جان- ميشيل دولاكونتي: النجدة، أنقذوا الرواية !

خاص- ثقافات

تقديم وترجمة: عبد الرحيم نور الدين

مع كل “دخول أدبي” جديد في فرنسا، وما يصاحبه من تتويج وجوائز، يتجدد الجدل حول معايير اختيار الروايات الفائزة و القيمة الأدبية للنصوص التخييلية. مرات عديدة  لاحظ المتتبعون أن هذه الرواية أو تلك لا تستحق الالتفات فأحرى نيل ثقة القراء. ودائما ما يكون المتهم و المسؤول عن انحطاط الأدب، هو لوبي دور النشر المتحكم في سوق الإنتاج الأدبي. تفضيل بعض المؤلفين والتطبيل لكتابتهم دفعا بروائيين إلى الانزواء بعيدا عن ضجيج التنافس، بل إلى التوقف عن الكتابة.

قرار التوقف عن الكتابة ليس بالأمر الهين؛ إنه يرهن مستقبل الأدب ويعرض قيمته للاختلال. كاتب فرنسي وباحث اختصاصي في نصوص القرن 17 لم يستطع السكوت عما يجري في الساحة الثقافية الفرنسية، فجاءت صرخته في شكل كتاب حمل من الأسماء: ” رسالة مواساة إلى كاتب صديق” (دار روبير لافون . شتنبر2016 ). كتاب سجالي يهاجم فيه جان-ميشيل دولاكونتي Jean-Michel Delacomptée  كل القيم الأدبية الزائفة التي يروج لها الإعلام مدفوع الأجر.

————–

سؤال:

كيف جاءتك فكرة هذا الكتاب عن الأدب الحالي وعن انحرافاته، أنت المتعود بالأحرى على مؤلفات القرن العظيم؟

جواب:

تأتيك لحظة محددة يجب أن تقول فيها حقيقة الأشياء. تعبنا من هذا النوع من الهراء المنتشر في الأدب الحالي، أو بالأحرى من إنتاج أدبي معين، قريب من الروائح النتنة المنبعثة من تلفزيون الواقع. والأسوأ هو أن فاعلي هذه الأخيرة يدَّعون تحقيق منجز أدبي، في حين أن هذه الروايات موجهة بكل بساطة إلى الجمهور العريض. أفكر بصفة خاصة في كارين تويل  Karine Tuil،  أني إرنوAnnie Ernaux،  دفيد فوينكينوسDavid Foenkinos، إدوارد  لويس  Edouard Louis،  وأيضا كريستين أنغوChristine Angot  ، والتي أسميها ” مارغريت دوراس Marguerite Duras الفقراء”. هي ذاتها التي صرحت لمحطة إذاعية، قبل مدة قصيرة: << لا جدوى من معرفة الكتابة>>.

إننا نشهد مع هذه الروايات قلبا للقيم لا يصدق. يتعلق الأمر بكذبة كبيرة وفي الآن ذاته بخلط يغذيه كل من الناشر والصحافة وباعة الكتب، بشكل عام. الأمريكيون واضحون: هذا النوع من المؤلفات يُقتنى من رفوف “التخييل التجاري”. هذه الأشياء لا تحتمل. وههنا الكذبة الكبيرة : تعتبر الرداءة تميزا. هذا الارتباك الأخلاقي الكبير غير صحي بالمرة.  وكل ما يحدث ينم عن  انعدام ثقافة ومجاملة يؤلمان المتتبع.

وفي ذات الوقت، تجد الرواية الجيدة نفسها محاصرة بالتلفزيون والأنترنيت والشبكات الاجتماعية. أرغب في الصراخ: << أغيثوا الرواية ! >>. ولا أعتبر كتابي مؤلفا سجاليا بل هو بالأحرى بيان؛ حتى وإن هاجمت فيه الإخضاع الغوغائي الذي يشرط تقويم مؤلف ما بسمعة الكاتب.

المعاينة حزينة: الأدب والرواية انفصلا، انقطع كل وفاق بينهما، ويبدو أن لا أحد انتبه لهذا.

سؤال:

بيان. بأي معنى؟

جواب:

بيان في شكلٍ رسائلي يسمح بحرية كبيرة، و بلعبٍ ما، لأجل الدفاع عن الأدب الحقيقي وحب اللغة. دائما ما شعر الناس بالكتابة الجيدة كضرورة مضاعفة ببحث عن الصرامة، بل والتميز، مدعومة باشتغال على اللغة، وعلى الفكر. المخاطرة طبعا هي أن نكتب في صحراء…يتوجب على اللغة أن تثابر في قوتها. أيضا وربما قبل أي شيء، هو حب اللغة- الأم المرتبط بالوطن. سأقول أكثر من ذلك: ذوق اللغة الغنية. تأملوا في مدى حب الأطفال للشعر من خلال الفروق الصوتية الدقيقة. وهكذا فإن الكاتب هو ذلك الطفل الذي يستمر في اندهاشه باللغة  وبتغييراتها و بلينها غير المألوف، ويلعب بها. علاوة على أن بإمكان همّ الدقة في الكتابة  أن يكون مسكرا. لكن ما نراه أكثر فأكثر هو أن الرواية فقدت ثقتها في الكلمات.  لقد تخلى الناس عن الاشتغال على اللغة، القاموس صار  فقيرا، النحو جف، التعابير الركيكة تتكاثر بسرعة كبيرة،  كما أن المواضيع عديمة الأصالة في ازدياد مضطرد. نفتقر اليوم إلى موسيقية اللغة، بينما يشتغل هؤلاء الكتبة على الشفوية، وأحيانا على ما هو أكثر ابتذالا في الشفوية.

PhotDelacomp2

سؤال:

تلتقي  أقوالك بما جاء على لسان فيليب فيلان Philippe Vilain حول “ما بعد الأدب”، وقبله، بأقوال ريشار مِيِّي Richard Millet  …

جواب:

أجل. لكنني أذهب أبعد من فيلان ومن طرحه لِ” أدب دون مثل أعلى”، ولا أستعملُ مثله الملاقط الصغيرة. أما بخصوص ريشار ميي ، و رغم صواب كلامه، وخاصة في كتابه ” تحرر الأدب من الوهم”، فأنا لا أشاطره نزعته الكارثية. يوجد دوما كتاب جيدون وشكل من المقاومة. طالعوا  فيليب بوردا Philippe Bordas مثلا : يا لها من لغة !

سؤال:

ومع ذلك فكلماتك الواردة في كتابك ” رسالة مواساة إلى كاتب صديق” قوية. أنت تتحدث عن ” ثرثرة مستكتبين مجوفين بقدر ما هم جاهلين”، وعن أدب فرنسي يخجل من لغته الخاصة، بل هو حتى عدو لتاريخه الخاص…

جواب:

أقول ذلك لأنها الحقيقة. إن الروائيين الحاليين قليلا ما يقرأون، بل إنهم في الواقع لا يقرأون. والبعض منهم لا يخجل من التبجح بذلك. لهذا السبب، أردت كشف حقيقة النجاحات الشاذة، و الإدانات الظالمة، والانتصارات التافهة والأمجاد المخادعة. لقد صارت الوقاحة هي الكلمة-المفتاح لهذه المرحلة.

سؤال:

ما هو الانحراف الآخر الذي لاحظته عبر هذا الأدب الحائز على الجوائز والحاضر بقوة في وسائل الإعلام؟

جواب:

 منذ ثلاثين سنة تقريبا، صرنا نلاحظ وجوب تصدر الواقعي بشكل قطعي للأولية على الإستطيقا إلى درجة جلائها. وللعلم، فإن طَوْطم الواقعي هو موت المثل الأعلى الشعري و اختفاء المتخيل.

سؤال:

ومع ذلك، لقد حذرنا بول فاليري: << في الأدب، لا يقبل ما هو حقيقي تصوره.>>

جواب:

بلى ! لكن بماذا نرد على المسمى إدوارد لويس عندما يتباهى بأن << ليس هناك سطر تخييل واحد>> متحدثا عن روايته الثانية؟ يا لها من عبادة مقيتة للواقعي. في اعتقادي لقد تمت التضحية بمصير المتخيل لأن هذا النمط من الكاتب يتوجس منه. ومن جانبه، فالقارئ ضحية لبروباغاندا خاصة، يسميها بعضهم بشيء من الحياء: إشهار تجاري…أظن بصفة عامة، أننا نعيش في عالم يميزه قبول القبح المعمم والانبطاح أمام ما هو سوقي. إننا نرى كل هذا في الشارع والتلفزيون والأروقة الفنية ومراكز التسوق. انظروا إلى إصلاح التربية الوطنية وإلى المآل الذي يخصصه اليسار للغة اللاتينية. إننا هنا أمام شيء أساسي. إذا ما تخلينا عن قواعد الإملاء، الذي يوجد في مركز ثقافتنا، فإننا نتخلى عن كل شيء. نفقد الكل. ثمة شعبوية ألسنية في هذا البلد تريد محق فن الفوارق الدقيقة، أي محق فعل التفكير. عندما كنت أدرس في الكلية، منذ وقت قريب، كان عدد التلاميذ الذين يتوفرون على ما يسمى حس اللغة، قليلا جدا إلى حد الندرة. بل إن بعضهم لم يكن يتقن الفرنسية. بينما تتم المخاطرة بمصير اللغة الفرنسية. لا من أحد يتساءل كفاية حول هذا.

سؤال:

كلمة أخيرة؟

جواب:

لنستيقظ قبل فوات الأوان.
_______

جريدة لوفيغارو Le Figaro . 03 نونبر 2016 .

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *