معلّمي الأكبر : هذا هو الوصف الذي أراه منطبقاً تماماً على الكاتب ( إرنستو ساباتو Ernesto Sabato ) ، بل أنني أرى الرجل مستحقاً ليكون أحد ( غوروهات ) الإنسانية على مرّ العصور .
هذا هو القسم الثاني من الحوار مع ( إرنستو ساباتو ) المنشور في الموقع الالكتروني ( رسالة اليونسكو The Unesco Courier ) الذي أعاد نشر الحوار كتحية وداع لساباتو عقب وفاته عام 2011 .
المترجمة
الحوار
———-
* إذن الأدب يفسّر الواقع ويؤوّلهُ بشكل ما ؟
– لحسن حظّنا فإن الشعر والأدب والفن لم تدعي يوماً أو تعمل على سلخ العقلاني من اللاعقلاني ، أو المحسوس من العالم المفاهيمي الذهني ، أو الحلم من الواقع : إن الحلم والأسطوريات والفن لها مصدر مشترك في اللاوعي البشري الجمعي ، وهي خليقة بكشف عالم لانمتلك وسائل ( فيزيائية ) قادرة على التعبير عنه . أن من السخف البيّن سؤال فنان – مثلاً – بشأن توضيح ما لعمله : هل يمكنك تخيّل ( بتهوفن ) وهو منغمر في تحليل سيمفونياته ، أو ( كافكا ) وهو يسهب في شرح ماعناه بالضبط من وراء كتابة عمله المعنون ( المحاكمة ) ؟ إن الفكرة القائمة على أساس أن كل شيء يمكن توفير تفسير عقلاني له هي العلامة الفارقة المميزة للعقلية الوضعية الغربية التي تطبع بطابعها المعياري عصرنا الحديث – العصر الذي يفرط في إعلاء شأن وقيمة كل من العلم والعقلنة والمنطق على الرغم من أن هذا العصر لم يشغل سوى مدة زمنية وجيزة في مجمل التأريخ الإنساني .
* يبدو الأمر وكأنك ترى في عصرنا الحالي الطور الأخير من خطّ تطوري للفكر الحديث بدأ في منتصف القرن التاسع عشر وإنتهى مع عصرنا الحالي ؟
– لاينبغي أبداً الخلط بين ( الموضات ) الأدبية والإتجاهات الكبرى في الفكر : في خضمّ الحراك الضخم والمأساوي للأفكار ثمة مواضع إرتقاء وتراجع مثلما توجد مسالك إلتفافية وتيارات فكرية معاكسة للتيارات الرئيسية ، ومن الواضح أننا نشهد اليوم نهاية حقبة رئيسية وبتنا نعيش في أتون أزمة حضارية نشهد فيها نوعاً من مجابهة يومية لاتلين بين النزوعات الشغوفة الخالدة والنظام ( الأرضي ) المفروض فرضاً ، بين الرثاء المستعجل للموت والروح التوّاقة للأبدية ، بين النزوعات ( الديونيسيّة Dionysian ) وتلك ( الأبولونية Apollonian )* .
* هل يمكن أن نجد حلاً لهذه الأزمة الحضارية ؟
– الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها تفادي هذه الأزمة المروّعة هي بإختطاف الإنسان الذي يعاني وسط دوامة العيش بعيداً عن مخالب الآلة العملاقة الجهنمية التي مافتأت تطحنه كل يوم ، ولكن ينبغي أن لاننسى أبداً ( وبخاصة ونحن نترقّب مقدم الألفية الجديدة – مع ملاحظة ان الحوار أجري قبل مقدم الألفية الثالثة واعادت اليونسكو نشره بعد وفاته، المترجمة ) أن العصر لاينتهي في اللحظة ذاتها عند الجميع : لنتذكر مثلاً القرن التاسع عشر وفي خضم الإنتصارات الباهرة للعلم التي بدا معها الإرتقاء المستديم أمراً حتمياً يبشر بسيادة الإنسان – في تلك اللحظات الثورية من التقدم والإنتصارات كان ثمة مفكرون وكتّاب من أمثال دوستويفسكي ونيتشة وكيركيغارد نُظِر إليهم وكأنهم ” مغرّدون خارج السرب ” لأنهم – وبرغم كل النزعة التفاؤلية المفرطة التي غمرت علماء ذلك العصر – أبصروا نذير شؤم مخبوء في كوارث قادمة لامحالة – تلك الكوارث التي أفلح كل من كافكا وسارتر وكامو في رسم معالمها لاحقاً .
* هل هذا هو السبب الكامن وراء رفضك لمفهوم ” الإرتقاء ” في الفن ؟
– لايمكن للفن أن يرتقي بأكثر ممّا تفعل الأحلام وللأسباب ذاتها : هل بإستطاعة أحد أن يصرّح بالقول أن كوابيس معاصرينا من بني البشر هي أكثر ” رقياً ” من أنبياء الكتاب المقدّس ؟ يمكننا القول أن رياضيات آينشتاين تتفوّق على تلك التي إستخدمها أرخميدس ، ولكن سيكون من سخف الكلام القول أن ( يوليسيس ) جويس تتفوّق على ( أوديسا ) هوميروس . نقرأ في أحد أعمال بروست أن إحدى شخصياته تمّ إقناعها بأن ديبوسي مؤلف موسيقي أفضل من بيتهوفن لمحض أنه وُلِد بعد بيتهوفن وليس لأي سبب آخر !! ولاأظن أن أي امرئ – يحتاج خبرة موسيقي ضليع ليدرك المفارقة الساخرة التي إنطوت عليها عبارة بروست . يتطلع كل فنان طموح نحو مايمكن توصيفه بِـ ( المطلق ) أو – على الأقل – بنتفة من المطلق : يطمح أن يكون نظيراً لنحّات مصري في عهد رمسيس الثاني ، أو فناناً إغريقياً في العصر الكلاسيكي ، أو بنّاءً مثل دوناتيلّلو ، وهذا هو مايفسّر سبب غياب مفهوم ( الإرتقاء أو التطور ) في الفن واقتصار الأمر فيه على التغيّر والإنعطافات الجديدة التي لايكون باعثها الوحيد حساسيات كلّ فنان حسب بل يعزّزها ويدفع باتجاهها الذائقة والرؤية الصريحة السائدة في حقبة ما أو ثقافة ما . ثمة أمر واحد – على الأقل – يمكن البوح به بثقة مؤكدة : لايمكن لأي فنان أن يكتسب أفضلية حيازة القيمة المطلقة المرتبطة بالمسعى الفني من فنان آخر لمجرّد كونه وُلِد في زمن لاحق .
* إذن أنت لاتعتقد بإمكانية وجود قيمة جمالية كونية ؟
– إن نسبية التأريخ تنعكس بأفضل مايمكن في الجماليات السائدة : كل حقبة زمنية تحوز قيمة مهيمنة من نوع ما ( دينية ، إقتصادية ، ميتافيزيقية ،،،، ) تلقي بظلالها على كل القيم الأخرى ؛ إذ يمكن القول مثلاُ أن الجماعة البشرية ذات الثقافة الدينية المسكونة بفكرة ” الخلود الأبدي ” ترى أن عظمة رمسيس الثاني المضمّنة في المخطوطات الهيروغليفية تنطوي على ( حقيقة ) أكبر من أي نصب حقيقي نراه بأعيننا. يُرينا التأريخ أن الجمال والحقيقة قيمتان يعتريهما التغيير من حقبة لأخرى ( مثلما حصل مع ثقافتي السود والبيض ) وذلك بسبب إختلاف المعايير المرجعية التي تقوم عليها كل ثقافة ، ويمكن أن يطال التغيير شهرة الكثُّاب والفنانين والموسيقيين و يجعلها تتأرجح مثل البندول .
* إذن – مع الحال الذي وصفت – لن يكون ثمة مسوّغ للحديث عن أفضلية ثقافة على أخرى ؟
– نحن اليوم في الأشواط الأخيرة من مسيرة طويلة إجترحتها اليقينيات المغرورة للفلسفة الوضعية والفكر التنويري بعامة ، وإذا ماتتبّعنا عمل ( ليفي برول** Levy-Bruhl ) سنجده يعترف بنزاهة كاملة أنه لم يجد – بعد أربعين سنة من البحث الجاد والمعمّق – أي ” إرتقاء ” مزعوم في الإنتقالة الثورية من الفكر السحري إلى الفكر المنطقي ، وأن الفكرين معاً لابد أن يتعايشا مع الإنسان ؛ لذا فإن هذا الأمر يستوجب معاملة كل الثقافات على قدم المساواة وتقديم فروض الإحترام والتقدير ذاتها لها جميعاً ، وربما نلمح بداية شيوع هذا التوجّه بعد أن أصبحنا نخلع الإحترام الواجب والعدالة المستحقة للثقافات التي لطالما وسمناها بوصف ملطّف هو ( الثقافات البدائية ) كبديل عن أوصاف قاسية تكتنزها دواخلنا .
* أنت غير سعيد بنوعية التعليم الذي تقدّمه المدارس والجامعات في وقتنا الحاضر . ماالذي تراه مُفتقَداً في هذا التعليم ؟
– عندما كنت يافعاً تشكّلت شخصيتي المدرسية على أساس إبتلاع ” جبل ” هائل من الحقائق التي سرعان ماانتهت في بحر النسيان . في نطاق الجغرافيا – على سبيل المثال – بالكاد أتذكر ( رأس الرجاء الصالح ) و ( رأس هورن ) وربما ساعدني على تذكرها تردادها في الصحف . قال أحدهم يوماً أن الثقافة هي مايتبقى فيك بعد أن يُتاح لك نسيان كل ماسواها ( غالباً مايُنسب القول إلى آينشتاين في الإقتباسات المتواترة عنه ، المترجمة ) . بالنسبة إلى الكائن الإنساني يعني التعليم الحقّ أن يكون لذلك الكائن دورُ ما في عملية التعلّم وفي الإكتشاف والإختراع المُبدِعين ، وإذا ماأريد لجماعة من الناس أن ترتقي قدماً فينبغي لهم أن يشكّلوا آراءهم الخاصة حتى لو حصل أحياناً إرتكاب أخطاء قد تقود للعودة من حيث شرعوا عند خط البداية ؛ ولكن تظل الموضوعة الحاسمة أن هؤلاء في حاجة مستديمة لإستكشاف مسارات جديدة وتجريب طرائق غير مطروقة ، وبعكس هذا سينتِج نظامنا التعليمي – في أحسن أحواله – طائفة من المتثاقفين المحنّطين أو – في الأحوال الأسوأ – ديدان كتب أو ببغاوات لايجيدون شيئاً سوى ترديد عبارات جاهزة من تلك التي حشِيت أدمغتهم بها . إن الكتاب وسيلة سحرية مدهشة لاحدود لآفاقها بشرط أن لايتحوّل معضلة تعترض طريقنا وتمنعنا من البدء في كشوفنا الخاصة .
* كيف ترى دور المعلّم في ضوء ماقلته سابقاً بشأن التعليم ؟
– إذا ماتناولنا الأمر من ناحية المقاربة الإشتقاقية فإن التعليم يعني تطوير ماهو موجود في حالة جنينية كامنة وإدراك مكامن القدرة المخبوءة فيه ، وهذا الواجب الرفيع قلّما يتحقق ويرتقي لمديات مثالية من جانب المعلّم ؛ الأمر الذي أرى فيه مصدراً لكل الإخفاقات التي تعانيها نظمُنا التعليمية : ينبغي دفع الطلبة وتشكيلهم بحيث لايكفون عن طرح الأسئلة وبحيث يتقبّلون بقناعة كاملة فكرة التعايش مع حالة عدم القبول بإجابات جاهزة ومريحة سواء من قبلهم أو من قبل معلّميهم . ينبغي في كل الأحوال تشجيع الطلبة وتدريبهم ليس على طرح الأسئلة حسب بل على التفكير الذاتي حتى لو لم يقتنعوا بما يطرحه المعلمون عليهم ، وإنه لمسألة في غاية الأهمية جعل التلاميذ قادرين على إرتكاب الأخطاء وتقبلها في الوقت ذاته الذي ينبغي على المعلّمين تقبّل الأسئلة والمقاربات التي يطرحها التلاميذ والتي تبدو ” شاذة ” أو خارجة على السياق المألوف : إن الحالة العقلية التي تنشأ وسط بيئة ذهنية مثل هذه ستجعل التلاميذ يدركون أن الواقع مفهوم أكثر تعقيداً بكثير من محض ذلك الجزء الضئيل الذي تحتويه معرفتنا البشرية ، ثم سنحصد ثمار كل الإيجابيات على نحو تلقائي : ستنشأ بيئة تطرح التساؤلات وتسائل اليقينيات الراسخة ، وستتعايش التقاليد مع روح الإبتكار – ذلك المركّب الذي يشكّل هيكل الديناميكية الثقافية ، وسترتقي روح تعليمية تتماشى مع ماقاله “كانت ” : ” لاينبغي تعليم الناس الفلسفة بل ينبغي تعليمهم كيف يتفلسفون ” – الطريقة ذاتها التي إعتمدها أفلاطون في ( حواراته ) التي تعتمد التبادل المعرفي التلقائي والمباشر في سياق طرح الأسئلة النابعة من إدراكنا لجهلنا الجوهري .
هوامش المترجمة
* النزوع الأبولَوني : هو الرغبة في الوضوح والنظام ، ويرمز لهما بأبولو ( إله الشمس ) الإغريقي ، وهو منبع للفن الكلاسيكي ويتسم بالاعتدال والتناغم ومعرفة الذات ، ويتحدد بقواعد واضحة منها ( نكران الذات ، بطولي ، جاد ، كلاسيكي ، حواره مثالي شعري ، شخصية نمطية .. ) ، أمّا النزوع الديونيسي فهو دافع بدائي غير عقلاني نحو الفوضى ويرمز له بإله الخمر ( ديونيسيوس ) ويمثله الفن الرومانسي ، وتحكمه في العادة السمات التالية : (عاطفي ، هوائي ، لعوب ، محتال ) ويخرج عن القواعد المحددة (الرتابة ، التكرار ، الهدوء الثابت ، الرعب عنده مماثل للإنفعال الجمالي . يعود أصل هذين النزوعين إلى نيتشة الذي كتب عنهما في كتابه ( نشاة المأساة ) المنشور عام 1872 والذي عرض فيه نظرية ثورية بشأن طبيعة الحضارة الإغريقية ، ورأى نيتشة في نظريته تلك بأن فهم تلك الحضارة يتمّ عندما يُنظّر إليها باعتبارها ناتجاً لصراع جدلي جوهري بين النزوعين الديونيسي والأبولوني .
** لوسيان ليفي – برول ( 1857 – 1939) :فيلسوف وعالم اجتماع وأعراق ( أثنولوجيا ) فرنسي له بحوث متميزة في العقلية البدائية . كان أستاذاً بجامعة السوربون منذ 1899 . أهم كتبه :