تشيماماندا نجوزي أديتشي* ترجمة: لينا ابراهيم
كان أوكولوما من أعزّ أصدقاء طفولتي. عاش في الشارع الذي عشتُ فيه، واعتنى بي كأخٍ كبير: إذا أعجبني فتًى، سألتُ أوكولوما رأيَه فيه. كان أوكولوما مرحًا وذكيًّا، واعتادَ انتعالَ أحذية رعاة البقر ذات الحوافّ المستدقّة. لقي أوكولوما مصرعَه في حادث تحطّم طائرة جنوب نيجيريا، في كانون الأوّل من العام 2005. لا يزال صعبًا عليَّ، حتّى هذه اللّحظة، أن أعبّر عن شعوري آنذاك. كان أوكولوما شخصًا أستطيع مجادلتَه والضحكَ معه والتحدّثَ إليه بصدق؛ وكان أوّلَ شخص يطلق عليَّ لقب “نسويّة.”
كنتُ في الرابعة عشرة تقريبًا. وكنّا في منزله نتجادل، وقد تسلّح كلّ منّا بمعرفةٍ غير ناضجة استقيناها ممّا قرأناه من الكتب. لا أذكر على وجه التحديد موضوعَ ذلك الجدال، لكنّني أذكر أنّه، بينما كنت أجادلُ وأجادلُ، نظر إليّ قائلًا: “أتعلمين؟ أنتِ نسويّة!”
لم تكن الجملةُ إطراءً. عرفتُ ذلك من نبرته؛ فهي نبرةُ مَن يقول لك: “أنت داعمٌ للإرهاب.” لم أعرف على وجه الدقّة معنى كلمة “نسويّة” هذه. ولم أكن أريد لأوكولوما أن يعْرف أنّني لا أعرف. لهذا وضعتُ الموضوعَ جانبًا، وتابعتُ الجدال. قرّرتُ أن أستخرجَ معنى الكلمة من القاموس فور عودتي إلى المنزل.
دعونا نتقدّم بسرعة إلى السنوات اللاحقة.
في العام 2003 كتبتُ رواية زهرة الكركديّة الأرجوانيّة عن رجلٍ كان يضرب زوجتَه، من بين أمورٍ أخرى، ولم تكن نهاية قصّته جيّدة. عندما كنت أُروِّج للرواية في نيجيريا، تقدّم منّي صحفيٌّ لطيفٌ حسنُ النوايا، وأخبرني أنّه يريد أن يقدّم لي النصح (النيجيريون، كما قد تعلمون، معروفون بسرعة تقديم النصح غيرِ الملتمَس أصلًا). قال لي إنّ الناس يقولون إنّ روايتي نسويّة. ونصيحتُه ــــ كان يهزّ رأسَه بأسًى وهو يخاطبني ــــ أنّه ينبغي ألّا أسمّي نفسي “نسويّةً” لأنّ النسويّات نساءٌ تعساتٌ لعجزهنّ عن إيجاد أزواج. لذلك، قرّرتُ أن أسمّي نفسي “نسويّة سعيدة.”
ثمّ أخبرتني أكاديميّة نيجيريّة أنّ النسويّة ليست جزءًا من ثقافتنا، وأنّ النسويّة شيء “غير أفريقيّ،” وأنّني أسمّي نفسي “نسويّة” فقط بسبب تأثّري بالكتب الغربيّة (وهو ما سلّاني لأنّ كثيرًا من الكتب التي قرأتُها في صبايَ كانت غيرَ نسويّة على الإطلاق؛ فلا بدّ أنّني قرأتُ كلَّ روايات ميلز وبوون الرومانسيّة قبل بلوغي السادسة عشرة، وكلّما حاولتُ أن أقرأ “النصوص النسويّة الكلاسيكيّة” كنتُ أضجر وأَجْهدُ كي أنتهي منها). وعلى كلّ حال، ولأنّ النسويّة “شيءٌ غير أفريقيّ،” فقد قرّرتُ تسميةَ نفسي الآن “نسويّة أفريقيّة سعيدة.”
ثمّ أخبرني صديق عزيز أنّني عندما أسمّي نفسي “نسويّة،” فذلك يعني أنّني أكره الرجال. لذلك قرّرتُ أنّني سأصبح الآن “نسويّة أفريقيّة سعيدة لا تكره الرجال.” وفي مرحلة من المراحل كنتُ “نسويّة أفريقيّة سعيدة لا تكره الرجال، وتحبّ أن تضع أحمرَ شفاه، وأن تنتعل الكعبَ العالي إرضاءً لنفسها لا من أجل الرجال.”
بالطبع معظمُ ما سبق ذكرُه كان سخريةً، ولكنّ ما يُظْهره هو شدّةُ احتشاد كلمة “نسويّة” بالحُمولات، الحُمولاتِ السلبيّة: أنتِ تكرهين الرجالَ، تكرهين حمّالاتِ الصدر، تكرهين الثقافةَ الأفريقيّة، تعتقدين أنّ على النساء أن يتولّين القيادةَ دومًا؛ لا تضعين مساحيقَ التجميل، ولا تزيلين شعرَكِ؛ أنتِ دائمًا غاضبة؛ لا تمتلكين حسّ الدعابة؛ لا تستخدمين مزيلًا للعرق.
والآن، إليكم قصّةً من طفولتي:
عندما كنتُ في المدرسة الابتدائيّة في نسوكا، وهي بلدةٌ لها جامعتُها الخاصّة في الجنوب الشرقيّ من نيجيريا، أعلنتْ معلّمتي في بداية الفصل الدراسيّ أنّها ستمتحنُنا، ومَن يُحرز أعلى درجة يصبح عَريفًا للصفّ. كان منصبُ “عَريف الصفّ” أمرًا مهمًّا، إذ سيمكّنك من تسجيل أسماء المشاغبين يوميًّا، وهذا ــــ في حدّ ذاته ــــ يمنحك سلطةً كبيرة، ولكن معلّمتي كانت ستعطيك أيضًا عصًا تحملها بيدك عندما تجوب الصفّ مفتّشًا عن المشاغبين. بالطبع لم يكن في إمكانك استخدامُ العصا، ولكنّ المشهد كان مشوِّقًا لي في التاسعة. أردتُ بشدّةٍ أن أكون عريفةَ الصفّ، وقد حصلتُ على أعلى درجة في الامتحان. لكنْ، ولدهشتي، قالت المعلّمة إنّ عريف الصفّ يجب أن يكون فتًى. وكانت قد نسيتْ إيضاحَ ذلك، إذ افترضتْ أنّه أمر بديهيّ. كانت الدرجة الثانية في الامتحان من نصيب فتًى، ومن ثمّ سيكون هو العريف.
ما كان أكثرَ إثارةً في هذا الموضوع هو أنّ ذلك الفتى كان شخصًا لطيفًا، محبَّبًا، لا اهتمامَ لديه على الإطلاق بأن يجوب الصفَّ ممسكًا عصًا؛ أمّا أنا فقد كان يملأني الطموحُ إلى ذلك. لكنّني كنتُ أنثى، وكان ذكرًا، فصار عريفَ الصفّ.
لم أنسَ تلك الحادثةَ قطّ.
عندما نكرّر الأمرَ ذاتَه، المرّةَ تلو الأخرى، فإنّه يصبح عاديًّا. عندما نرى الشيءَ نفسَه، المرّةَ تلو الأخرى، فإنّه يصبح عاديًّا. إذا كان الفتيانُ، وحدهم، هم مَن يُكلَّفون بأن يكونوا عرفاءَ الصفّ، فسنعتقدُ جميعًا، في مرحلةٍ ما، ولو من غير وعي، أنّ على عريف الصفّ أن يكون فتًى. كذلك، إذا لم نرَ على رأس المؤسّسات سوى الرجال، فسيبدو “طبيعيًّا” أن يكون الرجالُ وحدهم على رأس المؤسّسات.
غالبًا ما أرتكبُ خطأَ الاعتقاد أنّ ما هو جليّ، بالنسبة إليّ، جليٌّ للآخرين أيضًا. لنأخذْ صديقي لويس على سبيل المثال، وهو رجلٌ تقدّميّ وذكيّ. نتحادث دائمًا، ويقول لي: “لا أعلم ماذا تعنين بقولك إنّ الأشياء مختلفة وأصعبُ على النساء. ربّما كانت الحالُ كذلك في الماضي، لا الآن. كلُّ شيءٍ على ما يرام بالنسبة إلى النساء الآن.” لم أفهم كيف لم يرَ لويس ما بدا جليًّا جدًّا [بالنسبة إليّ]!
أحبّ أن أعود إلى بلدي نيجيريا وأن أُمضي كثيرًا من وقتي في لاغوس، أكبرِ مدينةٍ في البلاد ومركزهِا التجاريّ. أحيانًا، في المساءات، عندما تنخفض الحرارة، ويبْطؤ إيقاعُ المدينة، أخرجُ مع الأصدقاء والأهل إلى المطاعم والمقاهي. في إحدى تلك الأمسيات خرجتُ مع لويس بصحبة بعض الأصدقاء.
هنالك أمرٌ ثابتٌ رائعٌ في لاغوس: حفنةٌ من الشبّان النشطين على مقربةٍ من بعض المؤسّسات، و”يساعدونك” بطريقةٍ مسرحيّةٍ جدًّا على ركن سيارتك. لاغوس حاضرةٌ من 20 مليون نسمة تقريبًا، وتتمتّع بطاقةٍ تفوق طاقةَ لندن، وبروحٍ تجاريّةٍ تفوق طاقةَ نيويورك. لهذا، تجد الناسَ يبتدعون كلَّ الطرق الممكنة لكسب العيش. وكما هي الحال في معظم المدن الكبرى، فإنّ العثور على مكانٍ لركن السيّارة في المساء قد يكون صعبًا، ولذلك امتهن أولئك الشبّانُ العثورَ على تلك الأماكن؛ وحتّى عند توفّر أماكن لركن السيارة، فإنّهم يرشدونك إليها بحركاتٍ إيمائيّةٍ كثيرة، مع الوعد بأن “يعتنوا بها” إلى حين عودتك.
بُهِرتُ بالحركات المسرحيّة التي قام بها شابٌّ وَجدَ لنا مكانًا لركنِ السيّارة ذلك المساء. فقرّرتُ، عند مغادرتنا، نفحَه إكراميّةً. فتحتُ حقيبيتي، ووضعتُ فيها يدي لأسحبَ مالي، وأعطيتُه إيّاه. هذا الرجل، الذي شعر بالسعادة والامتنان، أخذ النقودَ منّي، ثمّ نظر إلى لويس قائلًا: “شكرًا، سيّدي.”
نظر لويس إليَّ سائلًا بتعجّب: “لماذا يشكرني؟ أنا لم أُعطه المال.” ثم رأيتُ [وهجَ] الاكتشاف يعلو وجهَ لويس؛ لقد اعتقد ذلك الرجلُ أنّ كلَّ مالٍ أملكُه لا بدّ من أن يكون قد أتى من لويس، لأنّ لويس رجل.
الرجال والنساء مختلفون: لدينا هرموناتٌ مختلفة، وأعضاءٌ جنسيّةٌ مختلفة، وقدراتٌ بيولوجيّةٌ مختلفة ــــ فبإمكان النساء إنجابُ الأطفال، أمّا الرجال فلا يمكنهم ذلك. لدى الرجال مستوياتٌ أعلى من التستوستيرون، وهم عمومًا أقوى جسديًّا من النساء. تعدادُ النساء في العالم أعلى بقليل من تعداد الرجال (52% من سكّان العالم إناث)، ولكنّ معظم مراكز القوّة والاعتبار يحتلّها الرجالُ. وقد قالها، ببساطةٍ وجودةٍ، الكينيُّ الراحل، الحائزُ جائزةَ نوبل للسلام، وانغاري ماثاي: كلّما ارتقينا [نحو المراكز العليا]، قلَّت النساء.
خلال الانتخابات الأمريكيّة التي جرت مؤخّرًا ما فتئنا نسمع عن قانون ليلي ليدبَتْر.(1) فإذا بحثنا خلف الاسم الذي يعتمد ذلك الجناسَ اللطيف،* فسنجد حقيقة الأمر كالآتي: في الولايات المتّحدة يعمل الرجلُ والمرأةُ في الوظيفة نفسها، وبالمؤهِّلات ذاتها، لكنّ راتبَ الرجل أعلى لأنّه رجل.
لذلك، حَرْفيًّا، فإنّ الرجال يَحْكمون العالم. هذا الكلام كان منطقيًّا منذ ألف عامٍ خَلَت، لأنّ البشر آنذاك عاشوا في عالمٍ كانت القوّةُ الجسديّةُ فيه مِن أهمّ مقوّمات البقاء على قيد الحياة: فالأقوى جسديًّا كان له حظّ أوفر في القيادة؛ والرجال ــــ على العموم ــــ هم الأقوى جسديًّا (بالطبع هناك الكثيرُ من الاستثناءات). أمّا اليوم فنعيش في عالمٍ مختلفٍ جدًّا، حيث الشخصُ الأكثر تأهّلًا للقيادة ليس الأقوى جسديًّا، بل الأذكى، والأكثر معرفةً، وإبداعًا، وابتكارًا. هذه الصفات جميعها لا هرمونات فيها؛ فالرجل يتساوى مع المرأة في إمكانيّة أن يكون ذكيًّا، ومبدعًا، ومبتكِرًا. لقد تطوّرْنا… لكنّ أفكارنا حول الجندر (الجنوسة) لم تتطوّر كثيرًا.
منذ وقت ليس ببعيد دخلتُ بهوَ أحد أفضل الفنادق في نيجيريا. أوقفني أحدُ الحرّاس عند المدخل وسألني أسئلةً مزعجة: ما اسم الشخص الذي كنتُ أزوره؟ وما رقمُ غرفته؟ وهل أعرفه؟ وهل بإمكاني إثبات أنّني نزيلة الفندق بإظهار بطاقتي الممغنطة؟ وهذا كلّه لافتراض الحارس، على الفور، أنّ الأنثى النيجيريّة التي تدخل فندقًا وحدَها لا بدّ من أن تكون بائعةَ هوًى، إذ لا يمكن امرأةً نيجيريّةً تحمُّلُ كلفة غرفةٍ من تلقاء ذاتها. أمّا الرجل الذي يدخل الفندق وحيدًا فلن يضايقه أحد، ويُفتَرض أنّه هناك للقيام بعملٍ “مشروع” (بالمناسبة: لماذا لا تركّز تلك الفنادق على ناحية الطلب على بائعاتِ الهوى، بدلًا من تركيزها على العرْض المزعوم؟)
في لاغوس، لا أستطيع الذهابَ وحيدةً إلى العديد من النوادي والبارات الشهيرة. بكلّ بساطة لا يُسمح بدخولك إذا كنتِ امرأةً بمفردك، بل يجب أن تكوني برفقةِ رجل. لذلك لديّ أصدقاء ذكور يأتون إلى النوادي وحدهم، لكنّهم يدخلونها متأبّطين ذراعَ شخصٍ غريبٍ تمامًا؛ وذلك أنّ هذا الشخص الغريب، الذي هو امرأةٌ خرجتْ وحيدةً، لا تملك سوى أن تطلب “المساعدةَ” للدخول إلى النادي.
كلّما دخلتُ مطعمًا نيجيريًّا برفقة رجل، حيّاه النادلُ وتجاهلني. الندُل نتاجُ مجتمعٍ علّمهُم أنّ الرجال أهمُّ من النساء. أعْلمُ أنّهم لا يضمرون أيَّ أذًى، لكنْ هناك فرق بين أن تدركَ شيئًا ما بعقلك، وأن تشعرَ به عاطفيًّا. كلّما تجاهلوني شعرتُ أنّني غيرُ مرئيّة، وشعرتُ بالإحباط، ووددتُ إخبارَهم أنّني بشرٌ مثل الرجل، وأنّني جديرةٌ بالاعتبار مثلَه. هذه أشياء صغيرة، لكنّ الأشياء الصغيرة هي أكثرُ الأشياء إيلامًا.
منذ فترة ليست بالطويلة كتبتُ مقالًا حول معنى أن تكوني أنثى وشابّةً في لاغوس. أخبرني أحدُ معارفي أنّه كان مقالًا غاضبًا، وأنّه لم يكن عليَّ أن أكتبَه غاضبًا على ذلك النحو؛ لكنّني لم أكن مستعدّةً للاعتذار. بالطبع كان المقال غاضبًا. فأمور الجندر (الجنوسة)، كما هي اليوم، تتسبّب بإجحافٍ جسيمٍ، وأنا غاضبة. وحريٌّ بنا أن نكون جميعًا غاضبين،لأنّ للغضب تاريخًا طويلًا في التغيير الإيجابيّ. وبالإضافة إلى الغضب، فإنّ الأمل يغمرني، لأنّني أؤمن إيمانًا كبيرًا بقدرة البشر على إعادة تشكيل أنفسهم نحو الأفضل.
لكنْ، لنعدْ إلى الغضب. فلقد سمعتُ التحذيرَ في نبرة ذلك الشخص. وعرفتُ أنّ تعقيبَه ذاك، بقدرِ ما كان عن المقال، قد كان أيضًا عن شخصيّتي. الغضب، كما أوحت نبرتُه، شيءٌ غيرُ جيّد، ولا سيّما للمرأة. إذا كنتِ امرأةً فإنّه لا يُفترض أن تعبّري عن الغضب لأنّه ينطوي على التهديد. لديّ صديقة، امرأة أمريكيّة، تولَّت منصبًا إداريًّا بعد أحد الرجال. كان سَلَفُها “جسورًا مصمِّمًا على الفوز بمراده”؛ وكان فظًّا، ومتطلّبًا، وصارمًا من ناحية التوقيع على كشف دوام الحاضرين والمنصرفين. تولَّت عملَها الجديد، وتخيَّلتْ نفسَها بالصلابة نفسها، لكنْ ــــ ربّما ــــ ألطف منه قليلًا؛ فهو لم يدرك على الدوام أنّ للموظفين عائلاتٍ، كما قالت، في حين أنّها كانت تدرك ذلك. لكنْ لم تُمضِ بضعةُ أسابيع على عملها الجديد حتّى عاقبتْ موظّفًا بسبب الغشّ في كشْف الدوام، تمامًا كما كان سلفُها سيَفعل. عندها اشتكى الموظّفُ من أسلوبها لدى الإدارة العليا، وقال إنّها كانت عدائيّةً ويصعب العملُ معها. وافقه بعضُ الموظّفين، وقال أحدُهم إنَّهم كانوا يتوقّعون أن تُضفي “لمسةً أنثويّةً” على جوّ العمل، غير أنّها لم تفعل. ولكنْ لم يخطر في بال أيٍّ منهم أنّها فعلتْ ما استحقّ الرجلُ الثناءَ عليه!
لديّ صديقةٌ أخرى، امرأةٌ أمريكيّة أيضًا، تعمل بأجرٍ عالٍ في مجال الإعلان. ضمن الفريق الذي تعمل فيه امرأةٌ ثانية. ذاتَ مرّة، في أحد الاجتماعات، أخبرتني أنّها شعرتْ باستخفافِ مديرها لها لأنّه تجاهل ملاحظاتِها في حين أثنى بعد ذلك على قولٍ مماثلٍ صَدَرَ عن رجل. أرادت أن تجهرَ برأيها، أن تتحدّى مديرَها، لكنّها لم تفعل. وبدلًا من ذلك، بعد انتهاء الاجتماع، ذهبتْ إلى الحمّام، وبكت. ثمَّ هاتفتني كي تنفِّسَ عن غضبها. لم تُرِد الجهرَ برأيها لأنّها لم ترغب في أن تظهر عدائيّةً. تركتْ سخطَها يغلي في داخلها.
ما أدهشني ــــ سواءٌ فيها أو في غيرها من صديقاتي الأمريكيّات ــــ هو مقدارُ اهتمامهنّ بأن يَكُنّ “محبوبات”؛ كيف نُشِّئنَ على الإيمان بأنّ كونهنّ محبوباتٍ شيءٌ مهمٌّ جدًّا، وأنَّ صفة “المحبوبة” تلك شيءٌ محدّد. وهذا الشيء المحدّد لا يتضمّن إظهارَ الغضب، أو ممارسةَ العدائيّة، أو الاعتراضَ بصوتٍ أكثر ارتفاعًا ممّا ينبغي.
نُمضي أكثرَ ممّا ينبغي من الوقت ونحن نُلقّنُ الفتيات أن يقلقنَ ممّا يعتقده الفتيانُ عنهنّ، لكنّ العكس غير صحيح؛ فنحن لا نعلّم الفتيانَ أن يهتمّوا بأن يكونوا محبوبين. نمضي أكثرَ ممّا ينبغي من الوقت ونحن نُخبر الفتياتِ أنْ ليس بإمكانهنّ أن يكُنّ غاضباتٍ أو عدائيّاتٍ أو صارمات؛ وهذا سيّئ في ذاته. غير أنّنا نُثْني على الرجال عندما يفعلون ذلك، أو نلتمسُ لهم الأعذارَ. في كلّ أنحاء العالم، هناك العديد من المقالات والكتب التي تملي على المرأة أفعالَها، كيف عليها أن تكون أو لا تكون، كي تجتذب الرجلَ أو ترضيَه. بينما يوجد أقلّ من ذلك بكثير من الإرشادات الموجَّهة إلى الرجال عن كيفيّة إرضاء النساء.
أُدير ورشةَ عملٍ عن الكتابة في لاغوس، وقد أخبرتني إحدى المشاركات ــــ وهي امرأةٌ شابّة ــــ أنّ أحد أصدقائها نصحها بألّا تُصغي إلى “حديثي النسويّ،” وإلّا فإنّها قد تتشرّب أفكارًا تدمِّر زواجَها. وهذا التهديد ــــ تدميرُ الزواج أو احتمالُ عدم الزواج على الإطلاق ــــ يمكن أن يُستخدمَ في مجتمعنا ضِدّ المرأة أكثرَ بكثير ممّا يُستخدم ضِدّ الرجل.
أمورُ الجندر (الجنوسة) مهمّة في كلّ أنحاء العالم. وأودُّ اليوم أن أطلبَ أن نبدأ في الحلم بعالمٍ مختلف، وفي التخطيط له: عالمٍ أكثرَ إنصافًا؛ عالمٍ من رجالٍ ونساءٍ أكثرَ سعادةً، وأكثرَ صدقًا مع أنفسهم. ويمكننا أن نبدأ على النحو الآتي: يجب أن ننشئ بناتنا بشكلٍ مختلف؛ كذلك يجب أن نُنشئ أبناءنا بشكل مختلف.
إنّنا نتسبّب بأذًى بالغٍ للفتيان عبر طريقة تنشِئَتِنا لهم. نخنق إنسانيَّتهم. نعرِّف الذكورةَ بطريقةٍ محدودةٍ جدًّا. الذكورة قفص صغير صلب، ونحن نضع الفتيانَ في هذا القفص. نعلِّم الفتيانَ أن يخافوا من الخوف، ومن الضعف، ومن سرعة التأثّر. نعلِّمهم أن يُخْفوا ذواتِهم الحقيقيّةَ لأنّ عليهم أن يكونوا ــــ كما يقول النيجيريون ــــ رجالًا أقوياء.
في المدرسة الثانويّة، يخرج الفتى والفتاة معًا؛ كلاهما مراهقٌ ذو مصروفٍ زهيد. ومع هذا يُتوقَّع من الفتى دفعُ الحساب على الدوام، وذلك كي يثبتَ ذكورتَه (ثمّ نتساءل لماذا يرجَّح أن يَسرق الفتيانُ المالَ من والدِيهم أكثر ممّا تفعل الفتيات). لكنْ، ماذا لو تربّى الفتيانُ والفتياتُ، جميعًا، على عدم ربط الذكورة بالمال؟ ماذا لو لم يكن موقفُهم: “على الفتى أن يَدفع،” بل: “على مَن يملك أكثر أن يدفع”؟ بالطبع، وبسبب تميُّز الرجال عبر التاريخ، فإنّ أكثر مَن يمتلكون المال سيكونون من الرجال اليومَ. لكنْ، إذا بدأنا بتربية الأطفال بشكلٍ مختلف، فخلال خمسين عامًا، أو مئة عام، لن يرزح الفتيانُ تحت عبء إثبات ذكورتهم بطرقٍ مادّيّة.
إلّا أنّ أسوأ ما نرتكبه في حقّ الذكورــــ عبر إشعارهم بأنّ عليهم أن يكونوا قساةً ــــ هو أنّنا نتركُهم بـ”إيغوات” [أنَواتٍ] هشّةٍ جدًّا. فكلَّما شعر الرجلُ أنّ عليه أن يكون أقسى، ضَعُفتْ أناه.
ثمّ إنّنا نتسبّب بأذًى أعظمَ بكثيرٍ للفتيات، لأنّنا ننشِئهنّ على إرضاء الأنا الهشّة عند الذكور. نُعلّم الفتياتِ أن يُقزّمنَ أنفسَهنّ، أن يُصبحنَ أصغرَ حجمًا. نقول للفتاة: يجوز أن يكون لديك الطموحُ، لكنْ ليس أكثر ممّا ينبغي. يجب أن تَصْبي إلى أن تكوني ناجحةً، لكن ليس أكثرَ ممّا ينبغي؛ وإلّا فستهدّدين الرجل. إذا كنتِ المعيلةَ في علاقتك بالرجل، تظاهري بالعكس، وخصوصًا في العلن؛ وإلّا فستخصيْنَه.
لكنْ، ماذا لو ناقشْنا الفرضيّةَ نفسَها: لماذا يجب أن يهدِّد نجاحُ المرأة الرجلَ؟ ماذا لو قرّرنا أن نتخلّصَ من تلك الكلمة ــــ ولا أعرف إنْ كانت ثمّة كلمةٌ إنكليزيّةٌ أكرهها أكثر من هذه: (emasculation) [الخَصْي]؟
ذاتَ مرّة، سألني أحدُ معارفي النيجيريين إنْ كان يقلقني احتمالُ أن يهابَني الرجالُ. لم أكن قلقةً على الإطلاق ــــ بل لم يخطر في بالي أن أقلق لأنّ رجلًا من هذا الصنف بالضبط لا يقع ضمن نطاق اهتمامي. ومع هذا، فقد تفاجأتُ بالسؤال. فلأنّني أنثى، فإنَّه يُتَوقّع منّي أن أتطلّعَ إلى الزواج، أن أبني خياراتِ حياتي على أساس أنّ الزواج هو الخيارُ الأهمّ. يمكن أن يكون الزواج شيئًا جيّدًا، مصدرًا للمتعة، للحبّ، للدعم المتبادل؛ لكنْ، لماذا نعلِّم الفتيات أن يطمحن إلى الزواج، ولا نعلِّم الفتيانَ الشيءَ ذاتَه؟
أعرف امرأةً نيجيريّةً قرّرتْ بيعَ منزلها لأنّها لم ترغب في دفع أيّ رجل يريد الزواج منها إلى الخجل [بسبب ثرائها].
وأعرف كذلك امرأةً في نيجيريا، غيرَ متزوّجة، ترتدي خاتمَ زواجٍ عند حضورها إلى المؤتمرات لأنّها، على حدّ زعمها، تريد من زملائها “أن يحترموها.” المحزن في الأمر أنّ خاتمَ الزواج سيجعلها، بالفعل، وتلقائيًّا، جديرةً بالاحترام؛ بينما عدمُ ارتداء خاتم الزواج سيجعل تجاهلَها أمرًا سهلًا. وهذا يحدث كلّه في مكانِ عملٍ معاصر.
أعرف شابّاتٍ في نيجيريا يرزحن تحت ضغطٍ هائل ــــ من العائلة والأصدقاء، بل من العمل أيضًا ــــ كي يتزوّجنَ، إلى حد دفعهنّ إلى اتّخاذ خياراتٍ مروِّعة.
يُعلِّم مجتمعُنا المرأةَ التي تبلغ سنًّا معيّنةً من دون زواج أن تَعتبر ذلك إخفاقًا شخصيًّا. بينما يُعتبرُ الرجل غير المتزوّج في سنٍّ معيّنٍة شخصًا لمّا يجد مَن “تناسبه” بعد.
من السهل القول: لكنّ في مقدور النساء أن يقلن “لا” لذلك كلّه. غير أنّ الحقيقة أصعبُ من ذلك وأعقد. فنحن جميعًا مخلوقاتٌ اجتماعيّة، ومن ثمّ فإنّنا نوطِّن [نستدخل] أفكارًا من تنشئتنا الاجتماعيّة. حتّى اللغة التي نستخدمها توضح ذلك؛ فلغة الزواج هي دائمًا لغةُ تَملُّكٍ، لا لغةُ شراكة.
نستخدم كلمة “احترام” لأمرٍ تُظهره المرأةُ للرجل، ولكنّنا غالبًا ما لا نستخدمها لأمرٍ يُظهره الرجلُ للمرأة.
سيقول الرجالُ والنساءُ معًا: “لقد فعلتُ ما فعلتُ من أجل السلام في زواجي.” لكنْ عندما يقولها الرجال، فإنّها غالبًا ما تكون عن شيءٍ يجب ألّا يفعلوه أصلًا؛ شيءٍ يقولونه لأصدقائهم بغيظٍ محبَّب؛ شيءٍ يثبت لهم ذكورتَهم في النهاية مثل: “آه، قالت لي زوجتي إنّني لا أستطيع الذهابَ إلى الأندية كلَّ ليلة. لذلك الآن، وحرصًا على السلام في زواجي، أذهب إلى النوادي خلال عطلة الأسبوع فقط.” لكنْ عندما تقول النساء:” فعلتُ ذلك من أجل السلام في زواجي،” فذلك يكون عادةً عند تخلّيهنَّ عن عملٍ، أو طموحٍ مهنيّ، أو حلم.
نعلِّمُ الإناث أنّ التنازل في العلاقات هو ما تفعله المرأةُ غالبًا. نُنشئ الفتيات على اعتبار أنفسهنّ متنافساتٍ بعضهنّ مع بعض، لا على الوظائف أو الإنجازات (وهو أمر يمكن في رأيي أن يكون جيّدًا)، بل على كسب انتباه الرجال.
نُعلّمُ الفتيات أنْ ليس في مقدورهنّ أن يكنّ مخلوقاتٍ جنسيّةً شأن الفتيان. إذا كان لدينا أبناءٌ فلن نمانع في معرفة صاحباتهم الحميمات. لكنْ، أصحاب بناتنا الحميمون؟! لا قدَّرَ الله! (ومع ذلك نتوقع منهنَّ بالطبع، عندما يحين الوقت، أن يُحْضِرنَ الرجلَ “المثاليّ” للزواج).
نراقب الفتيات. نُثْني على عُذريّتهنّ، لكنّنا لا نُثْني على عذريّة الفتيان (وهذا ما يدفعني إلى التساؤل: كيف يمكن أن يحدث ذلك بالضبط؟ ففقدانُ العذريّة عمليّةٌ تتطلّب، في العادة، شخصين من جنسين مختلفين).
مؤخّرًا، تعرّضتْ شابّةٌ إلى اغتصابٍ جماعيّ في إحدى جامعات نيجيريا، وكان ردُّ فعل العديد من الشبّان والشابّات النيجيريين كالآتي: “نعم الاغتصابُ خطأ. ولكنْ، ماذا تفعل فتاةٌ وحدها في غرفةٍ مع أربعة فتيان؟” دعونا، إذا كان ذلك ممكنًا، ننسى اللاإنسانيّةَ المريعةَ في ردّ الفعل ذاك. هؤلاء النيجيريون تربّوْا على اعتبار المرأة مذنبةً في أصلها. وتربّوْا كذلك على ترقُّب القليل من الرجال، حتّى أصبحتْ فكرةُ أنّ الرجال مخلوقاتٌ همجيّةٌ غيرُ قادرةٍ على ضبط نفسها مقبولةً نوعًا ما.
نُعَلِّمُ الفتياتِ الحشمةَ: “ضُمّي ساقيْكِ، غَطِّي نفسَكِ.” نُشعرهنَّ بأنّ مجرّد ولادتهنّ إناثًا يجعلهنَّ مذْنباتٍ في أمرٍ ما. لهذا تكبر الفتياتُ ليُصبِحنَ نساءً غيرَ قادرات على القول إنّ لديهنّ رغبات؛ نساءً يَقمعنَ أنفسَهنّ؛ نساءً غيرَ قادراتٍ على الإفصاح عن أفكارهنّ الحقيقيّة؛ نساءً حَوَّلن الادّعاءَ إلى شكلٍ من أشكال الفنّ.
أعرف امرأةً تكره الأعمال المنزليّة، لكنّها تتظاهر بحبّها إيّاها لأنّها تعلّمتْ أنّها كي تكون “خامةَ زوجةٍ صالحة،” فعليها أن تكون ــــ لنستخدم تلك الكلمة النيجيريّة ــــ “بيتوتيّة.” بعد ذلك تزوّجتْ. ومن ثمّ بدأتْ عائلةُ زوجها تشتكي من أنّها تغيرت. والواقع أنها لم تتغيّر، بل تعبت، فحسب، من التظاهر بما ليست عليه.
المشكلة في الجندر أنّها تصف لنا كيف ينبغي أن نكون، بدلًا من أن ندرك كيف نحن. تخيّلوا كم سنكون أكثر سعادةً، وكم ستكون ذواتنا الحقيقية المفردة أكثر حريّةً، لو لم نكن نرزح تحت ثقل توقّعات الجندر.
لا شكّ في أنّ الفتيان والفتيات يختلفون بيولوجيًّا. لكنّ التنشئة الاجتماعيّة تبالغ في تقدير هذه الاختلافات، ومن ثمّ تبدأ عمليّةً لإثبات [تلك المبالغة]. لنأخذ الطبخَ على سبيل المثال. في يومنا هذا، من المرجّح أن تقوم النساءُ، عمومًا، بالأعمال المنزليّة، كالطبخ والتنظيف، أكثرَ من الرجال. لكنْ، ما سببُ ذلك؟ أتولدُ النساء حاملاتٍ لموروثةِ (جينة) الطبخ، أمْ أنّهنّ ــــ مع مرور السنوات ــــ تَربّيْنَ على اعتبار الطبخ مهمّتَهنَّ؟ أوشكتُ أن أقول إنّ النساء ربّما يولدْنَ حاملاتٍ لموروثة الطبخ، لكنّني تذكّرتُ أنّ معظم الطبّاخين المشهورين في العالم، ممّن نطلق عليهم اللقبَ الفاخرَ “شيف،” هم من الرجال.
كنتُ قد اعتدتُ النظرَ إلى جدّتي، وهي امرأةٌ لامعة، فأتساءل عمّا كان يمكن أن تكون لو توافرتْ لها، في شبابها، فُرَصُ الرجال. اليوم، هناك فرصٌ للنساء تفوق ما كان للنساء زمنَ جدَّتي، وذلك بسبب التغيّرات التي طرأتْ على السياسة والقانون، وهي تغيّرات مهمّة جدًّا. لكنْ ما يهمّ أكثرَ من ذلك هو موقفُنا، وطريقةُ تفكيرنا.
ماذا لو ركّزنا ــــ عند تربية الأطفال ــــ على المقْدرة، عوضًا من الجندر (النوع الجنسيّ)؟ ماذا لو ركّزنا على الاهتمامات، بدلًا من الجندر؟ أعرف عائلةً لديها ابنٌ وابنة، يفصلهما عامٌ واحدٌ، كلاهما لامعٌ في المدرسة. عندما يجوع الابنُ يقول الوالدان للبنت للفتاة: “اذهبي واطبخي معكرونةَ الإندومي لأخيكِ.” الفتاة لا تحبّ طبخَ الإندومي، لكنّها فتاة، وعليها أن تقوم بذلك. فماذا لو علَّم الأبوان ولديْهماكليْهما، منذ البداية، طهوَ الإندومي؟ وبالمناسبة، فإنّ الطبخ مهارةٌ حياتيّةٌ عمليّةٌ على الفتى أن يمتلكها. أجد أنّه من غير المنطقيّ أن نترك شيئًا أساسيًّا كهذا ــــ أيْ كالقدرة على تغذية الذات ــــ في أيدي الآخرين.
أعرف امرأةً حصتْ على الشهادة والوظيفة اللتين يتمتع بهما زوجُها. عندما يعودان من العمل تقوم هي بمعظم الأعمال المنزليّة؛ وهذا واقعُ العديد من الزيجات. لكنّ ما صدمني هو أنّه كلّما غيّر زوجُها حفاظاتِ طفلهما قالت له “شكرًا.” ماذا لو اعتبرتْ أنّه من الطبيعيّ والعاديّ أن يساعدها في العناية بطفله؟
أحاول أن أجتثّ الكثيرَ من الدروس التي استدخلتُها عن الجندر (الجنوسة) خلال سنوات نموّي. لكنّي ما زلتُ، في بعض الأحيان، أشعر أنّني ضعيفةٌ أمام ما تتوقّعه مسائلُ الجندر منّا.
كنتُ قلقةً حين درَّستُ صفًّا عن الكتابة في الجامعة للمرّة الأولى. لم أكن قلقةً من المادّة التي سأدرّسُها؛ فقد كنتُ جاهزةً تمامًا، وكنت أُدرّسُ ما أُحبّ. بل كنتُ قلقة ممّا يجب أن أرتديه. أردتُ أن أؤخَذَ على محمل الجِدّ. كنتُ أعرف أنّ أنثويّتي تحتّم عليّ، أوتوماتيكيًّا، أن أثْبتَ جدارتي. وكنتُ قلقةً من أنّني إذا بَدَوْتُ بالغةَ الأنوثة فإنّني لن أؤخَذَ على محمل الجِدّ. كنتُ أرغب حقيقةً في أن أرتدي تنّورتي “البناتيّة،” وأن أضع ملمِّعَ شفاهٍ برّاقًا. لكنّني قرّرتُ ألّا أفعل ذلك، فارتديتُ بذلةً شديدةَ الجدّيّة والرجوليّة والبشاعة.
الحقيقة المحزنة في الموضوع أنّنا، عندما يتعلّق الأمرُ بالمظاهر، ننطلق من أنّ الرجال هم المقياس، وهم المعيار. كثيرون منّا يعتقدون أنّه كلّما بدت المرأةُ أقلَّ أنوثةً، زاد احتمالُ أن تُؤخذ على محمل الجِدّ. عندما يذهب الرجلُ إلى اجتماع عمل، فإنّه لا يتساءل إنْ كان سَيُؤخذ على محمل الجِدّ بناءً على ما يرتديه، في حين أنّ المرأة تتساءل فعلًا.
ليتني لم أرتدِ تلك البذلةَ البشعةَ في ذلك اليوم. لو كانت لديّ آنذاك الثقةُ التي أمتلكها اليوم، الثقةُ بأن أكون أنا ذاتي، لاستفادَ طلّابي من تدريسي أكثرَ ممّا استفادوا أصلًا؛ لأنّني سأكون عندها أكثرَ ارتياحًا، وسأكون نفسي بشكلٍ أكملَ وأكثرَ حقيقةً.
لقد اخترتُ ألّا أعتذرَ عن نسويّتي بعد اليوم. وأريد أن أُحترَمَ بكامل أنثويّتي لأنّني أستحقّ ذلك. أحبّ السياسة والتاريخ، وأكون في منتهى سعادتي عندما أخوضُ جدالًا فكريًّا جيّدًا. أنا “بنّاتيّة” (girlish). أنا بنّاتيّة سعيدة. أحبّ الكعوبَ العالية، وأحبّ أن أجرّبَ أنواعَ أحمر الشفاه. لطيف أن نتلقّى الثناءَ من الرجال والنساء معًا (بالرغم من أنّني، وبصدقٍ، أفضّلُ أن تثْني عليّ النساءُ اللولتي يرتدين أزياءً عصريّةً)، لكنّني غالبًا ما أرتدي ملابسَ لا يحبّها الرجالُ أو لا “يفهمونها.” أرتديها لأنّها تعجبني، ولأنّني أشعر بالرضى عند ارتدائها. “نظرةُ الذَكَر،” كمنطلقٍ لتحديد خياراتي في الحياة، أمرٌ عارضٌ إلى حدٍّ بعيد.
الجنوسة (الجندر) ليست بالموضوع الذي تَسْهل مناقشتُه، لأنّها تجعل الناس غير مرتاحين، بل سريعي الانفعال أحيانًا. النساء والرجال معًا يمانعون الحديثَ عن الجنوسة، أو يصرفون النظرَ عن مشاكلها بسرعة؛ ذلك لأنّ التفكير في تغيير الوضع القائم أمرٌ غير مريح دائمًا.
يسأل البعض: ” لماذا كلمة نسويّة؟ لماذا لا تكتفين بالقول إنّكِ مؤمنةٌ بحقوقِ الإنسان، أو شيءٍ من هذا القبيل؟” [أجيب:] لأنّ ذلك سيكون تحايلًا. النسويّة، بالطبع، جزءٌ من حقوق الإنسان عامّةً. لكنّ اختيار استخدام مصطلح “حقوق الإنسان” الغامض يعني إنكارَ المشاكل المحدَّدة والخاصّة بالجنوسة (الجندر). ستكون هذه طريقةً للتظاهر بأنّ النساء لسن هنَّ من أُقصينَ واستُبعِدن قرونًا عديدة؛ ستكون طريقةً لنُنكِرَ فيها أنَّ مشكلة الجنوسة تستهدفُ النساء؛ وأنّ المشكلة ليست في كونِك مخلوقًا بشريًّا بل في كونِك مخلوقًا بشريًّا أنثى تحديدًا! لقرونٍ طوالٍ قسّمَ العالمُ البشرَ إلى مجموعتين، ثمّ مضى في استبعاد إحداهما وقمعها. وسيكون من الإنصاف أن يُقرّ حلُّ هذه المشكلة بهذا الأمر.
يشعر بعضُ الرجال بأنّ فكرة النسويّة تهديدٌ لهم. وهذا ناجمٌ، على ما أظنّ، عن انعدام حس الأمان عندهم بسبب طريقة تنشئة الفتيان؛ كيف أنّ احترامَهم لذواتهم يتضاءل إذا لم يكونوا “وبشكل طبيعيّ” ممسكين بزمام الأمور كرجال.
قد يجيب رجالٌ آخرون: “حسنًا، هذا مثير للاهتمام، لكنّني لا أفكّر بتلك الطريقة. لا أفكّرُ في موضوع النسويّة على الإطلاق.” ربّما هذا صحيح، ولكنّه جزء من المشكلة: أن لا يفكّر كثيرٌ من الرجال بشكلٍ فاعلٍ في موضوع الجندر أو يلاحظونه؛ أن يقول كثيرٌ منهم، كما قال صديقي لويس: “لربّما كانت الأمورُ سيّئة في ما مضى، لكنّ كلّ شيء على ما يرام الآن”؛ أن لا يفعل كثيرٌ من الرجال شيئًا لتغيير الوضع. إذا كنت رجلًا، ودخلتَ مطعمًا، وحيّاك النادلُ وحدك [من دون الأنثى التي ترافقك]، فهل سيخطر في بالكَ أن تسأله: “لماذا لم تحيّيها هي أيضًا؟” على الرجال أن يرفعوا صوتَهم عاليًا في جميع هذه المواقف الصغيرة الجليّة.
ولأنّ الجنوسة (الجندر) يمكن أن تكون محرِجة، فإنّ هناك طُرقًا بسيطةً لإنهاء المحادثة حولها. سيشير البعض إلى بيولوجيا التطوّر والقرود، وكيف أنّ إناثَ القرود تنحني لذكورها، أو سيشيرون إلى شيء من هذا القبيل. لكنّ النقطة المهمّة هي الآتية: نحن لسنا قرودًا. ثم إنّ القرود تعيش على الأشجار وتأكل ديدانَ الأرض، أمّا نحن فلا نفعل ذلك.
البعض الآخر سيقول: “حسنًا. يعاني الرجالُ الفقراءُ أيضًا أزماتٍ عصيبةً.” نعم، هذا صحيح، لكنّ هذا ليس موضوعَ هذه المحادثة. الجنوسة والطبقة الاجتماعيّة موضوعان مختلفان؛ فالرجال الفقراء لا يزالون يحظون بامتيازات كونهم رجالًا، ولو لم يكن لديهم امتيازُ الثراء. لقد تعلَّمتُ الكثير عن أنظمة الاضطهاد، وكيف يمكنها التعامي بعضها عن بعض، وذلك من خلال حديثي مع رجالٍ سود. كنتُ ذات مرّة أتحدّث عن الجنوسة عندما قال لي أحدُهم: “لماذا يجب أن يكون حديثُكِ منطلِقًا من كونك امرأةً، لا كائنًا بشري؟” إنّ سؤالًا من هذا النوع هو طريقة لقمع التجارب الخاصّة لشخصٍ ما. بالطبع أنا كائنٌ بشريّ، لكنّ هناك أشياء محدّدة تحدث لي في العالم لـ[مجرّد] كوني امرأةً. بالمناسبة، هذا الرجل ذاتُه يتحدّث دائمًا عن تجاربه كرجلٍ أسود (وكان من الممكن أن أجيبه: ولماذا لا تتحدّث عن تجاربك كرجلٍ أو كائنٍ بشريّ؟ لماذا كرجلٍ أسود؟).
إذًا جوابي هو كلا، هذه المحادثة هي عن الجنوسة (الجندر). سيقول البعض: “آه، إنّ النساء يمتلكنَ القوّة الحقيقيّة، قوّةَ القاعدة [المؤخَّرة]” (هذا مصطلحٌ نيجيريّ لوصف المرأة التي تَستخدم جنسانيّتها لتحصل من الرجال على مبتغاها). لكنّ “قوّة القاعدة” ليست بقوّةٍ على الإطلاق، لأنّ المرأة التي تمتلك هذه القوّةَ ليست قويّةً في الحقيقة؛ كلُّ ما في الأمر أنّ لديها وسيلةً جيّدةً لـ”نقْر” سلطةِ شخصٍ آخر. ولكنْ ماذا سيحدث إذا كان الرجل بمزاجٍ سيّئ؟ أو كان مريضًا؟ أو عاجزًا [جنسيًّا] بشكل موقّت؟
سيقول البعض إنّ المرأة تتبع الرجل لأنّ تلك هي ثقافتُنا. لكنّ الثقافة تتغيّر باستمرار. لديَّ ابنتَا أخ توأمان جميلتان في الخامسة عشرة. ولو أنّهما وُلدتا قبل مئة عام لأُخِذتا بعيدًا وقُتلتا؛ فقبل مئة عام، كانت ثقافةُ شعب الإيغبو تعتقد أنّ ولادةَ التوائم نذيرُ شؤم. أمّا اليوم فلا يمكن شعبَ الإيغبو أن يتصوّرَ تلك الممارسة.
ما الهدفُ من الثقافة؟ الثقافة في نهاية المطاف تعمل كي تضمن الحفاظَ على البشر واستمرارَهم. في عائلتي، أنا الأكثر اهتمامًا بسرد حكايةِ مَن نحن، في أرض الأجداد، أو في تقاليدنا. لا يمتلك أشقّائي الاهتمامَ نفسَه، لكنّني لا أستطيع المشاركةَ لأنّ ثقافة الإيغبو تمنح الرجالَ وحدهم هذا الامتياز، وفي العائلة الممتدّة يمكن الذكورَ وحدهم حضورُ الاجتماعات التي تُتّخذ فيها القراراتُ العائليّةُ المهمّة. لهذا، وعلى الرغم من كوني أكثرَهم اهتمامًا بهذه الأمور، فإنني لا أستطيع حضورَ هذه الاجتماعات، ولا يمكن أن يكون لي رأيٌ رسميّ لأنّني أنثى.
الثقافة لا تصنع الشعوب. الشعوب هي التي تصنع الثقافة. فإذا كان صحيحًا أنّ اعتبار المرأة مخلوقًا كاملًا ليس جزءًا من ثقافتنا، فإننا نستطيع ــــ بل علينا ــــ أن نجعله كذلك.
غالبًا جدًّا ما أفكر في صديقي أوكولوما، عليه الرحمة، هو وكلّ مَن قضى معه في حادث تحطّم طائرة سوسوليسو. ستبقى ذكراه مؤبّدةً لدى كلّ مَن أحبَّه. ولقد كان محقًّا عندما وصفني بالنسويّة في ذلك اليوم منذ سنوات خلَت. أنا نسويّةٌ فعلًا.
عندما بحثتُ عن معنى هذه الكلمة في القاموس، منذ سنين بعيدة، قرأتُ: “نسويّة: شخص يؤمن بالمساواة الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة بين الجنسين.”
كانت جدَّةُ جدَّتي ــــ بحسب ما سمعتُ عنها من القصص ــــ نسويّةً. فقد هربتْ من منزل الرجل الذي لم ترغب في الزواج منه، وتزوّجت الرجلَ الذي اختارته. اعترضتْ، رفضتْ، جهرتْ بحقّها عندما حُرِمت الأرضَ والدخولَ إليها لمجرّد كونها أنثى. لم تكن تعرف كلمة “نسويّة،” لكنّ هذا لا يعني أنّها لم تكن كذلك. واليوم، ينبغي على عدد أكبر منّا أن يستردّ هذه الكلمة. أفضلُ النسويين الذين أعرفهم هو أخي كين، وهو أيضًا شابّ لطيف، جميلُ الطلعة، وذكَريٌّ جدًّا (يتمتّع بصفات الذكر). تعريفي أنا لكلمة “نسويّ” هو:
رجل أو امرأة يقول: بلى، ثمّة مشكلة في الجندر (النوع الجنسيّ) كما نعرفه اليوم. ويجب أن نجد حلًّا لها. يجب أن يكون أداؤُنا أفضل. علينا جميعُنا، رجالًا ونساءً، أن يكون أداؤُنا أفضل.
1- قانون ليلي ليدبتر للأجر المنْصف، ويحمل اسم عاملة المصنع ليلي ليدبتر، من ولاية ألاباما، هو أوّل قانون وقّعه باراك أوباما بعد تولّيه الرئاسة.
_________
*تشيماماندا نجوزي أديتشي: وُلدتْ في نيجيريا سنة 1977.
لها العديد من المؤلَّفات التي تُرجمتْ إلى ثلاثين لغة. نَشرتْ مقالاتِها مجلاتٌ شهيرة مثل نيويوركر، وغرانت، وفاينانشال تايمز. حازت رواياتُها، ومنها زهرة الكركديّة الأرجوانيّة (2003) ونصف شمس صفراء (2006) وأمريكانا (2013)، عددًا من الجوائز. نَشَرت في عام 2009 مجموعة قصصيّة حملتْ عنوان: الشيء الذي حول عنقكَ.“علينا أن نكون جميعًا نسويين” نسخة مكتوبة من كلمة ألقتها سنة 2012 في تدكس يوستون.
_______
*المصدر: مجلة الآداب
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
-
أهمية أن نستعيد ابن رشد*د. حسن مدن المعركة التي تخاض اليوم ضد الظلامية والتطرف والتعصب والعنف وضد «الداعشية»، فكرا…