قصص قدرها ألا تكتمل

*د. حسن مدن

تحيرنا قصص الحب الناقصة، التي لم تكتمل أو لم يقدر لها أن تختبر نفسها في الحياة. إنها لم تعش، لكنها لم تمت أيضا، لم تتلاش. كأن ثمة كلمة ناقصة لم تقل بعد، كأن فصلا فيها بقي مُعلقاً لم ينجز، كأن سؤالاً أو أسئلةً فيها ظلت من دون جواب، وليس بالوسع الفكاك من هذه الأسئلة التي تظل تلاحقنا، تؤرقنا وتعذبنا.
وقصة الحب التي لم تكتمل ليست كقصة الحب المستحيل؛ لأن هذه الأخيرة جربت نفسها، اختبرتها قبل أن يصل الشريكان إلى إدراك استحالة حبهما، وقد يكابران ويقاومان ويفتحان كوى في جدران المستحيل يتنفس عبرها حبهما، وقد تذوي قصة الحب المستحيلة تحت ضغط واقع صعب يحاصر المحبين.
لكن في نفس هذين المحبين لا يحضر الشعور المعذب الذي يداهم الشركاء في قصة لم تكتمل، بأن الفصل العذب في الحب ظل بعيد المنال، كأن قصة الحب الناقصة مشروع لم يكتمل، ولكن إعلان نهايته لا يتم.
لا يقال إنه نجح ولا يقال إنه فشل. إنه حائر، غامض، ملتبس، لأننا لا نعرف إذا كان علينا أن نبقى، أو أن علينا أن نرحل؛ لأننا لا نعرف في أي فصل من فصول الحب نحن، أترانا في بدايته التي طالت، أم أننا نعيش خريفه؟
هذا النوع من القصص أشبه برواية ابتدأ مؤلفها في كتابتها وقطع في فصولها شوطا، لكنه لأمرٍ ما لم ينجزها في صورتها النهائية.. لم يصل بالأحداث إلى أقاصيها ونهاياتها، فظلت الرواية حبيسة الأدراج، لكن صاحبها لا يستطيع أن يكون حرًا من التفكير فيها، فهو يظل مشغولاً بأمرها، باحثًا عن الناقص فيها، عن الذي لم يقل، لأن المسائل التي لم تحل هي التي تجعل الذهن في حالة اتقاد دائم. يصح ذلك في الفكر وفي الأدب، ويصح ذلك في قصص الحياة، بما فيها قصص الحب.
هل تتشابه قصص الحب أم تراها تختلف، ألها نفس الأعراض والطقوس والبدايات، أم أن كل قصة حب هي نسيج ذاتها؟!
بوسع الذين وقعوا في الحب أكثر من مرة أن يفكروا في أمر الإجابة عن سؤال مثل هذا، ليلاحظوا أوجه التشابه وأوجه الاختلاف، وليلاحظوا أيضاً ما إذا كان لقصص الحب معراج واحد نقطعه منذ البداية حتى النهاية.. منذ لحظة الرعشة الأولى للقلب، لحظة الخفقان الأول، صعودا إلى ذرى التألق، قبل النزول العكسي إلى وديان التكرار والرتابة والمألوف، إذا لم يشحن هذا الحب بطاقة التجدد، لنحميه من التآكل والتبدد والضياع.
لكن بين هذه القصص تظل القصص غير المكتملة هي السؤال المعلق، سؤال الأسئلة، الذي ما من قاعدة واحدة تحكمها؛ لأننا نعيش عدم اكتمالها، نحسه وندرك ألا فكاك من عدم الاكتمال هذا، لكن لا فكاك من هذه القصص أيضا، إنها تظل ندباً في الروح لأنها لم تكتمل، لكننا لا نحرضها على الذهاب ولا ندعوها للإياب، وتظل علاقتنا بها علاقة ظمآن وعين الماء في متناول البصر، لكن دونه والماء حقل ألغام.
قصص الحب غير المكتملة وجدت لكي لا تكتمل.. قدرها ألا تكتمل!
قد تلتبس قصة الحب غير المكتملة بمشاعر أخرى هي الصداقة العميقة، ومن الأمثلة على ذلك، ما رويناه مرةً عن علاقة الكاتب الأمريكي الشهير آرنست همنجواي مع المطربة الألمانية مارلين ديترش، حيث كان كتاب سيرته يعتقدون، حتى وقتٍ قريب، أن ما كان بينهما هو صداقة عميقة فحسب بين شخصين موهوبين، هو في الكتابة وهي في الغناء.
ولكن أرشيفاً من الرسائل تولت ابنة ديترش نشره كشف أن الأمر يتخطى حدود الصداقة ليبلغ مقام علاقة عاطفية حميمة. يضم أرشيف هذه العلاقة نحو ثلاثين رسالة بالإضافة إلى بطاقة بريدية واحدة وكذلك برقية واحدة قدمت ياسمين مجدي عرضاً لها في أحد أعداد «أخبار الأدب» قبل سنوات.

في إحدى تلك الرسائل كتب همنجواي لمارلين دوتشر يقول: «أحبك وأريد أن احتضنك بقوة وأقبلك. لا أعرف كيف أعبر لك عما أشعر به عندما أضع ذراعاي حولك، فأحس كأنني في بيتي».

هذه الرسالة وسواها بددت الاعتقاد الذي رسخ طويلا عن علاقة الصداقة بين الإثنين، لكن أحد الأصدقاء المقربين من همنجواي وهو الكاتب هوتشنر يؤكد أن الأمر بين العاشقين ظل عند حدود الحب المتوهج الذي لم يبلغ يوماً حد الوصال الحسي، وان همنجواي عبر له عن تعلقه بهذه المرأة قائلا له انه وقع في غرامها حتى لو لم يلتقيا جسديا، قبل أن يضيف: «إن هذا هو حال الحب الذي يأتي في غير وقته».

رسالة أخرى بين الرسائل التي تم نشرها تحمل شحنةً من العتاب لا يكون عادة إلا بين حبيبين، ذلك أن لعتاب الأصدقاء مذاق غير هذا، حين نقرا همنجواي يقول: «إنك تزدادين جمالاً ولسوف يستمرون في عمل الملصقات الكبيرة التي تحمل صورتك ..ماذا تريدين حقاً من عملك، أيرضيك أن تسببي الأذى لقلوب الآخرين لقاء النقود؟.. هذا بالضبط ما تفعلينه معي».

سيتدارك همنجواي في رسالة قادمة ما صبه من غضب في الرسالة السابقة، لكن دون أن يتراجع عن رأيه في القضية التي أثارت غضبه من محبوبته، ولا نعرف كنهها. سيقول في الرسالة التالية: «ابقِ غاضبة مني كما تشائين، لكن يجب أن تكفي عما تفعلينه لأنه لا يوجد منك إلا واحدة في العالم لن تتكرر، ولكم اشعر بالوحدة حينما تغضبين مني».

بدأت هذه العلاقة الجذابة والتي لا تخلو من تعقيد بين الإثنين حينما التقيا أول مرة عام 1934.
ستكون هذه واحدة من أجمل العلاقات في حياة همنغواي وأكثرها غموضاً، ويبدو أن غالبية الرسائل موضوع الحديث كتبها همنجواي فترة إقامته في كوبا، حيث كتب هناك «الشيخ والبحر».

وفي إحدى الرسائل يكتب لها عن معاناته في كتابة هذه القصة التي استقرت في الحيز المضيء من تاريخ الأدب الإنساني، حيث قال انه يستيقظ في الخامسة أو السادسة صباحا كل يوم ليباشر الكتابة لكنه لا يستطيع !

ورغم أنه لم يكن يكبرها في العمر إلا بثلاثة أعوام حين التقيا، حيث كان هو في الخمسين فيما بلغت هي السابعة والأربعين، إلا أنه كان يبدأ خطاباته إليها بالقول: «يا ابنتي»!

حكاية مثل هذه، يمكن أن تندرج في سياق قصص الحب التي لم تكتمل، تذكرنا بما جاء في السطور الأولى من السيرة الذاتية لبرتراند راسل، حين قال: «ثلاث عواطف بسيطة لكنها بالغة القوة هي التي حكمت حياتي: الحنين إلى الحب، البحث عن المعرفة، وإشفاق لا حدود له على الإنسان في معاناته».
سيواصل راسل القول ليلاحظ أن هذه العواطف قد فعلت به ما تفعله الريح العاتية، عصفت به هنا وهناك في طريق لا يستقر له قرار فوق محيط زاخر الأعماق بالألم، حتى لقد وصلت به إلى حافة اليأس والضياع أو كادت.. وبقدر ما تمكن من الحب والمعرفة فقد وجدهما يرقيان به إلى عنان السماء لكن الإشفاق كان يرده دائمًا إلى الأرض.

كانت أصداء صرخات الألم تجد لها رنيناً في قلبه، فكان تواقاً إلى تخفيف الألم، لكنه عجز ومضى هو نفسه يعاني، هكذا كانت حياته، وقد وجدها جديرة بان تُعاش، بحيث وجدناه يقول: «يقول لو أنني منحت فرصة أخرى لعشتها مرة أخرى، سعيدًا بها».
________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *