*حسونة المصباحي
-
هاجر التشكيلي التونسي أحمد الحجري إلى فرنسا عام 1968، حيث اشتغل عاملا كهربائيا، وهو ما مكنه من التعرف على المهندس المعماري والرسام الفرنسي رولان موران الذي لاحظ مهارته فشجعه على الرسم، وفي عام 1977 قدم أول معرض له برواق “مسينا” بباريس، أما بتونس فقد عرض لأول مرة عام 1985 برواق “مدينة تونس” ثم في السنة الموالية برواق “فيليس كايند” بنيويورك، وشارك من هناك في العديد من المعارض الشخصية والجماعية ومن بينها: سيول عام 1988 ومعهد العالم العربي بباريس عام 1995. “العرب” التقت الحجري في تونس فكان لنا معه الحوار التالي.
في المقهى الشعبي القريب من ميناء الصيد البحري بمدينة بني خيار قرب محافظة نابل (شمال شرق تونس)، جاءني الفنان التونسي أحمد الحجري الذي يتمتع بشهرة واسعة في فرنسا، وفي العديد من البلدان الأوروبية، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية، ومعه كتب فنية رفيعة باللغة الفرنسية تضمّ لوحاته التي تعكس مسيرته الفنية التي بدأت في السبعينات من القرن الماضي، وتعليقات عليها.
كما جاءني بمجلات تشيد بفنه الذي بات يحتل مرتبة عالية في الفن العالمي الحديث، من بينها مجلة فرنسية، وضعته في قائمة المئة فنان من مختلف أنحاء العالم الذين لهم تأثير قوي على الفن في مطلع الألفية الجديدة، ونالت المعارض التي أقيمت له في باريس ونيويورك وسيول وبروكسيل وروما وداكار وإشبيلية، إعجاب النقاد وعشاق الفن، كما عرضت لوحاته في تونس والرباط والرياض والكويت ودمشق وبيروت.
والرجل الذي سيحتفي العام القادم بعيد ميلاده السبعين بدا لي، بوجهه الأمرد المشع بالبراءة وعينيه الصغيرتين ورأسه الذي لم ينل منه الشيب إلا قليلا، شبيها بطفل كبير.
في البداية قال لي أحمد الحجري بأن قصة بدايته الفنية جديرة بأن تكون موضوعا لفيلم أو رواية، فقد انقطع مبكرا عن التعليم ليهاجر إلى فرنسا عام 1968 آملا أن يساعد عائلته الفقيرة على مواجهة مصاعب الحياة، وكانت مدينة ليون محطته الأولى، وفيها عرف عذاب الجوع والتشرد ونام في الحدائق العامة وفي مداخل العمارات، ولم ينقذه من محنته تلك سوى رجل دين مسيحي آواه في دير مقابل القيام بأعمال يومية بسيطة. ومن ليون انتقل إلى مدينة يار ليعيش في كفالة عائلة كانت لها علاقة برجل الدين. وفي باريس التي انتقل إليها بعد ذلك، عمل عاملا كهربائيا ورساما مبتدئا لدى مهندس معماري مشهور اسمه رولان موران كان يرتبط بعلاقة وطيدة بالفنان الكبير دوبيفيه.
وذات يوم، في لحظة استراحة، رسم أحمد الحجري على الورقة البيضاء التي كانت أمامه شيئا ما مرّ بخاطره، ثم لم يلبث أن ألقى به في سلة المهملات، بعد لحظات دخل عليه رولان موران الذي كان يراقبه من مكتبه العلوي، وحمل معه سلة الفضلات ليعاين أن ما رسمه الرسام المبتدئ جدير بالاهتمام، لذا شرع في العناية به، ليتعلم كيفية استعمال الألوان، كما أرسله إلى المتاحف الكبيرة لا في باريس وحدها، بل في روما أيضا.
ومرة أقام معرضا للوحاته، وكانت كلارا مالرو، زوجة الكاتب الكبير أندريه مالرو، من بين الزوار، ومندهشة صاحت “هذا الفتى العصامي يكاد يفوق شاغال!”، ويقول أحمد الحجري “في الحقيقة كانت فرنسيتي ضعيفة في ذلك الوقت.. وبما أني لا أعرف شاغال، فإن الأمر التبس عليّ، فحسبت أن تلك السيدة تنعتني بـ”Chacal” (كلمة تعني ابن آوى).. لذا غضبت غضبا شديدا، وقلت في نفسي بأن أولئك السادة والسيدات يريدون أن يجعلوا مني مادة للسخرية والتسلية، لذا دمرت أفضل لوحة في ذلك المعرض”.
ويسترسل الحجري متذكرا “ولما سألني رولان موران عن سبب غضبي، قلت له بأن السيدة كلارا مالرو سخرت مني، ونعتتني بالحيوان، فأطردني قائلا: أنت حقّا غبيّ!، لكن بعد أسبوع أرسل إليّ مبلغا ماليا، وطلب مني أن أشتري بدلة محترمة، وحذاء رفيعا وأن أكون أمام باب “الأوبرا” في الساعة الثامنة ليلا، وعندما جلست في القاعة أشار رولان موران إلى السقف، وطلب مني أن أتأمل الرسوم التي تزينه ففعلت، عندئذ قال لي باسما: إنها رسوم شاغال الذي تحدثت عنه السيدة كلارا مالرو!، ارتعبت وقلت له: وهل أنا أشبه هذا الـ”شاغال” فعلا؟ فرد عليّ قائلا: ولمَ لا.. عليك أن تعرف أنك موهوب يا أحمد”.
مكتسبا الثقة بنفسه، حقق أحمد الحجري أول نجاح فني له عندما أقدمت غاليري “مسينا” بالعاصمة الفرنسية، على عرض لوحاته التي بيعت جميعها في بضعة أيام. يقول أحمد الحجري “أنا لست مثقفا، وفي المدرسة التي غادرتها مبكرا، كنت دائما تلميذا سيئا، لكني تأثرت بعجوز عمياء أصيلة مدينتي الصغيرة تازركة كانت تروي لنا نحن الأطفال حكايات بديعة في السهرات الليلية، لذا أنا أطلق لخيالي العنان حين أرسم، ولا أقيم له حدودا أبدا”.
ولذلك تتميز لوحات الحجري بالفطريّة، وبالعفوية الطفوليّة، وبتلك السذاجة المحببّة للنفس، مستعيدة حكايات تحول البشر إلى حيوانات عجيبة، والحيوانات إلى بشر بملامح غريبة. والمرأة المحجبة في لوحات الحجري عارية الصدر، والنحيفة مثل نساء موديلياني لها صدر عارم كنساء روبنس، والشخوض التي يرسمها تتخذ أوضاعا مختلفة، فهي تطير، وتسبح في الفضاء، وتحتها قطط وثعابين وشجرة مثقلة بثمارها، وخروف.
إن عالم أحمد الحجري عالم ينبثق من أعماق الذاكرة الشعبية التونسية، حيث يختلط العجائبي بالواقعي، وحيث يحلّق الخيال بعيدا ليكشف عن عوالم تدهش وترعب أولئك الذين يعيشون على سطح الواقع، وأيضا المتحصنين بالقواعد الأكاديمية الجافة والثقيلة الذين يعتقدون أن الفن لا بد أن يخضع لمعايير يقومون هم بضبطها.
___________
*العرب