ثمة تفصيل مُعيَّن في “لوليتا” كفيلٌ، لو عُدِّل، بتحويل هذه الرواية إلى قصة عاطفية مبتذلة بالرغم من لغتها البديعة. إنه تفصيل لا يفتقر إلى الأهمية، بل إنه التفصيل الأهم: عمر لوليتا. أضِفْ إليه بضع سنوات – لنقل أربع – فيضحي هيام الراوي هامبرت هامبرت، وعذابه، وغيرته، وانتقامه، مجرد كليشيهات لا تصلح سوى لميلودراما رخيصة.
غايتنا من هذا التعديل الإفتراضي الإشارة إلى أنما يسمو بهذا العمل إلى مصاف “الأدب الرفيع” هو، إلى جانب الأسلوب الكتابي، عمر لوليتا، أو بمعنى آخر، تَمَحْوُرُ الرواية حول رجل ثلاثيني يعشق، يشتهي، يغوي، يختطف ثم يجامع طوال فترة سنتَيْن وبمعدل مرّتيْن في اليوم الواحد، فتاة تبلغ من العمر 12 عاماً. والمفارقة أن هذا بالتحديد ما دفع بعدد من النقاد إلى اعتبار “لوليتا” وقت صدروها في الولايات المتحدة العام 1958 كتاباً بورنوغرافياً هابطاً، ذلك مع أن نابوكوف لم يستخدم في روايته أي كلمة بذيئة، ولم يتطرق إلى الجنس بين شخصيتَيْه إلا مواربةً وتلميحاً.
لكن ليس الموضوع وحده – الإعتداء الجنسي المتكرر على فتاة هي تقريباً طفلة –ما يشكّل خصوصية الرواية، بل لغتها أيضاً؛ أو بالأحرى، إقتران الموضوع باللغة التي هي لغة الراوي والبطل هامبرت هامبرت أكثر منها لغة المؤلِّف نابوكوف.
***
من زنزانته حيث ينتظر بدء محاكمته، يروي لنا هامبرت قصته مع لوليتا. ومن الفقرة الأولى، يأسرنا بأسلوبه الذي يجمع بين الكثير من التناقضات، فيكون تارةً شاعرياً ومرهفاً وغنائياً، وتارةً أخرى ساخراً ومتهكماً وقاسياً، لكنه يبقى، في جميع هذه الأطوار، إستعراضياً متعالياً ومفرطاً في تنميقه. وهذا الأسلوب هو امتداد لسلوك هامبرت في الحياة وله وظيفة مُحددة: إغواء القارئ والتلاعب به، تماماً كما يغوي هامبرت كل مَن حوله ويتلاعب بهم.
هكذا، ينحاز القارئ منذ البداية إلى الراوي بالرغم من هوس الأخير بالفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 9 و14 سنة، بل حتى أنه قد يتعاطف معه كمن يتعاطف مع شخص مصاب بعاهة هي فعلاً مقيتة، لكنه ليس مسؤولاً عنها. وقد يبلغ هذا التواطؤ حدّ أن القارئ، عندما يحين أوان الإنقضاض على لوليتا، يفاجأ بنفسه وهو يأمل نجاح مخطط هامبرت الجهنمي، فيصبح، حينئذٍ، شريكاً له في الإعتداء على لوليتا.
إلا أن بعض القرّاء يصرّون على أنهم يتعاطفون مع لوليتا. لكن ما لا يعونه ربما، هو أنهم حتى في إحساسهم هذا، يبقون ضحية ألاعيب هامبرت. فالأخير نفسه لا يكفّ، في مقاطع مؤثرة جداً من الرواية، عن إبداء تعاطفه معها وندمه على ما ألحقه بها، لدرجة أنه يكاد أن يُقنعُكَ بصدق مشاعره، وبأن ولعه بها هو حبٌّ حقيقي. ما من شيء قد تَشعُرُ به تجاه لوليتا، إلا وقد قادَكَ إليه هامبرت، إذ أنتَ خلال قراءتك لهذا النص، سجين عقله وأسلوبه، لا تبصر سوى ما يَسمح لكَ هو أن تُبصره. في هذا النص المُغلق بإحكام، لوليتا هي مِلكُ هامبرت، هي اختراعه، مخلوقته. هو من أعطاها اسمها، فهي فعلياً تُدعى دولوريس، وقد يدعوها أقاربها أو أصدقائها “لو” أو “لولا” أو “دولي”، لكن ما من أحد سواه يدعوها لوليتا. هي بالنسبة إليه، كالشخصية الأدبيّة بالنسبة إلى الروائي، يفعل بها ما يشتهيه، يُخبِر قصّتها كما يشاء، ويُظهِرها للقارئ بالهيئة التي تحلو له. أما لوليتا “الحقيقية”، فقد محاها هامبرت بالكامل ولم يبقَ لها أي أثر. وبهاذا يكون قد تابع ممارسة عنفه وسطوته عليها: فبعد امتلاكه جسدها لسنتَيْن، ها هو يمتلك صورتها إلى الأبد.