*هيثم حسين
الهوس المعمي بالسلطة والسيطرة، الجشع القاتل الذي يتسبّب بهدر طاقات البلاد ونزف دماء أبنائها، غواية التحكّم وشهوة التفرّد بالحكم، لعبة الملوك والأباطرة التي يقع ضحاياها أرقام مرعبة من البشر المنقادين معصوبي الأعين إلى حتوفهم، مكر التاريخ ولعنته، جنون العشق وويلاته، وغير ذلك من محاور ومواضيع يعالجها االفرنسي كريستيان جاك في روايته “آخر أحلام كليوباترا” التي يبنيها مستنداً على نقاط تاريخيّة معينة، متخيّلاً تفاصيلها ومتغلغلاً إلى خبايا نفوس شخصياته المثيرة.
يشير كريستيان في روايته إلى تاريخ مدنّس بالغدر والخيانة والبغض بالموازاة مع العشق والتنوّر والمعرفة والحلم، وإلى الصراع العالمي الممتدّ على الشرق، ووصول ذلك الصراع في مراحل تاريخية كثيرة إلى درجات عنيفة دموية، ثمّ التنعّم في مراحل أخرى بالتهدئة حين التوصل إلى تفاهمات واتّفافيات كان من نتائجها العيش بسلام وتحقيق كثير من الازدهار والتقدم على مختلف الأصعدة.
يستهل كريستيان المشهد الأول بتوصيف كليوباترا وهي تقف عارية على شرفة قصرها، تتأمّل عاصمتها الإسكندرية تتلألأ بأضوائها الساحرة، ومعالمها المدهشة، وترنو إلى غد تتمكّن فيه من بناء دولة قويّة تعيد أمجاد أجدادها، وتوحّد البلاد تحت حكمها، وينعطف من تلك اللحظة الشاعرية إلى واقع دمويّ يرتقبها ويغرقها في أتونه لسنوات.
تحلم كليوباترا بإحياء مجد الإمبراطورية التي وصلت في عهد والدها، ذي الترتيب الثاني عشر في أسرة البطالمة، إلى مستوى منحدر من السيادة والاستقلالية، لأنه أوقعها بنزواته وفحشه وعربدته في ضائقة مالية، واستنجد بجنود رومان لاستعادة سلطته بعدما خسرها وتسبب بأزمة اقتصادية خانقة، وأصبح في عهده العديد من المرتزقة ينتمون إلى الجيش المصريّ الذي لم تعد كليوباترا تسيطر عليه.
ينطلق كريستيان من التوثيق لبناء متخيّله، يسجّل أنّ كليوباترا السابعة التي يعني اسمها “مجد والدها”، ولدت في الإسكندرية سنة 69 قبل الميلاد، اعتلت عرش مصر في سن الثامنة عشر، واضطرّت بحسب تقاليد البطالمة إلى مشاركة العرش مع أخيها الصغير بطليموس الثالث عشر الذي كان في العاشرة، لكنها حاولت إقصاءه، من أجل الانطلاق بتحقيق حلمها برؤية مصر المشرقة ذات القوة والمنعة والسيادة، لكنّ أحلامها تحوّلت إلى كوابيس وسالت كثير من الدماء في معارك الإخوة المتعادين.
يشير الروائيّ إلى مسعى كليوباترا إلى إجراء عدد من الإصلاحات التي رامت محاربة الفساد والبيروقراطية الكاسحة من أجل أن تستعيد البلاد ازدهارها، لكنّها وجدت نفسها في مواجهة عصابة من الفاسدين المتنفّذين الذي قاموا بالتأليب عليها، وحاولوا التخلّص بدورهم منها، وحاولوا الالتفات على وصية والدها التي كانت تقضي بأن يتمّ اقتسام السلطة بينها وبين أخيها بطليموس الثالث عشر.
يضع كريستيان الأطراف المتحاربة في مواجهة بعضها بعضاً، كليوباترا وقيصر من جهة، وإخوتها الأعداء من جهة أخرى؛ هناك ثلاثة رجال أوصياء على الملك الصغير بطليموس يدبرون المكائد ويسيرون البلاد، هم الخصي فوتان رئيس الحكومة، والمؤدّب ثيودوتوس، وأخيلاس رئيس الجيش، كما كانت هناك الأميرة أرسينوي أخت كليوباترا الصغرة تشجّع الثلاثيّ ذي التأثير السيّئ، وكانت ماكرة وطموحة وغيورة تصبو إلى الاستحواذ على السلطة.
يذكر الروائيّ في سياق سرده أنّ روما كانت القوة العظمى حينذاك، وكان هناك صراع ضارٍ من أجل السيطرة عليها بين قيصر وبومبي، وانحازت كليوباترا بداية إلى بومبي، وأرسلت له مؤناً وجنوداً، وتمنّت أن يبقى بعيداً عن مصر وألا يعارض سيادتها، لكنّ انقلاب الأحوال، وتصاعد المؤامرات الذي أوصلها إلى حدّ الهروب من قصرها واللجوء إلى الصحراء المصرية أجبرها على مراجعة حساباتها، والتصرّف وفق الظروف المستجدّة، والاستعانة بقيصر الذي وصل إلى الإسكندرية على رأس جيشه.
يصوّر حال كليوباترا التي تتسلّل من قصرها هاربة إلى الصحراء، برفقتها خادمتها شارميان، وعدد قليل من حراسها المخلصين، وكيف أنّها تتعرّف إلى البلاد التي تحكمها، تتعرّف إلى الفلاحين البسطاء في الأرياف، تقف على معاناتهم، تعيش ظروفهم القاسية، تدرك حجم الظلم الذي يلاقونه في حياتهم والمأساة التي يرزحون تحتها جرّاء السياسات الطائشة لحكّامهم في الإسكندرية، وتعد بأنها ستنصفهم في حال استعادتها زمام السلطة في بلدها.
تغوص كيلوباترا في قلب الصحراء، تخوض مغامرات كثيرة، تتغلب على المشقّات بإيمانها بحلمها وقضيتها ودعم ومساندة ما تؤمن به من آلهة مصرية قديمة لها، تلجأ إلى المعابد، تختار مستشاراً مخضرماً يكون ساحراً حكيماً، يعلمها كثيراً من الأشياء التي تزيد من معارفها وتفتّح عينيها على العالم المحيط بها، ويجعلها تدرك بعض الأسرار المخفية وراء الأفعال والأشياء.
تلجأ كليوباترا إلى سلاح الأنثى الفتّاك، سلاح الغواية والجنس، تستغلّ جمالها الساحر، تفتن قيصر روما، تغويه وتغريه وتغرقه بتعلّقه بها، تجبره بسحرها وفتنتها على مساندتها في حربها ضدّ أخيها وبطانته الفاسدة، تمضي برفقته أوقاتاً سعيدة، تعرّفه إلى معالم الإسكندرية الجميلة، ثمّ تحمل منه ابناً؛ قيصرون، تتمنى أن يصبح فرعون مصر القادم، وتورثه بلاداً قوية موحّدة، ليجمع عظمة مصر وروما وأثينا معاً.
يركّز كريستيان على تصوير مشاهد مطوّلة من المعارك التي نشبت في الإسكندرية، في بحرها وبرّها، وكيف أنّها قضت على معالمها كلها، وزادت من حجم الفقر والدمار، ولم يسلم أحد من شرورها وأذاها، إذ قتل كثير من الناس، تحوّلت موازين القوى أكثر من مرة من كفّة لأخرى، وكان الخراب المادي جزءاً من خراب شامل، خراب النفوس الملعونة بالسلطة والنفوذ والقوة، من دون الالتزام بأية روادع أو أخلاقيات.
تستلم كليوباترا السلطة أخيراً، ولكن بعد وصول الدمار إلى درجة فظيعة، تحاول النهوض بالبلاد من جديد متسلّحة بعلمها ومعرفتها وواثقة من قدرة المصريين على تجاوز المحنة والسعي لبناء إمبراطورية مأمولة متألّقة، تنظر إلى نفسها وبلدها، تدرك حجم التغيرات الهائلة التي اجتاحت كلّ شيء، وجميع الناس، تستعيد سلسلة خساراتها، لكنها تقرر المكابرة على جراحها والنظر إلى الأمام، إلى حلمها بالمجد والعظمة والفرعنة.
يشار إلى أنّ كريستيان جاك، روائيّ فرنسيّ مفتون بمصر القديمة منذ صغره، حصل على شهادة الدكتوراة في علم الآثار وعلم المصريات من جامعة السوربون، كتب عن مصر القديمة وبيعت ملايين النسخ من كتبه في جميع أنحاء العالم، وترجمت إلى 28 لغة حتّى الآن.
(*) الرواية صادرة عن المركز الثقافي العربي بترجمة محمد المزديوي، الدار البيضاء، بيروت 2016.