن اليوميات المكتوبة دونما عناية، تثب إلى الوجود حال قراءة اليوميَّات، ملاحظات مكتوبة على عجل في محطّات القطارات، أو في المطارات، أو في الاحتفالات الشعبيَّة أو حتّى أثناء الإقامات في فنادق حقيرة مزعجة، وربمّا حتى تلك اللحظات الحياتيَّة الأكثر عاديَّة بالنسبة إلى الكاتب والتي تتحوّل قضيَّة فلسفيَّة أو جمالية محتملة النقاش. وإضافة إلى امتلاك اليوميات لجرعة عالية من الحقيقيَّة، فهي غير خاضعة لعمليّات التنقيح، وتبقى هكذا مثلما دوّنت بالقلم أوّل الأمر على ورقٍ ناصع.

لعلّ أبرز اليوميَّات التي حظيت بالدراسة المعمّقة، هي تلك التي كتبها فرانتز كافكا، وجُمعت ضمن كتاب ضخم، حوى ملاحظاتٍ دقيقة حول الحياة، حول المرض، حول الضعف البشري وهشاشة الحياة والانتظار والرعب، حالات أصيلة، لكونها نابعة من ذات حقيقية تعايش التجربة العيانيَّة، دون رتوش أو إضافات أو إعمال التخيّل كما في باقي الأنواع الكتابيَّة التي تتطلّب جرعاتٍ معيّنة من التخيّل كعنصر أدبي يضفي الرونق على الكتابة، ناهيك بأنّها كانت المرجع في تفسير الحدث ضمن رواياته، أو اتخّاذه مواقف إزاء قضايا حياتيَّة أو أدبيَّة معيَّنة.

ولا تخلو اليوميات، من وجهات نظر لا يُفصح عنها الكاتب في باقي مؤلفاته، ربما تحفّظاً أو رغبةً في عدم الخوض في ترّهات يتضمّنها مؤلّف ما، لكن اليوميات الشخصيَّة التي تكون شيئاً سريَّاً إلى حدٍّ ما، تتيح للمدوّن الحرية الكاملة في الكتابة، لكن، للتناقض أيضاً مكان ها هنا، فالبعض من الكتّاب الذين واظبوا على تدوين يومياتهم بنشاط، أغفلوا بعض الأسماء الحقيقيَّة لشخصيات يومياتهم، التي هي من صلب الواقع المعيش، التواريخ تبقى الخيط الرفيع الذي يفضي إلى فكّ ألغاز الجريمة.

كرقيمٍ أثري لا بدّ من أن يتعامل النقّاد مع يوميَّات الكاتب، فالتواريخ لها ما لها من دلالاتٍ تُفصِح عن مدى الوعي أو درجة الغوص في مشاغل الحياة اليوميَّة التي ربمّا تمنح الكتابة منحىً آخرَ مختلفاً، وربمّا من الأشياء الأكثر أهميَّة أن يكون الكاتب وحياته صنوين متطابقين، حيث الكتابة نسخة كربونيَّة عن الحياة اليوميَّة المليئة بعناصرها المُجبرة على الإحباط أحياناً أو مبعثةً على الغبطة أحياناً قليلة، لذا، فالتواريخ ضمن اليوميَّات لا تُكتب عبثاً أو إضافةً جماليَّة معيَّنة، الأمر يملك دلالات معيّنة نستدلّ من خلالها على المزاجيَّة أو الحالة النفسيَّة لدى الكاتب في فترات التدوين، شأن الباحث في العلوم الأثريَّة تغدو المهمّة صعبة لاقتفاء أثر الكاتب الذي يدوّن اليوميّات، كفعل روتيني يتحوّل يوماً إثر يوم إلى فعل حياتي ملازم.

تقولُ سوزان سونتاغ الروائيَّة الأميركيَّة في (ولادة ثانية) التي تتضمّن يوميّاتها المبكّرة من عام 1947 – 1963: “كل شيء بدأ الآن، أنا أولدُ ثانيةً” بينما في يوميّات مؤرّخة بـ 4/6/1949 وبطريقة تداعٍ حرّة تسرد على نحوِ يبدو لوهلة أنّه اعتباطي، غير أنّ الرؤى تكون واضحة لدى قراءة باقي المؤلّفات: “كونشيرتو البيانو لــ شوستاكوفيتش، افتتاحيات سكريابين، سيمفونية بلحن دي ماينور لفرانك، السيمفونية الخامسة لـ بروكوفييف، قدّاس (باخ) بلحن بي ماينور، ممارسة الجنس مع الموسيقى! قمّة الثقافة!!”. هذان الارتباك والتوتّر يضطلعان بالدور الرئيس في رسم الحياة الكتابيَّة المُقبلة.

فالبساطة العنيدة على الفهم في أغلب يوميَّات من كتبوا تعطي البعد الفهميّ للمؤلفات اللاحقة، وهذا ما دأب عليه فرانتز كافكا في يوميّاته التي حرّرها ماكس برود على الرغم من أنّ كافكا كان قد أوصى بحرق يوميّاته تلك، غير أنّ برود حرّرها وطبعها كنتاج أدبي في حدّ ذاته. كافكا الذي عُرِف عنه الغموض وعدم الانتظام والهشاشة، يقول في لحظة إفصاح عن الحبّ: “لقد جرّبت كل أنواع الإذلال لذاتي، قلت لها ذات مرّة في حديقة الحيوانات “قولي نعم، فإذا رأيت أنّ مشاعرك نحوي غير كافية للزواج فإنّ حبي لك عظيم بما فيه الكفاية لاستكمال النقص، وقويّ بما يكفي لتحمّل مسؤولية كلّ شيء”، هكذا ببساطة يدوّن كافكا ما كان يدور في خِلده، وببساطةٍ ينظرُ القارئ إلى الأمر، غير أنّ الصعوبة في فهم المؤلّفات اللاحقة تنجلي حال التركيز على تلك اليوميات أو الملاحظات إن جاز التعبير، كذلك فعلت أناييس نن، جورج أورويل وجان جينيه وفيرجينيا وولف، طيف الكآبة والضجر والخوف والعزلة، غيوم الفضائح اليوميَّة التي تُفصِح عن مدى الألم اليوميّ الذي كان يكبر ليتحوّل إلى كتلةٍ كتابيَّة ضخمة في ما بعد.
________

*النهار

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *