ابراهيم محمود*
إذا كانت اللغة استعارة، فالأدب، والرواية خصوصاً استعارة الاستعارة! ولنا أن نتخيل رهبة المسافة وهيبتها بين الاستعارتين، لأن اللغة ” تطلِق ” أسماءها، وهي تستعيرها اصطلاحياً على أشياء في العالم، أشياء تبقى أكبر من أسمائها ” لنتذكر الكلمات والأشياء لفوكو “، بينما الرواية، فتسعى إلى منح الأسماء حضوراً أكثر ديناميكية في تمثيل العالم، إنها حالة إخراج العالم مما هو فيه وعليه، كما لو أن العالم محرَّر من كل ما يعرَف به وقد دُشّن من جهة كاتبه.
أحسب هنا، أن الشاعر والروائي الأردني أمجد ناصر، وهو يكتب روايته، أسلس القياد لإرادة متخيله تخرج كل المعاش في الواقع وعجنه و” خبزه ” على طريقته: طريقة محفوفة بالمخاطر. وربما كانت الأحداث التي عاشها وعياً ولاوعياً هي وراء هذه التركيبة الاستعارية اللامؤطرة ” الرواية “، ربما لأن ضغطاً كان بمثابة القابلة، وهو يترجم كتابة روايته ” هنا الوردة ، الصادرة حديثاً عن دار الآداب، بيروت، 2016، في 224 صفحة ” بطريقة تؤمّم فيها أمجد ناصر الروائي عما عداه، وربما كان ماريو بارغاس يوسا البيروفي العتيد متنبهاً إلى صلات الوصل بين الروائي وروايته، ومنها أن ” الروائي لا يختار موضوعاته، بل هي التي تختاره. إنه يكتب حول شؤون بعينها، لأن أموراً بعينها قد حدثت له.ص 19 “.
إنما علينا ألا نسترسل في الكلام كثيراً، وفي هذا المقام الافتراضي، وإزاء رواية اللارواية، كما أرى، حيث الواقع المرصود انفجاري من كل جهاته، بما أن أمجد تتملكه رغبة حميمة، استناداً إلى منبّهات نصه، لكسر الأطر المقابلة للواقع الشديد التأطير من حوله وداخله. وبدءاً من ” التنويه “، إذ إنه إزاء حالة متداولة لدى الروائيين وهم ينبهون إلى لزوم عدم الربط بين عالم الرواية المتخيَّل والواقع شخوصاً وأمكنة وأحداثاً، إن كان هناك إيحاء بعلاقة قائمة، وهو، وإن رفض ذلك، فإنه أبقى هذه الإشارة ليقلق قارئه أكثر، في لزوم عدم التفكير في علاقة كهذه.
هذا التنويه إخراج الكامن إلى حيز القوة في البحث والتقصي عن ذلك، عدا عن أنه لم يكتف بإخراج الجنّي من قمقمه لمرة واحدة حصراً في إطار ” التنويه ” وإنما ما ورد في مستهل النص الروائي ( لا يعرف يونس الخطاط أنه سيموت بعد أيام، أو يتجمد في الهيئة التي هو عليها.ص 7 ).
إنها قنبلة موقوتة أيقظ بها في قارئه كل قواه ليتابع ما يمكن أن يجري وما في ذلك من انشطار قواه تلك وتحركها في جهات شتى، وربما يقدّر هواجس قارئه مسبقاً، فكان ما كان.
هذا اليقين اللايقين يتنشط في العنوان ذاته ” هنا الوردة “، وقد تنافس في إطار حيثياته كتّابه، نقاده، وتناصياته الأدبية والتاريخية والرمزية” من وردة إيكو، إلى نظيرها الماركسي، وربما الهيغلي، وأبعد أبعد: الإغريقي “، لنكون في متاهة هي مغامرة الرواية أساساً، كما هي ” الحامية ” في المدينة التي تقلق القارىء برعبها ومفارقة اسمها” ص 77 “، أي تمثيلاتها.
أحسب أن أمجد ناصر، أراد المضي أكثر من حدود روايته ” حيث لا تسقط الأمطار-2010 “، أن يخرج نصه مما هو نصّي فيه تبعاً للمعتاد على طريقة ” حيث لا تتفتح وردة “، وهو يتلاعب بذائقة قارئه ذي المستويات: مشاعر وخواطر وأفكاراً، بين إحالات إلى أمكنة تكاد تطمئن المتابع عن أنها تسمّي جغرافيا محددة، وأزمنة تكاد تعلِم بوقائع محددة، وأسماء تكاد تقدّم لقارئها وجوهاً محددة: بدءاً من الروائي، وانتهاء بمن له صلة بهم، ومن هم معروفون هنا وهناك. لكن لا شيء من هذا الشيء، سوى الكلمات التي ” تفكر ” على طريقة أحدهم، الكلمات التي تقول شعرها لدى أمجد، وتنسج أحبولتها الروائية إجمالاً.
إذ ما الفندق، ما المدينة، ما المكتبة، ما ” الزنبقة السوداء ” كاسم لمقهى، ما الحامية، ما العاصمة، ما الامبراطورية، ما الصحراء التي ” تبتلع السيارة التي تقل يونس وسواه وهي في الصحراء “ص 222 ” ؟
ما يونس الخطاط الذي يشغل الرواية، ويشغل القارىء، ويشغل كل من يعيشه ” يونسيته، وفيه أكثر من يونس ” ص 187 “، يونس الموشك على الموت، وهو غير دارٍ، وتلك نباهة هيتشكوكية لدى الروائي في غرزة إبرته اللافتة، يونس المسكون بهمّ تغيير العالم، يونس بـ” أل تعريفه “( هذا اليونس العاصي، المتمرد، المؤمن بالمادية الجدلية …ص48 )، ويونس الأقل من ذلك في مكان آخر ( في يونس شيء من التفلت والتمرد والمباشرة في الكلام والنطنطة المزعجة من الصغر..ص 87 )، ويونس المضطرب خطى وذهناً، ويونس الذي خرج من جسده شخص ( له ملامحه وانفصل عنه..ص 222 )، وما سيكونه تالياً… وما مروان، وخاصية ” التنظيم ” الكاريكاتيرية، ورلى حبيبة يونس، وصاحب المكتبة، وحسيب مرتضى الشغوف بالقصة البوليسية، والسكَر في الليل، وخلف، وهالة.. ما دون كيشوت الذي أوقع من خلاله أمجد جل قرائه/ نقاده في فخ التشبيه والاستعارة التاريخية ” دون كيشوت العربي “، ما السندباد البرّي/ البحري، وما يذكرنا به بغدادياً…كلها أسماء لأمكنة وأشخاص ووقائع، فخاخ منصوبة لفطنة القارىء، فثمة متاهة عامرة بالاستدراجات.
ربما تلك هي بؤرة توتر ” هنا الوردة ” قلق الروائي بمقام المعاش والمتخيَّل معاً، وسعيه إلى التشتيت، كما لو إننا إزاء عمران مغاير لعالم لم يعد يطاق بطغاته، وزعم أباته/ ثورييه المفترضين من وزن يونس الاسم إلى مقره ” الحوتي ” يونس والحوت ” وانبجاس الدلالات أكثر، كما لو أنه يأبى رسم الهدف وتفعيل الكسل في نفس قارئه فـ” الأدب يظل حياً فقط إذا وضعنا لأنفسنا أهدافاً غير قابلة للقياس ” بتعبير إيتالو كالفينو في ” وصاياه الست “.
هنا، لا تعود هنا، إنما أبعد من هناك، وراء الأفق المتخيل، وعلى المرء وهو في متاهة متحركة أن يفكّر في كل الاتجاهات، ربما لأن مستجدات معاشة تحثه على لزوم الولادة كائناً جديداً.
الوردة، بدورها أبعد من كونها وردة، كما هو عنف الواقع أعمق وأعنف من مرئيّه، ولعل أمجد أجاد في تحرير الوردة من مكانيتها بأن أحالها إلى ( وردة الشعر.ص37 )، وقياساً على الشعر ووردته، ثمة ” وردة الرواية “، وطياتها الكبرى( هل نقول أفوافها الهائلة ؟).
كأن الرواية متقاسَمَة داخلها، ومنبهات الحالة: الرائحة ذات الصيت المركَّب، وما أكثر روائح ” الرواية “، ودلالاتها، حيث الحضور الروائحي للأمكنة، للأشخاص، علامات مبصّرة بما وراءها ” ص: 40-47-56-102…الخ “
هل أقول في قراءتي الافتراضية أن الروائي مارس استفزازاً لقارئه، حيث يصعب البت بمقولة إزاء مبتدئات الرواية ومختتماتها القولية؟ وصيغة ” الحكم ” نقدياً؟ وصحبة الاستفزاز ربما يكون ” الابتزاز ” فما أكثر حالات نْهب المشاعر والخواطر والتصورات من القارىء ليطمئن نفسه أنه قد أصاب ” الهدف ” في مقاربته البحثية للرواية، والحالة مختلفة جداً ؟ وربما الابتزاز من مكرمات النص المفتوح، وإزاء ذلك يكون ” الاعتزاز ” بالنص وقد آل على نفسه أن يكون أكبر من كاتبه، ومن قارئه، ليضمن ” الفوز ” بالبقاء وهو يستولد معانيه ومغازيه.
لذلك تبقى ” هنا الوردة “: ” هنا:ك الوردة “، وطوبى لمن يشم رائحتها ذوقياً عن بعد!
*كاتب سوري
________
*نشرت في الجزيرة.نت