*خيري منصور
للظلّ دلالات وأبعاد تتجاوز تعريفه الفيزيائي، فهو أحيانا الجوهر لا العارض والفعل وليس رد الفعل، هكذا كانت أسطورة الكهف لأفلاطون، حيث العالم يتحول إلى ظلال من خلال ثقوب الكهف. وهناك أسطورة ساكسونية تقول إن الموسيقي والفنان عموما هو مجرد ظلّ، لهذا كانت محاكم ساكسونيا إذا قضت بإعدام فنان توقفه تحت الشمس ويتم إعدام ظلّه فيما يبقى هو حيّا.
وحين كتب كولن ولسون روايته «رجل بلا ظل»، كان يعني ما هو أبعد من هذه العبارة، فالظل صفة بشرية قد تتجسد في الروادع أو الضمير، ومن يفقد ظله، يكون بالضرورة قد فقد توازنه. وهناك حكاية يرويها الكاتب عادل حمودة عن رواية فتحي غانم الشهيرة، التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان «الرجل الذي فقد ظله»، يقول حمودة إن البعض أشاعوا عند صدور الرواية أن فتحي غانم يقصد الراحل محمد حسنين هيكل، لهذا عندما التقاه هيكل بعد صدور الرواية قال له: أهلا بالكاتب الذي فقد عقله، كرد على عبارة الرجل الذي فقد ظله. وحتى من الناحية الفيزيائية قد تكون بعض الظلال أشد وقعا وأقوى نفوذا من الشيء الذي تدل عليه، كما هو الحال في ظل العصا الذي يشبه ظل الثعبان، بحيث يصبح ظل العصا أشد تأثيرا من العصا ذاتها لأنه يحيلها إلى كائن سام كالثعبان.
والظل البشري يطول ويقصر على مدى النهار، تبعا لضوء الشمس، ما أتاح لبعض الشعراء والرسامين التلاعب بالظل وإعطاءه دلالات وإيحاءات قابلة لعدة تأويلات، فالشاعر محمود درويش في مرثيته للرئيس عبد الناصر يقول، ولست نبيا ولكن ظلك أخضر، وكأنه يرد على نحو غير مباشر على مرثية نزار قباني لناصر، وهي بعنوان قتلناك يا آخر الأنبياء، والظل الأخضر فيه من الإيحاءات بالخصب الكثير، وهو بعكس الشجرة الخضراء التي يكون ظلها رماديا.
وهناك موقف له علاقة بالظلال، ربما كان الدافع الخفي لهذه التداعيات حول الظلال وإيحاءاتها، فقبل رحيل الناقد إحسان عباس بأعوام قليلة أهديته مجموعة شعرية صدرت لي بعنوان «ظلال»، وما أن قرأ العنوان حتى ابتسم قائلا: إن كنت تعني بالظلال ما أفهمه فسوف أكتب عن هذه المجموعة فورا، ولم يمض أسبوع حتى كان عباس قد كتب مقالة مطولة بعنوان «فلان وظلاله»، وأخبرني بعد ذلك أن ما استوقفه هو نص عن رجل يتحرك بأربعة ظلال، وتلك حكاية أخرى بالطبع.
وحين أتأمل عبارة شعبية تتردد على ألسنة الناس بلا انقطاع، هي خفة الظل أو ثقله، أجد أن لهذه العبارة جذورا ضاربة في التاريخ والأسطورة معا، وكأن الظل يختصر الكائن بإيقاعاته النفسية ومجمل صفاته الآدمية، لهذا قد يكون الظل هو الحضور بعكس التصور الشائع بأنه الغياب أو ما يشبه الغياب.
وقد يكون فن السلويت أو الرسم بطريقة القص مع الحفاظ على قتامة اللون هو بمثابة اعتراف ضمني بأن الظل هو الجوهر والمحتوى وليس الشكل أو العارض، لأنه ما من ظل في الظلام، ولا بد من الضوء كي يكون هناك ظل لشيء ما، لأن ذلك من صميم الجدلية الأبدية بين عناصر الوجود، وحين قال شاعرنا العربي إن الشيء يظهر حسنه الضد، أدرك بفطرته هذه الجدلية، حيث ما من سواد بلا بياض وما من ليل بلا نهار وما من قزم، إلا إذا كان هناك عملاق يقاس عليه، وأحيانا تستخدم كلمة الظل خارج معناها الدقيق وعلى نحو مجازي، كأن يقال إن فلانا التابع هو ظل لسيده، وبالفعل هناك حوارية سومرية دارت بين سيد وعبده، وكان العبد يردد ما يقوله سيده كالببغاء، فقال له السيد لا جدوى من وجودك أو بقائك حيا، ما دمت مجرد صدى وظل لكائن آخر.
وقد حاولت السينما الإفادة من دور الظل في بعض الأفلام التجريبية، وإن كان استخدام الظلال مُتفاوتا من حيث التقنية والمهارة، لكن ما يستدعي الانتباه هو أنه ما من ظل يوجد بذاته، إذ لا بد أن يكون له أصل يقترن به تماما، كما أن المرايا لا وجود لها إذا لم يكن هناك ما تعكسه، لأنها خالية من أي محتوى غير مكوناتها المادية، ومحايدة أيضا بحيث تتعايش عليها المتناقضات كلها، فهي تستجيب للقرد كما تستجيب للغزال، وللجميل كما القبيح.
وحين قيل في عصور خلت إن الحاكم ظل الله على الأرض، كان ذلك هو التعبير الأقصى عن التسلط في الحكم، لأن الظل يستمد جبروته مما يقترن به، لهذا استخدم الظل للتعظيم والتصغير والمديح والهجاء، وكأن مصدر ذلك كله ما لاحظه البشر منذ وجدوا تحت الشمس، وهو أن ظلالهم تطول وتقصر وتتلاشى أيضا.
وإذا كان هناك بشر لا يسمعون من أصوات هذا الكون غير صدى أصواتهم، فهناك في المقابل من يعانقون ظلالهم ويراقصونها أيضا، بحيث يصبح من فقد ظله كمن عاد إلى حدود جسده بين القبعة والحذاء فقط كما يقول ويتمان.
أما التعامل على امتداد التاريخ الإنساني مع الظلال على أنها مجرد أوهام، فمرده إلى أن ظل الشجرة لا يصبح شجرة أخرى، وكذلك ظل الإنسان حين يكون وحيدا.