*نديم جرجورة
لن يستقيم النقاش النقديّ ـ المتعلّق بالأفلام الفائزة بجوائز المسابقة الرسمية، في الدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان “كانّ” السينمائيّ الدوليّ ـ من دون التنبّه إلى الاختيارات المعتمَدة (19 فيلماً)، وآلياتها. فالسجال، المُرافِق ليوميات الدورة تلك، خصوصاً في أيامها القليلة الأخيرة، يطرح سؤال القيم الدرامية والجمالية والفنية والأدائية، التي تتمتّع بها الأفلام المختارة، ويُقارِن بينها وبين خياراتِ دوراتٍ سابقة، تكشف (المقارنة) “تراجعاً” في المستويات الإبداعية، لأفلام الدورة الـ 70، بالنسبة إلى تلك المختارة في دورات ماضية. والنقاش ـ إذ يُريد قراءة نقدية تُحرِّر كلّ فيلم من ارتباطه بالمهرجان، وبدورته الاحتفالية، وبالنتائج النهائية لمسابقته الرسمية ـ يجد في الخيارات مدخلاً إلى محاولة تبيان معالم اللحظة السينمائية، المتمثّلة بالعروض والجوائز معاً.
أسئلة الاختيار والفوز
السمة التي تطبع الأفلام المختارة للمسابقة الرسمية، تتمثّل بتعبير “هذا أفضل ما يُمكن الحصول عليه” من الإنتاجات الحديثة؛ مع ما يعني هذا من أن الأفلام الفائزة تُوصف، تلقائياً، بأنها “أفضل الموجود”. لكن تعبير “أفضل”، في الحالتين، لن يكون ركيزة نقدية للأفلام، لأنه يحول دون تقديم أجوبةٍ، يُفترض بها أن تبقى في إطار نقديّ، بعيداً عن المهرجان وآلية اختياره الأفلام، وأسباب منح بعضها جوائز. فالخيارات حكرٌ على إدارة المهرجان، وحساباتها المنبثقة من استراتيجية عملها السنوي، وكيفية متابعتها الحراك الإنتاجي للصناعة السينمائية الدولية، وآلية تسويقها. والنتائج النهائية رهنٌ بـ “أمزجة” ـ فنية وثقافية وفكرية وسينمائية وأخلاقية (بالمعنيين الاجتماعي والإنساني) ـ تحرِّك أعضاء لجان التحكيم، في نقاشاتهم التي تسبق توافقاً، يبلغونه في نهاية المطاف.
والمهرجان، المُصنَّف “فئة أولى”، يبقى الأهمّ دولياً، وإنْ يُشارك مهرجاني برلين والبندقية التصنيفُ نفسه. ولأن كثيرين يرونه “ولادة رسمية وشرعية وطبيعية” لأفلام مُنتجة حديثاً ـ يكفيها أنها اختيرت لـ “العرض الدولي الأول” في مسابقته الرسمية، أو في برامج ومسابقات أخرى ـ تصبح مسؤوليته أكبر وأعمق، على مستويي الاختيار والتسويق، فإذْ بالجوائز الممنوحة لبعض تلك الأفلام تُضاعف من المسؤولية، وتأثيراتها على المسارات اللاحقة للأفلام الفائزة، ولصانعيها، ولغالبية العاملين فيها، من دون تناسي التأثير المُمارَس على الأفلام غير الفائزة أيضاً، رغم أنها مكتفيةٌ، على الأقلّ، بـ “الختم” الذي يسمها بعبارةٍ، تؤكّد مثول هذا الفيلم أو ذاك في حضرة “كانّ”، علماً أن الجائزة، كلّ جائزة في المسابقة الرسمية وغيرها، إضافة لـ “نجاحٍ” يسبق العروض التجارية، والمتابعات النقدية، والنقاشات المطلوبة.
في السياق نفسه، يُستعاد كلامٌ للسينمائيّ الإسباني بدرو ألمودوفار، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، قيل في ثاني مؤتمر صحافي للجنة، معقود بُعيد إعلان النتائج النهائية. كلامٌ يبدو كأنه ردّ على قولٍ له في أول مؤتمر صحافي، قبيل بدء الدورة الـ 70. في المؤتمر الأول، يتمنّى أن يشعر، وأعضاء اللجنة، بالإحساس نفسه لأعضاء لجان تحكيم سابقة، إزاء أفلام كبار، كفيديريكو فيلّيني (1920 ـ 1993) ولوي بونويل (1900 ـ 1983)، مثلاً. لكنه، في المؤتمر الثاني، سيعكس واقعاً يُفيد بـ “انعدام” ما يُثير الدهشة والحماسة والانبهار: “التشبيه لم يكن موفَّقاً”، يقول، ردّاً على من يُذكِّره بأقواله السابقة، مضيفاً: “نحتاج إلى وقتٍ لنتمكّن من إجراء مقارنةٍ بين أعمال هذه الدورة، وأفلام المعلّمين”.
انعدام الدهشة
ما يقوله ألمودوفار يقترب كثيراً من شعورٍ ينتاب نقّاداً وصحافيين سينمائيين، بدءاً من النصف الثاني من الدورة الـ 70: الأفلام المُبهرة غائبة، وإنْ يُبهر بعضها بجوانب فنية وتقنية وأدائية ودرامية، تتفاوت مستوياتها الإبداعية بين فيلم وآخر. في حين أن الميزة الأبرز لغالبية الأفلام تكمن في أهمية الموضوع والمعالجة معاً، بينما تكتفي أفلامٌ قليلة بمواضيعها المهمة فقط. أحد تلك الأفلام، “أنتَ لم تكن هنا إطلاقاً” للاسكتلندية لين رامسي (1969)، ينال جائزتي أفضل سيناريو ـ لرامسي نفسها، مُقتبسةً إياه عن كتاب بالعنوان ذاته، للأميركي جوناثان آيمس (1964) ـ وأفضل ممثل للأميركي يواكين فونيكس (1974). علماً أن جائزة السيناريو ممنوحة، مناصفةً، لرامسي والثنائي اليوناني يورغوس لانتيموس (1973) وإفتيموس فيليبّو (1977)، عن “قتل الغزال المقدّس” للانتيموس.
وإذْ ينال “المربع” للسويدي روبن أوستلوند (1974) “السعفة الذهبية”؛ و”120 دقّة في الدقيقة” للفرنسي روبان كمبيّو (1962) “الجائزة الكبرى”؛ فإن جائزة الإخراج ستكون من نصيب الأميركية صوفيا كوبولا (1971) عن “المخدوع”، الذي تؤدّي الأسترالية نيكول كيدمان (1967)، فيه، دور البطولة النسائية، هي التي تنال جائزة العيد الـ 70 للمهرجان. الألمانية ديان كروغر (1976)، تُصبح أفضل ممثلة، عن دورها في “من العدم” للألماني التركي فاتح آكين (1973)؛ ويحصل “بلا حب” للروسي أندره زفياغينتسيف (1964) على جائزة لجنة التحكيم.
المشترك الدرامي الأول بين هذه الأفلام يكمن في تصويرٍ سينمائيّ متنوّع الأشكال لحالة الانكسار الإنساني للفرد، في بيئته وحيّزه الجغرافي ومداه النفسي ـ الاجتماعيّ؛ في مقابل اختلاف أساليب القراءات السينمائية للانكسار، ولتأثيراته في الفرد وفي علاقاته بذاته ومحيطه، وللدوافع والمسارات المؤدّية به إلى تلك الانكسارات.
والانكسار ـ إذْ ينشأ، أحياناً، من داخل الفرد محطِّماً إياه تدريجياً ـ نتاج عاملٍ خارجي، أحياناً أخرى، مخترقاً كيانه، ومُزلزلاً عالمه الخاص، وكاسراً إيقاعاً يعتاده، فإذا بالعامل الخارجيّ يفتح أمامه نوافذ اكتشافات جمّة، وإنْ تأخذه (النوافذ والاكتشافات معاً) ـ بعنفٍ مبطن أو هادئ ـ إلى جحيم التمزّقات والعفن والعزلة والقلق. هكذا تُرسم مصائر شخصيات، ومساراتها الذاهبة بها إلى نهايات قاسية، أو مدمّرة، أو ملتبسة، أو واضحة أيضاً.
فـ “المربع” غائصٌ في عالم الفنون، معرّياً وقائعه ودهاليزه ومساوئه، عبر رحلة جنون يعيشها كريستيان (كلايس بانغ) بحثاً عن خلاصٍ ما له. و”120 دقة في الدقيقة” يكشف ـ بلغة مائلة إلى أسلوب وثائقي (في الجزء الأول منه، على الأقلّ) لتأريخ سينمائيّ لمرحلة وحالة فرنسيتين، مطلع تسعينيات القرن الـ 20 ـ كيف أن الغضب الفردي نتاج لا مبالاة جماعية بوجع ذاتي، جراء تفشي “مرض فقدان المناعة المكتسبة (إيدز)”، وارتباك الجميع إزاءه، ولا مبالاة السلطة الرسمية والشركات الخاصة بالمعاناة الحادة للمُصابين به (عامل خارجي يُفجّر غضباً ذاتياً، مساهماً في حدّته). و”بلا حبّ” يعكس مسار الهبوط الروحي والمعنوي والنفسي لزوجين مُطلَّقين، الناتج من مآزق ثنائية/ فردية، تزداد مع اختفاء ابنهما الوحيد.
هشاشة الذات
أي أن العامل الخارجي يخترق كينونة الفرد، فيضعه في مواجهة ذاته، من دون تناسي العامل الداخلي البحت، إذْ إن العمق الروحي والمعنوي والفكري والانفعالي للفرد هشٌّ ومُصاب بتمزّقات وآلام، ترتفع وتيرتها المضطربة، بحدوث عامل خارجي ما.
يختلف هذا، ولو قليلاً، عن مسارات شخصياتٍ أخرى، تعاني أهوال الخارج (من دون إغفال ارتباكاتها وقلقها الذاتيين، وإنْ تغيب الارتباكات والقلق ـ أحياناً ـ في بواطن النفس والروح)، فتتقوقع على ذواتها، وتعيش اختبار الموت والغياب والتوهان، قبل أن تعثر على وهم خلاصٍ. في “المخدوع”، مثلاً، سيُشكّل حضور الجندي الجريح جون ماك بورناي (كولن فاريل) في المدرسة الداخلية للفتيات، في الجنوب الأميركي، أثناء “الحرب الأهلية الأميركية” (1861 ـ 1865)، منعطفاً قاسياً في حياة المقيمات فيها، بدءاً من المديرة مارتا فرانسوورث (نيكول كيدمان)، ومساعدتها إدوينا دابناي (كيرستن دانست). وفي “قتل الغزال المقدّس” (تمثيل الثنائي كيدمان وفاريل نفسه)، سيخترق العامل الخارجي كيان عائلة ـ مُصاب أصلاً بعطب التمزّق والهشاشة، وإنْ بشكل مبطّن ـ عبر المراهق مارتن (باري كيوغان)، الساعي إلى تحقيق أشرس انتقام من الجرّاح ستيفن (فاريل)، الذي يتحمَّل مسؤولية موت والده، ذات يوم، أثناء عملية جراحية، بسبب احتسائه الخمر.
في حين أن كاتيا (ديان كروغر) ستُصاب بأشرس هزيمة ممكنة، تتمثّل بمقتل زوجها نوري (نومان آكار) وابنهما الوحيد بسبب تفجير عبوة ناسفة، يتبيّن، لاحقاً، أن منفِّذَيها منتميان إلى حركة النازيين الجدد. لكن تبرئتهما في المحكمة، بسبب عدم كفاية الأدلة، سيُزيد من تمزقها الذاتي، وسيدفعها إلى رحلة انتقام، لا شكّ في أن نهايتها (تفجير كاتيا نفسها لقتل المنفِّذَين معاً) سيُثير نقاشاً أخلاقيا وإنسانياً وسياسياً وسلوكياً، في بلدٍ يعاني مأزق الهجرة والتطرّف، والنزاعات شبه الصامتة في الاجتماع الألماني.
العامل الخارجيّ تحريضٌ أساسيّ لإثارة الذات، وما فيها من انشقاق وارتباك وغضب. هذا حاصلٌ مع جو (يواكين فونيكس) في “أنتَ لم تكن هنا إطلاقاً”: اضطراب نفسي منذ طفولته، جراء وحشية الأب؛ تأثيرات مشاركته في الحرب الأميركية في العراق؛ انعدام أفق الخلاص بعد العودة إلى البلد. وظيفته الجديدة؟ تنفيذ أعمالٍ قذرة (بينها القتل) لصالح من يريدون عدم تلويث أيديهم بها. لكن، عند تكليفه بمهمّة إنقاذ ابنة مساعد المحافظ من براثن “قوّادين”، سيغرق أكثر فأكثر في جحيم الروح والجنون والخراب.
هذه قراءة أولى لأفلامٍ تمتلك حساسية بصرية في مقاربة حكايات واقعية، وتثير حماسة المُشاهدة التي، رغم جمالياتٍ مختلفة تتمتع بها، لن تبلغ مرتبة الدهشة المطلوبة.
____
*ضفة ثالثة