*خيري منصور
قد لا يكون التعريف الذي اقترحه جورج لوكاتش للرواية بأنها ملحمة البرجوازية الأوروبية حاسماً الى الحدّ الذي يصبح معه نوع أدبي رهينة الجغرافيا وبالتالي حكراً على لغة او طبقة، فالرواية الان آسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية بقدر ما هي أوروبية وان كانت الرواية اللاتينية بالتحديد قد اجتذبت قراء ونقاداً وجدوا فيها اضافة نوعية خصوصاً ما يتعلق بما اصطلح على تسميته الواقعية السحرية، رغم الالتباس في هذا المصطلح لأنه يزاوج بين نقيضين، على طريقة غوغول الروسي في قصته الشهيرة المعطف والتي مزجت بين الخيال والواقع لكن على نحو تبقى فيه التخوم والحدود التقريبية فيهما قابلة للفرز.
الواقعية السحرية وهي احدى الواقعيات العشر على الأقل حسب التصنيف النقدي تستلهم تراثاً محلياً ويصبح الراوي لسان حال قومه وكأنه اداتهم في التعبير عن شجونهم، والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو سؤال الرواية التي لم تصبح عربية بعد بالقدر الكافي الذي يمنح نوعاً ادبياً هوية قومية، رغم ان مثل هذه الهوية ليست من صميم الابداع، تماماً كما ان الشعر لا يخضع للجغرفة الا لاسباب نقدية إجرائية.
وفي النهاية ثمة شعر أو لاشعر، لأن من يجازف بكتابة سطر من قصيدة قد يكون آخر من يعلم بأنه يسبح في المحيط ذاته الذي يسبح فيه هوارس واوفيد والمتنبي واليوت وبودلير وطاغور وسائرالسلالة الخالدة، والحقيقة هي ان جغرفة الإبداع وإخضاعه لخانات وتضاريس كان من اسبابه هاجس استكمال الهوية التاريخية والحضارية، بحيث اصبح لدينا في العالم العربي مثلا شعر عراقي ومصري ولبناني وسوري ويمني وفلسطيني الى آخر القائمة ذات العلاقة بجامعة الدول العربية، وقد أدت هذه الجغرفة القسرية المدفوعة بشهوة تكريس الهوية الى تدني معايير النقد وتسامحه بحيث يصبح نسبياً، لهذا طالما قرأنا عناوين من طراز افضل شاعر مصري او لبناني او عراقي، حيث يكون الخلل في هذا السياق مزدوجاً لأن المفاضلة في الابداع لها مقاييس أخرى ولأن الشعر في اي بلد عربي هو في احسن الاحوال رافد او ساقية من النهر الكبير ذي المنبع الواحد رغم تعدد المصبات !!
إن جَغْرفة الإبداع كانت اختراعاً سياسياً وايديولوجياً بالدرجة الأولى ثم ساهمت في تبسيط وتسطيح مهمة الناقد وكان هذا في احد ابعاده من تجليات سايكس بيكو الثقافية، وما لعبته المهرجانات الشعرية بالتحديد في العديد من العواصم العربية من دور قيّد عربة الثقافة بخيول الاعلام واوشك ان يخلق قطيعة نقدية لأن هناك من استثمروا هذه الجغرفة او الخصخصة الثقافية وتخصصوا في شعر هذا البلد او ذلك وكأنهم خبراء في مجالات الزراعة والمعادن وكان من نتائج جغرفة الإبداع المصادرة على القارئ فما ان يقدم اليه شاعر فلسطيني حتى يتهيأ نفسياً وذهنياً لقراءة نماذج مسبوقة في ذاكرته ويحزر ما سوف يقرأ، وهذا بحدّ ذاته من مضادات الابداع الذي لا يعيش بالتكرار والنمذجة والتعميم!
هكذا انتهى الامر الى ان يصبح من يوصف بأنه شاعر عربي او كاتب عربي بالعقوق لجواز سفره وهويته المحلية، رغم ان تسمية الشعر العربي ديوان العرب تحذف هذه الفواصل، لأن جماليات اللغة وعناصر الإبداع واجتراحاته لآفاق جديدة ليست مرادفة لتضاريس السياسة وهوياتها وما يتعلق بالأحوال المدنية.
وعلى سبيل المثال لم يحدث ان تطوع نقاد في فرنسا لجغرفة الشعر في بلادهم تبعاً للأقاليم بحيث يكون هناك شعر الزاسي او فيشي او نورماندي او باريسي، وكذلك الشعر الانكليزي الذي لم يخضع فيه الثالوث الرومانسي كولردج وشيلي وكيتس لاقليم ، وكذلك شكسبير وجون دن واليوت وغيرهم!
ان هاجس الدولة كما تحدث عنه الراحل جورج طرابيشي في كتابه عن الدولة والامة تجاوز الحدود كلها، وأذكر انه قدم نماذج من مقالات وافتتاحيات صحف ورد فيها اسم البلد الذي تصدر فيه ما يقارب العشرين مرة ! ولو اخضع موروثنا الشعري والثقافي بعامة لمثل هذه الجغرفة والجراحة السايكس بيكوية لاصبح المتنبي متشردا او لاجئا عالقا بالحدود وكذلك المعري والجاحظ وابن خلدون .
هؤلاء كانوا شعراء عرباً، ومن لم يكن من أصل عربي أصبح عربياً لمجرد انه أبدع في هذه اللغة، لكن المتضررين من المعايير النقدية التي لا تخضع للتضاريس السياسية وخرائط الجغرافيا هم الاكثر تشبثا بالخصخصة الثقافية بعد ان فاضت الخصخصة بكل ابعادها وبدأت تتمدد نحو الهوية الام، وتشطر حتى الشمس والقمر ليكون لكل سماء صغرى هلالها او حزمة ضوئها!
المبدع العربي الجدير بهذه الصفة قد لا يكفيه ثلث مليار عربي كي ينتسب اليهم، لكن الاشباه والاشباح لا يعنيهم ذلك، لهذا تدنت معايير النقد وانتهت الى إحلال الاقل قبحاً مكان الجميل والاقل رداءة مكان الجيد!!
_________
*القدس العربي